فلسفة الكراهية: العلاقة المشوهة بالآخر

فلسفة الكراهية: العلاقة المشوهة بالآخر

صارت الكراهية في بعض النفوس عقيدة يمنع أن تمس أو تناقش أو توضع موضع المساءلة والاستشكال، لكن هذا المقال يمضي في الاتجاه المعاكس، ويفتح ملف هذه الفلسفة باحثا عن جذورها.

هل الكراهية والبغضاء فضيلة أخلاقية أو عقلية أو اجتماعية، مهما كانت لدى بعض الناس ظاهرة نفسية؟.

هل هي أمة محظوظة تلك الأمة التي تنشئ أجيالها وأطفالها على كراهية الآخر وسوء الظن به، بعد أن زرعت في عقولهم وقلوبهم أي في قلوب وعقول أطفالها وأجيالها أنهم مبغوضون منه؟.

هل يمكن أن تجتمع الكراهية لفرد أو جماعة أو مذهب، أو موقف مع صواب وعدالة النظر إلى هذا الفرد أو الجماعة أو المذهب أو الموقف؟.

هل يمكن أن يكون الكاره المبغض لشيء متجردا أو نزيها أو عادلا في موقفه من هذا الشيء ونظرته إليه وحكمه عليه؟.

هل سيرى الكاره لشيء المبغض له مزايا هذا الشيء وحسناته كما يرى عيوبه وذنوبه ونقائصه؟.

هل ستكون قراءة المبغض لذات أو أفكار أو مواقف من يبغض قراءة الباحث عن الحق العاشق له المتعطش إليه؟.

هل البغض للآخر شيء في طبيعة النفوس يوجد فيها ويخلق معها كما يوجد النبات الشرير، ينبت بلابذور ويحيا بلا جذور، أم هو ميل واستعداد تنمية وتغذية غواية أو دعاية في نفس غير سوية قدر لها أن تكون في موضع قيادة أو ريادة، أم هو شيء تصنعه الغواية والدعاية، أي هل هو جزء من الذات ـ أي بعض الذوات ـ يوجد في تكوينها أم هو شيء ساقط عليها من خارجها، ماذا لو أن علماء النفس والطب والاجتماع درسوا هذه الظاهرة ليتبينوا مدى الصحة والصدق في ما لاحظه المتنبي عندما قال:

والظلم من شيم النفوس فان تجد

ذا عفة فلعلة لا يظلم

وإذا كان الظلم لا يأتي من محب فهل من سبب له أكبر من سبب الكراهية؟ ماذا لو ساد في الناس دفء المحبة بدل صقيع البغضاء وحلت فضيلة التسامح محل رذيلة المعاداة، ونبل الباحث عن عذر لمن يخطىء أو يخالف محل الباحث عن مبارزته.

إذا كانت محبة الأهل أو الجار أو القريب فضيلة من فضائل النفس الإنسانية ترقّ بها وترقى، فهل كره البعيد والمخالف هو الوسيلة المثلى لتحويل كراهيته إلى محبة ومخالفته إلى موافقة ومعاداته إلى مصافاة.

ماذا لو بحث الناس عن أسباب وقوع سواهم في الخطأ أو مخالفتهم لهم، في طبيعة بعض البشر بما جبلوا عليه من نقص، لا بسبب إرادة الشر لديهم لو ملكوا حرية الاختيار؟.

ماذا لو أخذ الناس بالقول المنسوب إلى عمر رضي الله عنه "أعقل الناس أعذرهم للناس" ماذا لو بلغ الناس هذا الأفق الإنساني النبيل، هل ستقوم كل هذه الحروب وتقع كل هذه المآسي وتراق كل هذه الدماء، وتجري أنهار من الدموع لو كان الناس أكثر توادا وتسامحا، بل لو كانوا أطوع لصوت العقل وقانون الأخلاق؟

هل هم طيبون وصالحون أولئك الذين يجدون أفضل العمل تأصيل العداء وتقنينه والدعوة إليه؟.

من المؤكد أنه يوجد في الناس من يقول إن الأخذ بما تقدم لا يعدو كونه نوعا من الورع الأخلاقي أو الاجتماعي أو الديني، يجهل واقع الناس أو لا يتعامل معه، وقد يكون في هذا القول شيء من الصحة، أو ما يستحق أن يوقف عنده أو ينظر إليه، لولا أن تاريخ البشر لم يسفر عن شيء في ديمومة وإلحاح كما أسفر عن واقع كشف أن أكبر العوامل التي حصدت بسببه نفوس، وأريقت دماء وأزهقت أرواح، هو عامل الكراهية على مدى التاريخ، وأن فرسان الكراهية لم يجدوا وقودا أفعل ولا سلاحا أقتل من النار التي تشعلها الكراهية وتتغذى بها، أو السلاح الذي تكون الكراهية ذخيرته؟.

أليست هي الوقود الذي اختاره نبوخذ نصر وتيتوس ونيرون وهولاكو وجنكيز خان وهتلر وستالين وبيريا وكاردافيتش، وميلوسيفيتش وسواهم من فرسان الكراهية على امتداد التاريخ.

لقد كانت الكراهية هي النار والوقود والسلاح والذخيرة التي فتك بها أو بسببها أعداء البشر بضحاياهم وأبادوهم، أو قهروهم، أو سلبوا حقوقهم، أقبلوا على ذلك وصنعوه بكل التلذذ به والشهوة فيه والافتخار به والتسابق إليه، وليست الحروب الصليبية وهمجية التتار، وحروب الأعوام المائة، ومحاكم التفتيش، والحربان الكونيتان الأولى والثانية، وجرائم الصرب في البوسنة، وما صنعه ميلوسيفيتش وقواته بالألبان في كوسوفا إلا أمثلة لما تختزنه نفوس بعض البشر من شرور وآثام أشعلتها الكراهية بسبب العرق أو الدين أو رفض الآخر الفناء والذوبان.

أسباب أم أمراض؟

ما أسباب الكره للآخر، هل هي أسباب توجبها وتؤججها دوافع إنسانية أم عقلية أم أخلاقية أم دينية، أم أنها وسيلة يوظفها فرد أو أفراد بسبب مطامحهم أو مطامعهم أو أمراضهم النفسية العاشقة للسيطرة والتفرد والظهور فتنتقل هذه الإصابة أو ينقلونها إلى مجتمعهم بما يُغمر به هذا المجتمع في ديمومة وضجيج وإلحاح دعوة إلى الكراهية وتشريعا لها.

لقد اختلفت وسائل ووسائط النشر والنقل والاتصال لدى البشر على مر العصور، كما تغير نمط حياتهم ومستواهم المعرفي والحضاري ولكن فئة منهم أو فئات لاتزال تختزن في داخلها مخزونا متوحشا من ماضيها البعيد.

إذا كانت الكراهية خبزا عالميا تقتات به معظم الشعوب، مهما كانت ثقافتها أو معتقداتها، فإن درجة حدة الكراهية وانتشارها، وما تحتله من مساحات في النفوس والوجدان تختلف من أمة إلى أخرى، كما تختلف باختلاف الثقافات الموروثة الحاملة والحافظة لذاكرة التاريخ، واختلاف مكان الأمة أو المجتمع من حيث الضعف أو القوة والقدرة على مواجهة الأحداث أو العجز عن مواجهتها، إذ إن الكراهية في أغلب حالاتها وبواعثها تكون الوسيلة التي يلجأ إليها الفرد أو المجتمع عند العجز عن سواها من الوسائل التي هي أنفع وأنجع في المواجهة والمعالجة.

الحديث عن الكراهية من حيث هي غريزة في نفوس بعض البشر يستدعي مستوى من التجريد يحوله من معالجة واقع إلى تحليق في فضاء، أو يستدعي من التعميم ما يتعارض مع خصوصية المشكلة التي من أغراض هذه الوقفة الداعية إلى التأمل والمراجعة ـ معالجتها، وتحويل هذه من التجريد إلى الواقع ومن النظرية إلى التطبيق يستدعي: دراسة حالة، إذا أخذناها من واقع المسلمين لأنهم في الظاهرة المدروسة ليسوا استثناء من الناس، وأن الانشغال بأمرهم أوجب من الانشغال بسواهم، فإننا نجد أن هذه الظاهرة الآنف ذكرها تتجلى لدى بعض المسلمين على مستويين، أحدهما علاقة المسلم بمثله، والثاني علاقته بالآخر. ولعل استعراض هذه العلاقة على المستويين يظهر ما في هذه العلاقة من خطأ أو صواب، هداية أو غواية، وما سيأتي في السطور التالية هو اجتهاد مجتهد معايش لحال أمته لا يستطيع أن يكف نفسه عن التألم لألمها، كما لا يستطيع أن يفصل ذاته عن واقعها، على أنه ينأى بنفسه عن أن يزعم الانفراد بسداد الرأي او امتلاك كل الحقيقة.

التماس

الحديث عن هذا الموضوع في موضوعية وتجرد يحتاج الى قدر من المغالبة لما أحبته النفوس لطول الألفة وما تشربته العقول لدوام التلقين، وما اعتاده السمع لكثرة ما يردد.

ابتداء يبنغي أن نعرف ذلك "الآخر" الذي نتحدث عنه أو نشير إليه تعريفا يحدده، وأحسب أنه غني عن القول أن "الآخر" الذي يقفز إلى الذهن من مخزون الذاكرة والوجدان هو الغرب، فنحن ـ المسلمين ـ لا نشعر بنفس الشعور المشحون بالشك وسوء الظن والتوجس تجاه الأمم الأخرى المخالفة لنا في عقيدتها أو نظامها السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي مثل الهند والصين واليابان وسواهم، أو لا نشعر بدرجة مساوية لما نشعر به تجاه الغرب، وذلك أمر يمكن أن يُفهم في ضوء علاقة التماس بين المسلمين والغرب، وهي علاقة لم توجد مع سواه، هذه العلاقة ذات جذور تمتد في الماضي لاتدعو إلى الاطمئنان، كما أن لها نتوءا في الحاضر يمنع من المصافاة.

جذور الماضي هي الحروب الصليبية والاستعمار، والنتوء الحاضر هو موقف الغرب ـ والولايات المتحدة بشكل أخص ـ من العرب وإسرائيل. هذه الينابيع الثلاثة تكفي لسقي بذرة الكراهية واستدامتها لو كانت الكراهية وسيلة ذكية وناجعة لحل المشاكل ومواجهة الظروف والأحداث، ولكن الكراهية ليست كذلك، لأن "شر السلاح الأدمع" من ناحية، ومن ناحية أخرى، لأن إعادة النظر في ذلك التاريخ في حضور من ظروفه وملابساته وأسبابه قد تقود إلى نظرة هي غير ما ننظر، وتؤدي إلى موقف غير الموقف الذي نقف فيه.

وللحروب الصليبية في ذاكرة المسلمين، وفي ذاكرة الغرب ـ على درجة مماثلة أو مقاربة ـ مكان مملوء بصور مفزعة، وقد تأصلت هذه الصور واتسعت المساحة المعطاة لها لطول الحقبة التي بقيت فيها كرة نارية متبادلة خلال قرون وعلى عدة جبهات من المواقع: ولكن هل هو مما يجب، بل هو مما يجوز أن تتحول هذه الذكرى إلى إرث أبدي لا يبدده تعدد الورثة ولا تعاقب الأجيال، هل هو مما يجب، بل هل هو مما يجوز أن نبني مواقفنا في الحاضر على ذاكرتنا عن الماضي.

هل مما ينفعنا أن نستعيد ذلك الماضي مجردا عن ظروفه ومفاهيمه وما أحاط به من مناخ، هل هومما يجوز أن يكون موقفنا ـ الموروث ـ من الغرب الصليبي، عندما كانت تتنادى أممه لغزو المسلمين، وتملأ صدور أفراده بالكراهية لهم، وتغذي عقولهم بتشويه صورة الإسلام، ويبذلون كل ما يستطيعون لصد دعوته ومنع نشر رسالته، هل يجوز أن يكون ذلك الموقف هو موقفنا الآن من الغرب اليوم، وقد جعل أبوابه بلا مصاريع يدخل منها إلى بلاده آلاف الدعاة للإسلام يبلغون دعوته وينشرون رسالته، وأقيمت على أرضه مئات المنشآت الإسلامية من المساجد والمدارس والمراكز، ويستقبل من أعلام المسلمين ويحمي من تهددهم بلادهم وتهدر دمهم حكوماتهم عددا غير قليل، ودخل الإسلام من الغربيين آلاف، لا يعرف أن واحدا منهم هدد في حياته، أو حورب في رزقه، أو فصل من عمله.

قد يكون مما يجلي الصورة أن نسأل هذا السؤال: "هل سيبقى أثر الحروب الصليبية في نفوسنا على ما هو عليه لو استحضرنا ذلك الماضي، أو تصورناه بل وحاكمناه متذكرين أن الحروب الصليبية ليست حالة شاذة ولا حدثا فريدا خصت به العلاقة بين المسلمين والنصارى في تاريخ الشعوب والمجتمعات، وأن المنازعات والاقتتال صفحات منقوشة في تاريخ كل البشر؟

وإذا كان مما يجوز القول إن ما حدث من المسلمين هو رد فعل لاحق وليس فعلا بادئا، فإنه مما يجب أن نتذكر أن الحروب كانت طريق الأمجاد أو الاستشهاد لدى كل الأمم، وأنه ما جلل البشر، أحدا بمطارف المجد كما جللوا أفرادا عرفوا باسم الفاتحين من عهد الإسكندر المقدوني حتى مجيء نابليون بونابرت.

من هذا المنطلق والواقع جاء الاختلاف والتباين بين الإيحاء والدلالة التي يشعر بها المسلمون في اللقب الذي خلعوه على السلطان العثماني محمد "الفاتح" رحمه الله، وبين ما يشعر به تجاه هذا اللقب أهل باريس وروما واليونان.

هل سينظر الآخرون كما ننظر أو يحسون بما نحس في قول أبي تمام:

تسعون ألفا بحد السيف قد نضجت

جلودهم قبل نضج التين والعنب

قد حسم المتنبي هذا الاختلاف بقوله:

كذا قضت الأيام ما بين أهلها

مصائب قوم عند قوم فوائد

والمتبني صاحب هذا القول لم يجد شيئا أعلى في سلم مدحه لسيف الدولة من قوله:

أخو غزوات ما تغب جيوشه

بلادهم ألا وسيحان جامد

تظل الحصون المشمخرات في الذرى

وخيلك في أعناقهن قلائد

فلم يبق إلا من حماها من الظبي

لمن شفيتها والثدي النواهد

تبكي عليهن البطاريق في الدجى

وهن لدينا ملقيات كواسد

كذا قضت الأيام ما بين أهلها

مصائب قوم عند قوم فوائد

لقد كان الاقتتال العامل الحاسم بين المتنافسين، وكان مجال الانتصار والافتخار. لقد وقع بين الأمة الواحدة لدى المسلمين، كما وقع بين القبيلة الواحدة والعشيرة الواحدة من العرب، ووقع الاقتتال وبصورة أعنف بين الطائفتين الرئيسيتين في المسيحية، فحرب الأعوام المائة لم تكن بين النصارى والمسلمين وموقعة "واترلو" لم تقع بين عاصمة غربية وأخرى إسلامية، ومحاكم التفتيش أقيمت لاتباع إحدى الطائفتين المسيحيتين، وكثرة من أعلام التفكير والتنوير في أوربا أحرقوا أو قتلوا أو شردوا أو قهروا بسبب خروجهم على قهر كهنوت الكنيسة، ولرفضهم فرضها لنفسها حق التفرد بفهم كلمة الله وتفسيرها لها وحرمان من سواهم من أي حق غير حق الانصياع والاتباع.

حروب الغرب ضد الغرب

الحربان الكونيتان التي حصدت ملايين البشر ليست حروبا بين المسلمين والمسيحيين، وليست بواعثها ثأرا موروثا بين الديانتين، لقد انبعثت هاتان الحربان الفريدتان في بشاعتهما وشناعتهما من الغرب، واحترق بنارها أهله، وكان أكثر حصادها الوبيل من الغربيين أنفسهم لا من سواهم، إلا أن هذا التاريخ الطويل من شلالات الدم وأهرام الجثث ومحارق الأجساد لم تجعل المتقاتلين يسمحون لأنفسهم أن يقعوا أسرى ذلك التاريخ. لقد حولوا تلك الأحداث إلى متاحف للآثار لا يزورها إلا من يريد ان يرصد تطور البشر، أو من يريد أن يتغذى بأليم الذكريات. إنهم لم يجعلوا هذه الأحداث ـ على بشاعتها وشناعتها ـ نداء من الماضي يحكم الحاضر ويوجهه، لقد تحولت المحاربة إلى مصاحبة، والافتراق الى اتفاق أدى إلى وحدة أو اتحاد. لقد تبينوا أنه ليس رشيدا من يريد بناء واقع جديد على أساس قديم، ويستفتي في تعامله مع الآخر التاريخ لا الواقع، والتذكر لا الممارسة.

على أن ما تقدم لا يعني أن نقيم على مشاعرنا وذاكرتنا حجابا يسد كل نافذة نطل منها على التاريخ، وإنما يعني ألا يكون التاريخ هو المرجع الوحيد الذي نستفتيه في تعاملنا مع الناس وموقفنا من الأحداث.

وتحمل محفظة الذاكرة لدى الفرد العربي من الصور المثيرة لمشاعر الانفعال عن الاستعمار مثل ما تحمل عن الحروب الصليبية، وقد جاء التخصيص للفرد العربي لأن لبقية المسلمين من هذه القضية موقفا مختلفا عن موقف العرب. والاستعمار في خلد الفرد العربي هو النبع الثاني الذي يسقي بذرة الكراهية. ولعله مما لا يحتاج إلى تأكيد القول أن مظالم الاستعمار ومآثمه ستبقى معلما بارزافي مسار التاريخ، ومثلا حاد الدلالة على البشاعة التي تنطوي عليها نفوس بعض البشر، وإذا كان ما ألحقه الإيطاليون والفرنسيون بالمغرب العربي ـ بكل أبعاده ـ ينهض دليلا على أن بعض النفوس تولد وفي طبعها أنياب الوحوش، فإن ما ألحقته ألمانيا وفرنسا وبريطانيا خاصة بالصينيين فيما يعرف بحرب الأفيون سيبقى شاهد إثبات يسقط ادعاء البشر ـ أي بعضهم ـ لأنفسهم احترام الحق والميل إلى العدل والانصاف للآخر فضلا عن الإيثار له.

لقد حولت هذه الدول ملايين البشر في الصين إلى "أشياء" تستخدمها لزيادة ثروتها ومد سيطرتها، وأجبرتهم على أن يكونوا سوقا تقتات بالسموم وتعيش عليها، وصار لهذا المسلك الذي يستجيز فيه صنف من البشر استعباد صنف آخر أو استغلاله أو السيطرة عليه "مجدا" له دعاته وفلاسفته والمنظرون له من أمثال ستيورت مل، وجول فيري، كما كان له دهاقنته المخططون له والمنفذون من مثل بالمر ستون، والمارشال بوجو، والجنرال جيرا رد. وقائمة طويلة ممن كتبوا صفحات أو سطوراً في هذا الكتاب.

ليس خطأ ـ إذن أن نعرف ذلك وأن نتذكره، وألا نجعله مما يُهمل أو يُغفل في تعاملنا مع صانعيه، ولكن الخطأ أن نجعل ذلك هو الأرض الوحيدة الصالحة لبناء علاقتنا مع الآخر مع تغير الظروف والملابسات والمفاهيم، أو أن نجعله وحده علة ما أصاب ويصيب العرب والمسلمين من هوان وهزائم ونكبات.

في ظل واقعنا الكئيب جعلنا كلمة "الاستعمار" جوابا لكل سؤال مهما كانت صعوبته، ولباسا لكل حالة مهما كان مقاسها، وحلا لكل معادلة مهما كانت درجتها، لقد أدمنا ترديد ذلك وأطلنا الحديث عنه والتدليل عليه وضعنا لذلك كل ما نعرف من طرق التعليل والتحليل والاستدلال والاستنتاج، لقد أقمنا بهذا التلقين والتتابع سدا منع كل منافذ الحركة والارتياد بحثا عن سبب آخر لما نحن عليه من حال.

إننا لم نتوقف لحظة واحدة لنسأل: هل الاستعمار نتيجة أم مقدمة، هل هو شيء سبق ضعف العالم الإسلامي والوطن العربي أم أنه جاء نتيجة لضعف العرب والمسلمين. هل تمكن الغزو الغريب من البلاد العربية والمسلمة وهي قوية ومتفوقة، وإذا كان الأمر كذلك فكيف انتصر الغزو على قوي ومتفوق، بل كيف ولماذا لم يحدث العكس.

المتأمل لهذا الموقف الباحث عن أسبابه وبواعثه لابد أن يُصدم بأمور ثلاثة:

الأول: نظرة تخلط بين النتائج والمقدمات، وتضع عرض الحدث ومظهره موضع أسبابه وجوهره.

الثاني: الإعلان الضمني عن شهادة براءة للذات ترددها كل الألسنة والمنابر والأقلام مسقطة أي تبعة يمكن أن تنسب إلى الذات في صنع هذا الواقع ومسئوليتها عنه، وصادة أي محاولة لإعادة النظر فيما ألفنا من المواقف والأفكار.

الثالث: إجهاض أي توجه للبحث عن أسباب أخرى أو علل لعلها أبلغ أثرا وخطرا في صناعة هذا الواقع الأليم وديمومته. هذه الوقفات الثلاث لا ينبغي أن تفهم على أنها إسقاط لتبعة الاستعمار أو نفي لما ألحق بالشعوب التي ابتليت به، ولكنها تعني وضع هذا العامل في موضعه الصحيح من سلم السقوط الذي انحدر وينحدر إليه هذا الجزء من العالم.

الاستعمار هو "الفيروس" الذي أصاب الجسم بعد أن فقد أو ضعفت فيه عوامل المناعة، وهو فقد أو ضعف سابق للإصابة وليس لاحقا بها.

الاستعمار ليس إلا الاسم الجديد الذي عرف في القرنين الماضيين لما في طبيعة كثير من البشر من سعي لمغانم وحب لسيطرة وبسط لنفوذ، إلا أنه ـ أي الاستعمار ـ سيل لا يتجه إلا حيث يجد منخفضا من الأرض ينحدر إليه.

لقد حل بكثير من الأمم فاستطاعت التخلص منه ورفضت أن تجعله بعد رحيله شبحا تنسب إليه أو تفسر به أمراضها الذاتية الصانعة لما هي عليه من حال.

العالم العربي كثير الشكوى بل والأنين من التقسيم والحواجز والحدود التي وضعها الاستعمار في الوطن العربي، وهذا حق، ولكن الحق كذلك أنه ليست بوارج الاستعمار ولا مدافعه هي الحارس الذي يحمي هذه الحواجز والحدود، يستبقيها ويقويها ويجعل تبديلها أو تحويلها أمرا يوجب الاقتتال أو المعاداة.

إعطاء شهادة براءة للذات تعلن عن نفسها غريزة عند بعض البشر وتبدو واضحة عند الأعراب أكثر من وضوحها لدى المجتمعات الأكثر تحضرا وقدرة على نقد الذات. هذه الغريزة لا تستغني عن مشجب تعلق عليه وتنسب إليه كل أخطائها وآرائها، فإذا رحل الاستعمار فلابد من البحث عن بديل يؤدي خدمته، لذلك استولد الاستعمار الراحل مولودا جعلناه علة استمرار هذا الوضع وبقائه والحراسة له، هذا المولود عُرف تعريفا معجميا تردده المحافل والحناجر والأقلام، وكل وسائل النشر والتلقين بنفس الديمومة والإلحاح.

لقد وجدنا في هذا المولود السعيد الجواب لكل سؤال مهما دق، والرد على كل استفهام مهما أشكل، والتعليل لكل حدث مهما عظم، هذا المولود "النظرية" هو المؤامرة.

لقد صارت هذه الكلمة نظرية تحشد لها كل المفردات من معاجم السياسة والدين والاجتماع، وصار لهذه الكلمة أحبارها وشراحها والواضعون لها الحواشي والمتون والشروح والتعليقات، وإذا كان الاستعمار هو الصانع الوحيد ـ ابتداء ـ لما عليه العرب وبقية المسلمين من ضعف وتشرذم وتخلف، فإن المؤامرة هي السر الصانع لبقاء وديمومة وتوطين هذه الحال، إنها الحارس الأمين لها وعليها.

المؤامرة: هي الحاجز الصاد لكل نسمة والقيد المانع لكل حركة واللجام الكابح لكل انطلاقة. لقد خطط أعداؤنا لهذه المؤامرة وأوقعونا في شراكها وأحكموا علينا حلقاتها فلم نستطع الحراك.

لقد كررت هذه المقولة بكل الضجيج والإصرار حتى ليخيل للمرء أن الغرب قد عطل كل اهتماماته وكشوفه وبعثاته الآلية والبشرية إلى خارج هذا الكوكب، وانشغل عن كل الأخطار التي يخشاها ويعد لها ليفرغ لمصدر وحيد يهدد أمنه العسكري والسياسي والاقتصادي ويدمر ثقافته وحضارته، ذلك المصدر المهدد هو العرب والمسلمون، وفي هذا الوضع الذي يحجب الرؤية بضباب المحاكاة والانفعال، لم نقف لنسأل: هل استطاع العرب والمسلمون مجتمعين أن يثأروا لأنفسهم في حق سُلب ووطن اغتصب وشعب منذ نصف قرن يعاني التشريد ويمارس بعض زعمائه استرداد حقه عن طريق التسول والاستعطاف.

المطلقون لهذه المقولة "النظرية" لم يسألوا أنفسهم ولم ينتظروا أن أحدا يمكن أن يسأل عن أي قرية في العالم الإسلامي والبلاد العربية أو مدينة أو قطر أو دولة تمثل أو يمثل خطرا عسكريا أو اقتصاديا أو سياسيا على الغرب.

لقد أعد الغرب مخزونا نوويا ووسائل حربية أخرى منها البوارج والغواصات والطائرات وحاملاتها، والصواريخ العابرة للقارات والأقمار الصناعية وما إلى ذلك من وسائل الهجوم والهجوم المضاد، وأنفق في ذلك أرقاما فلكية من المال، هو محاسب عليه من قبل أحزابه وبرلماناته، وأنفقت الولايات المتحدة الأمريكية وتنفق ما يقرب من 43% من ميزانية الحكومة الفيدرالية على الأغراض العسكرية، وتحشد أكثر من خمسة وعشرين سلاحا نوويا قد يحمل الواحد منها أكثر من رأس نووي واحد، وينشغل بالأغراض العسكرية أو ما يرتبط بها ما لا يقل عن خمسة ملايين من البشر ممن يعمل بالمؤسسة العسكرية البنتاغون أو يؤازرها، فهل تم صنع كل ذلك وإعداده والإنفاق عليه تحت عامل الخوف والتهديد من السلاح النووي والعدة الحربية في أي بلد من العالم الإسلامي ومنه البلاد العربية، وعندما أطلق مركباته وبعثاته إلى خارج هذا الكوكب وارتاد الأجرام المجاورة القريبة والبعيدة، فهل فعل ذلك منافسة للعالم الإسلامي والبلاد العربية أو مسابقة لأي واحد منهم أو لهما معا، أي خوفا من سبقهم المحتمل للسيطرة على مناطق خارج هذا الكوكب، وإذا لم يكن الأمر كذلك، وأن المنافسة لمصدر آخر والخوف منه، فلماذا لم يوجه هذا الغرب الشرير مؤامراته إلى من يصنع له الخوف والمنافسة، ويفقده أمنه، ويجبره على الباهظ من الإنفاق، لماذا ينشغل بالتآمر على طرف ليس مصدر تهديد له أو منافسة، وعلى فرض احتمال تهديد أو منافسة في المنظور القريب أو البعيد، فكيف غفل هذا الغرب عن الخطر القائم والمحقق وانصرف بتخطيطه وتآمره إلى ما هو في باب المحتمل لا المحقق والبعيد لا القريب.

عملاقان

إذا كان الشغل الشاغل للغرب هو أن يخطط ويتآمر على كل البشر ليمنع تقدمهم أو تفوقهم العلمي أو العسكري أو الاقتصادي، أو يمنع كل ذلك مهما ضعفت احتمالات هذا التفوق أو الدواعي إليه، فكيف نجح تخطيط الغرب وتآمره على فئة واحدة من البشر وفشل فشلا ذريعا مع سلالات أخرى من الناس، كيف لم يفلح في كبح قوة الاتحاد السوفياتي ـ سابقا ـ العسكرية والتقنية وقد كانت خطرا على الغرب ومنافسة له، أجبرته على الباهظ من الجهد والإنفاق، كيف لم يفلح في كبح انطلاق عملاقي الاقتصاد في الأرض، المانيا واليابان، وهما اللذان أذاقا الحلفاء من الرزايا ما لم يعرفه تاريخ البشر، وذاقا من الحلفاء ما ليس له سابقة في التاريخ. وإذا حلا لكثيرين القول بأن الغرب لا يخشى إلا المسلمين والدول الإسلامية، فهو لذلك يرصد حركاتهم وسكناتهم ويحيطهم بكل المؤامرات، فان المرء سيعجب كيف استطاعت الدولة المسلمة باكستان الإفلات من كل هذه الحواجز والقيود.

ماذا لو كانت هذه المقولة "النظرية" واقعا فعليا بالمفهوم والمضمون اللذين يرددان، أي أن الآخرين يتآمرون ويخططون وينفذون ثم لا يعترضهم أي إخفاق في أي مرحلة من مراحل التآمر والتخطيط والتنفيذ، وأن الجانب الآخر المتآمر عليه لا يملك ما يقيه أو يحميه من الوقوع في شرك المؤامرة فضلا عن كشفها وإسقاطها والقدرة على الفعل المضاد. أليس ذلك ـ لو صح ـ يعني فيما يعنيه أن أي تحرك أو استعداد أو محاولة نهوض نوع من السفه الذي يمثل جهدا مهدورا محكوما عليه بالفشل ما دام هناك من يتآمر ويخطط وينجح دائما في التآمر والتخطيط والتنفيذ؟، هل هناك ما هو أكثر إسعادا للخصم من شعور خصمه بتفوق الأول عليه دهاء وتخطيطا؟ أليس في ذلك إغناء للخصم عن كل الوقت والمال والجهد لكي يوقع في قلب خصمه وعقله هذا التصور الصانع للهزيمة لا للنصر؟ هل هو شيء مستبعد أن الأعداء أو الخصوم هم الذين أطلقوا هذه المقولة "النظرية" وأشاعوها وروجوا لها، وإذا كان الأمر كذلك فهل مما ينفعنا أن نؤكد ما أطلقوه وأشاعوه، أم أن أول الأسباب المؤدية إلى التماسك ومقاومة الهجوم هو زرع الثقة بالنفس ورفض أن تكون في موقع من يقاد فيستجيب؟

هل هم كثيرون الذين يدركون أن هذا الموقف الملقي بالمسئولية على الآخر هو أبلغ هجاء للذات العربية والمسلمة والمجتمعات العربية والمسلمة، إذ يضعهم في موضع من ينفعل ولا يفعل ويتأثر ولا يؤثر، أي يضعهم في موضع واحد لم يؤهلوا لسواه ولم يجدوا قدرة على الخروج منه هو موضع المادة المطاوعة القابلة للطرق والثني والتشكيل.

غني عن البيان أن ما مر ليس نفيا لفكرة المؤامرة إذا فهمت بمعنى أن كل أمة أو مجتمع أو قبيلة أو فرد يضع أو يضعون من الخطط ما يحقق سلامتهم أو قوتهم أو طموحهم أو مطامعهم، ومتى كانت البلاد الإسلامية أو الدول العربية مصدر تهديد فسيكون من الغفلة ألا نظن، بل ألا نجزم أن يأخذ الطرف المهدد ـ أو الشاعر بالتهديد ـ لنفسه من الوسائل ما يدفع عنه هذا الخطر، والتآمر عندئذ بعض وسائل المدافعة والاحتياط.

سفارة أي دولة في بلد ما هي وسيلة رصد واستكشاف اتفق الناس على مشروعيتها والقبول بها.

هذا الرصد والاستكشاف هو إحدى القواعد التي تبني عليها الدولة صاحبة السفارة علاقتها مع الدولة التي توجد فيها السفارة وتحدد سياستها نحوها وتعاملها معها.

 

راشد المبارك

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات