جمال العربية

جمال العربية

تجليات بيان لا يغيب

كان جمال العربية على ألسنة الناطقين بها ـ منذ أقدم العصور حتى اليوم ـ باباً للخلاص من الشدائد والنجاة من المواقف الصعبة, وكان يكفي أن يتكلم البليغ بما يُحْسنُ, والشاعر بما يُبدع والكاتب بما يجيد, حتى تسترق القلوب والعقول, وتميل النفوس والأرواح, مشربة بأقباس من هذا البيان الجميل والتعبير المحكم والبلاغة الساحرة.

وبالرغم من تغير الأذواق في نظرتها إلى جمال العربية, من عصر إلى آخر, فإن كيمياء هذه اللغة وسحرها بقي نفاذاً وفاعلاً, مادام اللسان الذي ينطق به, والقلم الذي يخطه, قادرين على أن يمتحا من ماء القلب ليصلا إلى صميم القلوب التي تستمع وتقرأ, وتتأمل وتتذوق, وتحلل وتفسّر, وتلتقي ـ بالرغم من تباعد الزمان والمكان ـ عند جمال العربية, الذي سنطالع تنويعات له في هذه السطور الكاشفة عن مواقف مختارة, وتجليات بيان لا يغيب.

تميم بن جميل ومواجهة الموت:

جاء في كتاب (العقد الفريد) لابن عبدربه ـ المتوفى سنة ثلاثمائة وثماني وعشرين ـ تحت عنوان (الحكاية الآتية الدالة على ثبات الجأش):

قال أحمد بن أبي دُواد: مارأينا رجلاً نزل به الموت, فمـا شغله ذلك ولا أذهله عما كان يحب أن يفعله إلا تميم بن جميل فإنه كان تغلّب على شاطئ الفرات, وأوفى به الرسول باب أمير المؤمنين المعتصم في يوم الموكب حين يجلس للعامة. ودخل عليه فلما مثل بين يديه دعا بالنطع والسيف, فأحضرا, فجعل تميم بن جميل ينظر إليهما ولا يقول شيئاً وجعل المعتصم يصعد النظر فيه ويصوبه, وكان جسيماً وسيماً. ورأى أن يستنطقه لينظر أين جنانه ولسانه من منظره, فقال: (يا تميم إن كان لك عذر فأت به أو حجّة فأدْل بها.

فقال جميل: أما إذ أذن لي أمير المؤمنين فإني أقول: الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه. يا أمير المؤمنين إن الذنوب تُخرس الألسنة وتصدع الأفئدة, ولقد عظمت الجريرة وكبر الذنب وساء الظن ولم يبق إلا عفوك أو انتقامك, وأرجو أن يكون أقربهما منك وأسرعهما إليك أولاهما بامتنانك, وأشبههما بخلائقك. ثم أنشأ يقول:

أرى الموت بين السيف والنطع كامناً

 

يُلاحظني من حيثما أتلفتُ

وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي

 

وأي امرئٍ مما قضى الله يُفلتُ?

ومن ذا الذي يُدلي بعذّرٍ وحُجّة

 

وسيف المنايا بين عينيه مصلتُ?

يعزُ على الأوس بن تغلب موقفٌ

 

يُسل عليّ السيف فيه وأسكتُ

وما جزعي من أن أموت وإنني

 

لأعلم أن الموت شيء مُؤقتُ

ولكن خلفي صبية قد تركتهم

 

وأكبادهم من حسرة تتفتتُ

كأني أراهم حين أُنعى إليهمو

 

وقد خمشوا تلك الوجوه وصوّتوا

فإن عشتُ عاشوا خافضين بغبطة

 

أذود الردى عنهم وإن متُّ مُوِّتوُا

فكم قائل: لا يبعد الله روحهُ

 

وآخر جذلان يُسرّ ويشمتُ

قال: فتبسم المعتصم, وقال: كاد والله يا تميم أن يسبق السيف العذل, اذهب فقد غفرت لك الصبوة وتركتك للصبية.

من زبيدة إلى المأمون:

بعد موت هارون الرشيد ـ الخليفة العباسي الشهير ـ دب الصراع بين ابنيه: المأمون والأمين وانتهى بمقتل (الأمين). فبعثت أمه زبيدة بهذه الرسالة الدامية, المتوهجة بروح الأمومة, والمتشحة بجمال البيان إلى (المأمون) تستعطفه وتسترحمه وتدعوه أن يضرب صفحاً عما كان.

تقول زبيدة: كل ذنب يا أمير المؤمنين وإن عظم, صغير في جنب عفوك, وكلّ زلل وإن جّل حقير عند صفحك. وذلك الذي عوّدك الله فأطال مدتك وتمم نعمتك وأدام بك الخير ورفع بك الشر. هذه رقعة الواله التي ترجوك في الحياة لنوائب الدهر وفي الممات لجميل الذكر. فإن رأيت أن ترحم ضعفي واستكانتي وقلة حيلتي وأن تصل رحمي وتحتسب فيما جعلك الله له طالباً وفيه راغباً فافعل وتذكّر من لو كان حيّاً لكان شفيعي إليك.

طارق بن زياد وفتح الأندلس:

هي الخطبة المشهورة التي ألقاها طارق بن زياد ـ المتوفى سنة ثلاث وتسعين هجرية ـ في جنوده المسلمين, وهو يحثهم على الجهاد ويرغبهم في فتح الأندلس, ويكشف لهم عن عظم المهمة وجسامة المواجهة في صدق وصراحة نادرين, ويفعل الكلام في جنود طارق فعل السحر, وتصبح تجليات البيان عوناً على تجليات البطولة والانتصار.

حمد الله وأثنى عليه ثم قال:

أيها الناس أين المفر? البحر من ورائكم والعدو أمامكم, وليس لكم والله إلا الصدق والصبر. واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام, وقد استقبلكم عدوكم بجيشه وأسلحته وأقواته موفورة وأنتم لاوزر لكم إلا سيوفكم ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم. وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمراً ذهب ريحكم وتعوّضت القلوب من رعبها منكم الجرأة عليكم. فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة. وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت. وإني لم أحذركم أمراً أنا عنه بنجوة ولا حملتكم دوني على خطة أرخص متاع فيها النفوس. أبدأ بنفسي. واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلاً استمتعتم بالأرفه الألذ طويلاً فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي فما حظكم فيه بأوفر من حظي. وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الخيرات العميمة, وقد انتخبكم الوليد بن عبدالملك ـ أمير المؤمنين ـ من الأبطال عرباناً, ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهاراً وأختانا, ثقة منه بارتياحكم للطعان, وسماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان, ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته وإظهار دينه بهذه الجزيرة وليكون مغنمها خالصا لكم من دونه ومن دون المؤمنين سواكم, والله تعالى ولىّ إنجادكم على ما يكون لكم ذاكراً في الدارين.

النابغة الذبياني والنعمان:

ولقد كان جمال العربية وبيانها الساحر سلاح النابغة الذبياني وهو يحاول التبرؤ إلى النعمان بن المنذر من وشاية دبرها الوشاة, وأوقعوا بين النعمان والنابغة, فالنابعة إذن في موقف من يعتذر ويطلب العفو والصفح, ثم هو ينتهز الفرصة ـ في التقرب إلى النعمان ـ بمدحه وإضفاء هالات الثناء عليه, وعّدته في كل ذلك بيان بليغ وشعر آسر. يقول النابغة:

أتاني ـ أبيت اللعن ـ أنك لمتني

 

وتلك التي أهتم منها وأنصب

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة

 

وليس وراء الله للمرء مذهبُ

لئن كنت قد بُلغت عني خيانةً

 

لمُبلغك الواشي أغش وأكذبُ

ولكنني كنت امرأ لي جانب

 

من الأرض فيه مُستراد ومذهب

ملوك وإخوان إذا ما أتيتهم

 

أحكم في أموالهم وأقربُ

كفعلك في قوم أراك اصطفيتهم

 

فلم ترهم من شُكر ذلك أذنبوا

فلا تتركني بالوعيد, كأنني

 

إلى الناس مطلي به القارُ أجربُ

ألم تر أنّ الله أعطاك سورةً

 

ترى كل ملك دونها يتذبذبُ

فإنك شمس والملوك كواكب

 

إذا طلعت لم يبدُ منهم كوكب

ابن زيدون وولادة

ويستوقفنا موقف أخير نؤكد به جمال العربية وروعة تجلياتها ـ خاصة عند الشدائد والأزمات ـ عندما يصبح البيان الآسر سلاحاً والتعبيرُ الجميل شركاً والشعر البديع طباً للقلوب والأرواح, يستميل ويستعطف. من خلال قصيدة شهيرة للشاعر الأندلسي ابن زيدون ـ هي نونيته الذائعة الصيت ـ وأبياتها التي يتجه فيها بالخطاب إلى ولادة بنت المستكفي, مذكراً ومعاتباً, ومستعطفاً ومسترحماً.

يقول ابن زيدون:

يا ساريَ البرق غاد القصر فاسق به

 

من كان صرف الهوى والود يسقينا

ويانسيم الصبا بلغ تحيتنا

 

من لو على البعد حيا كان يُحيينا

ويا حياة تملينا بزهرتها

 

منى ضروباً ولذات أفانينا

ويانعيماً خطرنا من غضارته

 

في وشي نعمى سحبنا ذيلها حينا

لسنا نسميك إجلالاً وتكرمة

 

وقدرك المعتلى عن ذاك يُغنينا

إذا انفردت وما شوركت في صفة

 

فحسبنا الوصف إيضاحاً وتبيينا

يا جنة الخلد أبدلنا بسلسلها

 

والكوثر العذب زقوماً وغسلينا

كأننا لم نبت والوصل ثالثنا

 

والسعد قد غض من أجفان واشينا

سران في خاطر الظلماء يكتمنا

 

حتى يكاد لسان الصبح يفشينا

إن كان قد عز في الدنيا اللقاءُ ففي

 

مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا

لا غرو في أن ذكرنا الحزن حين نهت

 

عنه النهى, وتركنا الصبر ناسينا

إنا قرأنا الأسى يوم النوى سوراً

 

مكتوبة, وأخذنا الصبر تلقينا

أما هواك فلم نعدل بمنهله

 

شربا وإن كان يُروينا فيظمينا

 

فاروق شوشة