شهر انتصار الإنسان
شهر انتصار الإنسان
من اجل الله وحده، ترك الإنسان لذاته وشهواته وصام عنها شهراً كاملاً. ماهي الحكمة من تلك العبادة الجليلة؟ الإنسان كائن عجيب، خلقه الله مزدوج الطبيعة، فيه عنصر مادي طيني، وعنصر روحي سماوي، فيه الطين والحمأ المسنون، وفيه الروح الذي نفخ الله فيه، وهذا واضح في خلق الإنسان الأول آدم أبي البشر وهذا الخلق المزدوج مقصود لخالق الإنسان، لأنه مخلوق يعيش في عالمين: عالم المادة وعالم الروح، وله تعامل مع الأرض وتواصل مع السماء. فهو في حاجة إلى ما يخرج من الأرض ليأكل ويشرب ويلبس ويعيش وهذه الغرائز والشهوات المربوطة بالعنصر الطيني في الإنسان، قد تهبط به وتهبط حتى يغدو كالأنعام أو أضل سبيلاً، وتلك الملكات والأشواق الروحية قد تعلو حتى يلتحق بالملائكة المقربين، وقد يفضل بعضهم بمجاهدته. ومهمة الدين أنه يعلي الجانب الروحي على الجانب الطيني في الإنسان، فلا تطغى قبضة الطين على نفخة الروح، وليس هذا بالأمر الهين، فإن للطين ضغطه ووطأته على الإنسان، بضروراته وحاجاته ورغباته، والنفس أميل إلى اتباع الشهوات، واستثقال طريق الحق والهدى، لهذا كان لا بد للإنسان من مجاهدة نفسه، بسلاح الصبر واليقين، حتى يصل إلى الإمامة في الدين، كما قال تعالى: ولقد شرع الإسلام وسائل للإنسان لينتصر بها على الجانب الطيني في كيانه، في مقدمتها: العبادات الشعائرية التي اعتبرت من أركان الإسلام من الصلاة والصيام والزكاة والحج. والصيام يعتبر من أعظم ساحات الجهاد الروحي للإنسان في الإسلام، ففيه يمسك الإنسان طوعاً عن الطعام والشراب والشهوات، كشهوة الجنس، ابتغاء وجه الله تعالى، فهو يمتنع بإرادته عن تناول هذه الأشياء التي يشتهيها، ولا يمد يده إليها وهي ميسورة له، فهو يجوع وبجواره طيب الغذاء، ويظمأ وأمامه بارد الماء، ويمتنع عن مباشرة زوجه، وهي بجانبه، ولا يتناول السيجارة وعلبتها في جيبه، إنه اختبار حقيقي لمدى إيمان الإنسان، وإرادة الإنسان. والمؤمن قطعاً ينجح في هذا الامتحان الصعب، ويحقق الاستعلاء الاختياري، الذي يثبت بحق انتصار الإنسان، حين تنتصر فيه الروح على الطين والصلصال والحمأ المسنون، تنتصر أشواق الروح الصاعدة، على غرائز الجسم الهابطة، وتنتصر إرادة الإنسان على شهوة الحيوان. فمن الفوارق الجوهرية بين الإنسان والحيوان: أن الحيوان يفعل ما يشتهي في أي زمان وفي أي مكان وفي أي حال، ليس لديه عقل يمنعه، ولا دين يردعه، ولا ضمير يحجزه، فإذا أراد أن يبول بال في الطريق أو في البيت أو في أي مكان، وإذا أراد أن يأكل وأمامه ما يؤكل لم يزعه وازع عن الأكل، فكل ما يأكله مثله حلال له، أما الإنسان فهو الذي يتحكم في غرائزه، ويحكم عقله ودينه في أفعاله، حتى يتشبه بالملائكة فيدع الأكل والشرب ومباشرة النساء طوعاً واختياراً، مبتغياً مثوبة الله وحده، مترفعاً عن حياة الذين عاشوا خداماً لأجسادهم وغرائزهم، أسارى لشهواتهم، وهم الذين خاطبهم الشاعر أبو الفتح البستي قديماً في قصيدته حين قال: يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته أتطلب الربح مما فيه خسران؟! أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان! لهذا نسب الله تعالى في الحديث القدسي الصيام إلى ذاته المقدسة حين قال: شهر التطهير من أجل الله وحده، ترك الإنسان لذاته وشهواته، وصام عنها شهراً كاملاً من تبين الفجر إلى غروب الشمس، إيماناً واحتساباً، فكان هذا الشهر تطهيراً له من دنس السيئات التي ربما تورط فيها طوال عامه، وكأن هذا الصيام حمام روحي يغتسل فيه سنوياً من أدران خطاياه، فيخرج منه نظيفاً طاهراً، وهو ما عبر عنه الحديث النبوي الذي رواه الشيخان: وإذا كانت الصلوات الخمس حماماً أو مغتسلاً يومياً، يغتسل فيه المسلم كل يوم خمس مرات، فإن صيام رمضان مغتسل سنوي، يكمل ما تقوم به الصلوات الخمس من تطهير. يؤكد هذا أن رمضان ليس شهر صيام فقط، بل هو صيام بالنهار، وقيام بالليل، ففيه تمتلئ المساجد بالمصلين الذين يقومون الليل بصلاة التراويح، وفيه جاء الحديث في شهر رمضان يحس المسلم بمقدار نعمة الله عليه في الشبع والري، فإن إلف النعم يفقد المرء الإحساس بقيمتها، ولا تعرف النعم الكبيرة إلا عند فقدها، ولهذا قيل: الصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى، والإنسان إذا أمسك طوال النهار عن الطعام حتى عضه الجوع، وعن الشراب حتى مسه الظمأ، حتى إذا جاء المغرب، فأشبع جوعه، وروى ظمأه، أحس بمقدار هذه النعمة، وقال حامداً الله تعالى: ذهب الظمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله. هنا يحس الإنسان بفرحة فطرية، حين حل له ما كان محرماً عليه طوال يومه، وهو ما عبر عنه الرسول الكريم بقوله: وشهر التعاطف بالصوم كذلك يشعر الإنسان بآلام الآخرين، وبجوع الجائعين، وحرمان المحرومين، حين يذوق مرارة الجوع، وحرارة العطش، فيعطف عليهم قلبه، وتنبسط إليهم يده. ولهذا عرف رمضان بأنه شهر المواساة والبر والخيرات والصدقات، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان أجود ما يكون، فهو أجرى بالخير من الريح المرسلة، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما. ولقد حكي عن يوسف الصديق عليه السلام أنه كان لا يشبع من طعام، وبيده خزائن الأرض في مصر، فلما سئل في ذلك، قال: أخشى إذا شبعت أن أنسى جوع الفقراء! إن رمضان شهر فريد في حياة الفرد المسلم، وفي حياة الجماعة الإسلامية، وأنا أسميه "ربيع الحياة الإسلامية" فيه تتجدد الحياة كلها. تتجدد العقول بالعلم والمعرفة، وتتجدد القلوب بالإيمان والتقوى، ويتجدد المجتمع بالترابط والتواصل، وتتجدد العزائم باستباق في الخيرات، والتنافس في الصالحات، وتتوافر فيه أسباب الخير وحوافزه، وتقل أسباب الشر ودواعيه، وتطرد ملائكة الخير شياطين الشر، وقد عبر عن ذلك الحديث الشريف: هذا الاحتفاء السماوي الكبير بمقدم رمضان: تفتيح أبواب الجنان، وتغليق أبواب النيران، وتصفيد كل شيطان: دليل على أن لهذا الشهر منزلة جليلة، وأن له في حياة المسلمين مسألة عظيمة، وهي ما عبر عنه القرآن الكريم بتهيئة الجماعة المؤمنة للتقوى، كما قال تعالى: ومن راقب حياة المسلمين في كل عام قبل قدوم رمضان، وبعد رحيل رمضان: يستيقن من هذه الحقيقة الاجتماعية الثابتة بالمشاهدة، وهي توافر الخير وعمل الصالحات في هذا الشهر، وقلة الشر والجرائم فيه، ولهذا يجتهد الوعاظ والخطباء في أواخر الشهر أن يغروا جماهير الناس باستمرار هذه النيات الصالحة، والعزائم الصادقة على عمل الخير، وخير العمل، وكثيراً ما سمعناهم يقولون في خطبهم ودروسهم: من كان يعبد رمضان فإن رمضان قد مات، ومن كان يعبدالله فإن الله حي لا يموت. بئس القوم قوم لا يعرفون الله إلا في رمضان، كن ربانياً، ولا تكن رمضانياً! وإنك لتعجب من تأثير هذا الشهر في بعض الناس الذين انقطع حبل الصلة بينهم وبين الله ربهم وخالقهم ورازقهم، فإذا هم يعودون إليه في رمضان، ويعرفون المسجد، وتلاوة القرآن. وبعضهم يصومون هذا الشهر وإن لم يزاولوا الصلاة. ولكن... كيف نستقبله؟ وإنك لترى أثر ذلك في أجهزة الإعلام، فنراها في هذا الشهر العظيم تستحي من تقديم ما لا تستحي منه في سائر الشهور، من أغان وأفلام وتمثيليات ومسلسلات ومسرحيات، بل تعد لهذا الشهر برامج خاصة، تغذي الروح، وتنمي الإيمان، وتعلى القيم، وتزكي الأنفس، وتطارد الفحشاء والمنكر والبغي، لولا ما يشوبها في بعض الأقطار من بدعة راجت سوقها، ما أنزل الله بها من سلطان، وهي ما سموه "فوازير رمضان" التي اشتكى منها العلماء والعقلاء، وقالوا: إن رمضان بريء منها، ولا يجوز أن تنسب إليه بحال من الأحوال. وكذلك تحس وتشاهد أثر هذا الشهر في الحياة الاجتماعية، حيث تزداد الأسرة تماسكاً، فيفطرون معاً، ويتسحرون معاً، ويزداد المجتمع تواصلاً، فيزور الناس بعضهم بعضاً، ويدعو بعضهم بعضاً على الإفطار، ويحسّ الفقراء بأنهم في هذا الشهر أحسن حالاً، وأوسع عيشاً من الشهور الأخرى، وتنتعش المشروعات الخيرية بما يقدم إليها من مساعدات من أهل الخير. ألا ما أحوج أمتنا إلى أن تستفيد من شهر رمضان، فهو موسم المتقين، ومتجر الصالحين، وميدان المتسابقين، ومغتسل التائبين، ولهذا كان السلف إذا جاء رمضان يقولون: مرحباً بالمطهر فهو فرصة للتطهر من الذنوب والسيئات، كما أنه فرصة للتزود من الصالحات والحسنات. فلنتخذ من رمضان "معسكراً" إيمانياً، لتجنيد الطاقات، وتعبئة الإرادات، وتقوية العزائم، وشحذ الهمم، وإذكاء البواعث، للسعي الدءوب لتحقيق الآمال الكبار، وتحويل الأحلام إلى حقائق، والمثاليات المرتجاة إلى واقع معيش. رحم الله أديب العربية والإسلام مصطفى صادق الرافعي الذي قال: لو أنصفك الناس يا رمضان لسموك (مدرسة الثلاثين يوماً)!.
![]() |