جنتر جراس والوجه المنسي لتاريخ
جنتر جراس والوجه المنسي لتاريخ
أديب نوبل لهذا العام في الثلاثين من سبتمبر 1999 اعلن فوز الكاتب الألماني جنتر جراس بجائزة نوبل في الدب لعام 1999، وجاء ضمن حيثيات فوزه "إن جنتر جراس رسم في رواياته القاتمة التي لا تخلو من بهجة الوجه المنسي للتاريخ". جنتر جراس هو أحد الأعلام المعاصرين في الأدب الألماني، وُلد بمدينة دانتسيج في 16 أكتوبر عام 1927. وفي عام 1944 التحق بالخدمة العسكرية وجرح أثناء الحرب العالمية الثانية ثم أسره الأمريكيون في ولاية بافاريا. وفي عام 1946، أي بعد انتهاء الحرب أطلق سراحه ثم مارس أعمالاً كثيرة منها أعمال البناء بمدينة دوسلدورف حيث بدأ دراسات جديدة في الفن أكملها بمدينة برلين في عام 1935. بدأ جنتر جراس انطلاقه في عالم الأدب عندما ربح جائزة في الشعر في عام 1955، وأخذ يكتب في إحدى المجلات الأدبية المشهورة، كما اكتسب شهرة في ميدان النحت والرسم وكتابة المسرحيات والتمثيليات الإذاعية ومئات المقالات. ثم انتقل بعد ذلك مع عائلته إلى باريس في عام 1956 حيث كتب أولى رواياته الطويلة "طبلة الصفيح" التي أحدثت زوبعة في الأوساط الأدبية والنقدية عندما نُشرت في عام 1959، وقبل نشرها في كتاب حصلت هذه الرواية على جائزة من "جمعية 47"، وهي جمعية أدبية تكوّنت في عام 1947 لتشجيع الأدباء الجدد ونشر إنتاجهم، ومنذ ذلك الحين أصبح جنتر جراس عضواً عاملاً بها. وقد لاقت رواية "طبلة الصفيح" رواجاً كبيراً لدى القرّاء، ونالت شهرة ضخمة لدرجة أن فيلماً سينمائياً أعد منها من إخراج فولكر شلوندورف نال الجائزة الأولى في مهرجان "كان" السينمائي في عام 1980. وفي عام 1963 وجه جنتر جراس ضربة أخرى للوعي الألماني بروايته "سنوات القهر" التي غطت الأرضية نفسها تقريباً التي غطتها رواية "طبلة الصفيح"، وبين الروايتين نشر جنتر جراس رواية قصيرة بعنوان "قط وفأر"، وقد صدرت هذه الأعمال الثلاثة مرة أخرى في مجلد واحد في عام 1974 بعنوان "ثلاثية دانتسيج". إن جنتر جراس ينتمي إلى ذلك الجيل من الأوربيين الذين ولدوا في السنوات الأخيرة من العشرينيات والذي اكتوى بنار الحرب في آخر الثلاثينيات، كان عمره سبعة عشر عاماً عندما جنّد بالجيش النازي، وكان أصغر من أن يتحمّل المسئولية ولكن وعيه بالأشياء كان ناضجاً، لذلك كانت الحرب بالنسبة له ولجيله صدمة كبيرة لأنهم قاسوا ويلاتها وهم في مطلع الشباب، ثم عانوا بعد ذلك من الفوضى والدمار اللذين خلّفتهما الحرب، ثم عايشوا- بعد أن بلغوا طور الرجولة- مشكلة تقسيم ألمانيا، ثم المعجزةالاقتصادية التي أعادت بناء جمهورية ألمانيا الاتحادية من جديد. لذلك فإن من الطبيعي أن يكون جنتر جراس واحداً من أولئك الأدباء الغاضبين المتمرّدين الذين يجترون دائماً الأحداث الماضية لكي يتفهّموها ويحللوها ويوجّهوا الاتهام لمن يستحقه، ويقوموا بالتحذير من مغبة نشوب حرب عالمية ثالثة. وبينما وجد بعض الكتّاب في الشعر وسيلة للتعبير عن أفكارهم، اختار جنتر جراس أسلوب السرد النثري الذي يشبع ميله نحو وصف الأحداث بطريق التداعي ومزجها بالوثائق التاريخية الواقعية، كما أن الشكل الذي تظهر فيه روايات جنتر جراس والأسلوب الذي تكتب به يتميّزان بنوع من الثنائية الفريدة التي تمزج بين مشاعر الكاتب والحقيقة المجرّدة في لغة تتميز بالقوة القاسية القاتمة مع سخرية تنضح بالمرارة. وقد اعتاد جنتر جراس أن يصمم أغلفة كتبه ويزوّدها بنفسه بالرسوم المعبّرة. بطل رواية "طبلة الصفيح" قزم يدعى أوسكار ماتسيرات، ولد بمدينة دانتسيج، ويبلغ من العمر ثلاثين عاماً، هذا القزم يحكي قصة حياته منذ بدايته حتى النقطة التي نجده راقداً في الفراش في مصحة للأمراض العقلية بعد أن ثبت ارتكابه جريمة قتل إحدى الممرضات، ومع أن أوسكار يملك الدليل على أنه ارتكب هذه الجريمة مرغماً، إلا أنه لا يريد فتح ملف القضية من جديد، لأنه يشعر الآن بمنتهى الراحة في المصحة، وهو بعيد عن مضايقات العالم الخارجي، وقد تعمّد أوسكار أن يظل قزماً من الناحية الجسمانية بأن أوقع نفسه من السلم وأصاب نفسه وهو في الثالثة من عمره إصابة أوقفت نموّه بعد ذلك. كان أوسكار مولّعاً بالدق على طبول الصفيح التي كان يزوّده بها القائمون على تربيته لكيلا يزعجهم بصراخه المدوي، وبالرغم من أن عناصر كثيرة في الرواية من نسج خيال المؤلف، إلا أن التواريخ مضبوطة تماماً، وتتابع الأحداث في الفترة من 5291 إلى 5591 يفوق في تفاصيله ودقته الكثير من كتب التاريخ. إن الكثير من الأحداث الاجتماعية والسياسية الكبيرة والصغيرة تصاحب حياة أوسكار وتؤثر فيها، مثل تجمّعات الحزب النازي، معاداة السامية، تجنيد الجيش النازي، حملة الدعاية الألمانية، الهجوم على دانتسيج واشتعال الحرب العالمية الثانية، حائط الأطلنطي، عزل المرضى والعجزة والمشوّهين عن بقية الشعب الألماني كما حدث لأوسكار عندما حاولوا عزله في إحدى المؤسسات، الغارات الجوية، الجيوش الروسية، الناس الذين عاشوا بعد حجزهم في معسكرات الاعتقال، عودة الأبطال، السوق السوداء، اللاجئون، إجراءات دعم العملة الألمانية وما نتج عنها من الاستقرار الاقتصادي، ثم نهضة ألمانيا من عثرتها بعد انتهاء الحرب، كما صوّر جنتر جراس أيضاً إحساس الألمان بالذنب بطريقة ساخرة في النادي الليلي المسمّى "حانة البصل" والذي يتردد عليه أولئك الأثرياء الذين يستخدمون البصل لإدرار الدموع الغزيرة من عيونهم بقصد التكفير عن الذنب، وقبل النهاية، يصوّر المؤلف عودة المسارح إلى العمل ونشوء مجتمع ضخم تافه لا يمكن احتماله. إن اتساع النسيج الذي احتوى أحداث ثلاثين عاماً من أكثر أعوام القرن العشرين تأثيراً في السياسة والمجتمع الأوربي بشكل خاص يذكّرنا بطريقة تولستوي أو أسلوب تشارلز ديكنز، لقد استطاع جنتر جراس أن يناطح هذين العملاقين بثراء الشخصيات، فإلى جانب أوسكار بطل الرواية، نجد أقاربه وأجداده ومعارفه وجيرانه يتدافعون بغزارة من خلال فصول الرواية ومشاهدها مع العناية بإعطاء الصورة الكاملة لكل شخصية على حدة. إن جنتر جراس قادم من مدينة دانتسيج ورواية "طبلة الصفيح" كتبها في باريس، والجانب الأكبر من مادته حصل عليه من دانتسيج في حين أن القالب الذي صاغ فيه روايته تأثر كثيراً بالمؤثرات الباريسية، ومن المحال حقّاً أن نتصوّر هذه الرواية دون أجوائها السيريالية أو الخيالية المغرقة في الغرابة. إن أوسكار، عندما يبلغ الحادية والعشرين من عمره- رغم أن طوله لا يزيد إلا قليلاً على تسعين سنتيمتراً- يأتي إلى جمهورية ألمانيا الاتحادية، حيث يجرّب أول رواج في الأعمال بعد الحرب، فيعمل في البداية حجّاراً في بناء معماري، ثم عضواً في فرقة لموسيقى الجاز إلى أن يُرسل إلى مصحة الأمراض العقلية، فينتهز الفرصة لكتابة قصته. إن المؤلف في هذه الرواية لا يتورع عن تصوير الأحداث بلهجة خشنة مصبوغة بلون كالح مرير من السخرية، ودون أن يبدي رغبته في النقد، فإنه يبدو لنا ناقداً لا يرحم انحطاط الطبقة المتوسطة التي ساعدت على نشوب الحرب العالمية الثانية، كما ينقد أيضاً الكبرياء القومية والوحشية والتطلعات الجوفاء من أجل نجاح سنوات ما بعد الحرب، وليس من الغريب أن تلاقي هذه الرواية في ألمانيا استقبالاً تأرجح بين حدّي التطرّف في المدح والذم، أما في خارج ألمانيا، فإن هذه الرواية مسئولة أكثر من أي كتاب آخر عن إحياء الاهتمام بأدب ألمانيا الحديث. ففي عام 1961 كتب أحد النقاد السويديين يقول: "إن الأدب الألماني بعد الحرب العالمية الثانية استقبل أخيراً أسده الشاب: جنتر جراس"، وبعد بضعة أيام، كتب أحد النقاد الفرنسيين يقول: "يا كتاب الرواية الفرنسيين، غطّوا رءوسكم، لو حدثت حرب أوربية بخصوص الرواية لخسرتموها ولانتصر عليكم أديب ألماني يدعى جنتر جراس"، وقد مُنح جنتر جراس عن هذه الرواية في فرنسا في عام 1962 جائزة أحسن كتاب لمؤلف غير فرنسي. سنوات القهر بعد السطور القوية المنمّقة لرواية "قط وفأر" عاد جنتر جراس فتجاوز "طبلة الصفيح"برواية "سنوات القهر" التي تمتد أحداثها إلى أبعد من حياة أوسكار، فأحداثها تبدأ في عام 1917 وبذلك شملت معاهدة فرساي التي أنهت الحرب العالمية الأولى والتضخم المالي الذي حدث في ألمانيا بعد ذلك والعوامل الأخرى التي مهّدت الطريق لظهور هتلر واستيلائه على السلطة. في هذه الرواية أيضاً، لا يصوّر المؤلف الأحداث الخارجية بطريقة مستقلة، ولكنه يجعلها مصاحبة لحياة الشخصيات، وأحياناً يصوّرها بطريقة وحشية مباشرة، وأحياناً يغلفها بأقنعة من الرمز والخيال، وبدلاً من وجود راو واحد كما حدث في "طبلة الصفيح" نجده في "سنوات القهر" قد استعان بثلاثة من الرواة يتتابعون في سرد حياة "إدوارد أمزل" و "فالتر ماتيرن" وهو نصفه يهودي ونصفه الآخر آري، وبعد أن يمر هذان الراويان بتطوّرات عدّة يعودان إلى العيش في الحاضر، ويقومان برواية الأحداث، وبالإضافة إلى هذين الشخصين توجد شخصيات أخرى من بينها الراوي الثالث "هاري ليبناو". ومن الواضح أن "طبلة الصفيح" (1959)، و "قط وفأر" (1961)، و "سنوات القهر" (1963) هي ثلاث حلقات في ثلاثية واحدة، وكلها تتميز بأن الإطار التاريخي الذي تتحرك في داخله الشخصيات يبرزه المؤلف في هذه القصص باستخدام تكنيك "السرد الجانبي" الذي يتغلغل في السرد الخيالي والذي يبدو واضحاً أشد الوضوح في "طبلة الصفيح". تخدير موضعي في عام 1969، طلع جنتر جراس على العالم بموضوع مختلف تماماً اهتم فيه بالتجريب إلى حد كبير في رواية بعنوان "تخدير موضعي"، في هذه الرواية نجد مدرساً يحضر إلى عيادة طبيب أسنان يضع في غرفة العمليات جهاز تلفزيون لأنه يريد أن يكون كل شيء موضوعياً.والصور التي تظهر على الشاشة أمام المريض تجعل عقله يتوه بين الذكريات والأحلام، إن المحور الذي لم يلاحظه النقّاد في رواية "تخدير موضعي" هو أنها رواية هجائية، لقد استقبلت في ألمانيا بمقدار كبير من الجديّة الخانقة، وبقي على النقاد الأجانب أن يستجيبوا للفكاهة اليائسة في الكتاب، وخاصة في شخصية طبيب الأسنان. لقد كان جنتر جراس معنياً أشد العناية بالماضي في حياة الشعب الألماني، أما "تخدير موضعي" فهو أول كتاب يتناول الحاضر مباشرة، فالحوادث فيه تجري في أيام السلم مع الإشارة إلى حرب فيتنام على هامش العقدة، إن بطلي القصة ينتميان إلى الجيل الذي نشأ في أيام السلم، والكتاب لا يدور حول سياسات القوة، بل حول حركة الاحتجاج الواهنة التي تكتفي بحرق أحد الكلاب، ولا ريب في أنه التزام واع بفكرة السلام التي تعالج توترات تختلف تمام الاختلاف عن التوترات في زمن الحرب. سمكة الترسة بعد أن تولى الحزب الاشتراكي الديمقراطي مقاليد الحكم في ألمانيا الغربية في عام 1968 انغمس جنتر جراس في الأعمال السياسية تماماً باعتباره من أكبر أنصار هذا الحزب، وكانت أغلب كتبه ومقالاته تتناول الشئون السياسية، إلا أنه فاجأ النقاد والقرّاء في عام 1977 بروايته الضخمة "سمكة الترسة" والتي كانت إيذاناً بعودته من جديد لميدان الكتابة الأدبية. لقد وصف أحد النقاد هذه الرواية بأنها وليمة ممتعة من الكلمات، وكالعادة صمم جنتر جراس غلاف كتابه بأن رسم عليه سمكة الترسة، إن هذا النوع من السمك له فم ضخم قبيح الشكل، وقد رسمه المؤلف وهو يهمس في أذن إنسان سميكة غضروفية مثل فم سمكة الترسة، فما الذي يهمس به فم سمكة الترسة في أذن الإنسان؟على هذا السؤال تجيب رواية جنتر جراس في عدة مئات من الصفحات، وقد وصف المؤلف كتابه بأنه "تاريخ الطعام"، وهذا في الواقع تعبير ساخر، لأن السمكة والكاتب عندهما أكثر من ذلك ليقولاه. لقد نجح جنتر جراس في تجسيد أهم قضايا عصرنا وهي الخلاص من جميع أنواع العبودية والتحرّر من الاعتماد على الآخرين، إن التعبيرات المجرّدة مثل التحرر وتقرير المصير والديمقراطية تصبح واقعاً حقيقياً في شكل شخصيات ملموسة وأحداث، وجميعها موضوعة داخل إطار يمكن وصفه بأنه تاريخ الطعام، هذا إذا كنا على استعداد أن نعطي كلمة الطعام معنى أوسع بكثير. تدور رواية "سمكة الترسة" في مستويات ثلاثة: المستوى الأول يقص حياة وأعمال ثمان من الطبّاخات في مدينة دانتسيج ابتداء من العصر الحجري القديم إلى الحياة المعاصرة في بولندا، ثم يأتي بعد ذلك المستوى الثاني وهو قصة حَمْل زوجة الراوي لمدة تسعة شهور، ومن هنا جاء تقسيم الرواية إلى تسعة فصول، أما المستوى الثالث، فيدور حول محكمة نسائية في برلين تحاكم سمكة الترسة، أي تحاكم رمز الرجل الذي وقع في شبكة صائد سمك في نهاية العصر الحجري، فوعد الصائد بنصيحة ثمينة إذا أطلقه وأعاد إليه حريته. هكذا تبدأ القصة وتستمر خلال العصور المختلفة: عصر هجرة الأجناس، العصر المسيحي، العصور الوسطى، الإصلاح الديني لمارتن لوثر، حرب الثلاثين عاماً، ثم خلال العصر الرومانسي ورواد الديمقراطية من الألمان الأوائل، إنها نظرة شاملة إلى التاريخ، ليس إلى تاريخ الأبطال الذين ليسوا أكثر من شخصيات هامشية عارضة، بل هي نظرة شاملة إلى الأحداث والأعمال أثناء الحياة اليومية للناس العاديين البسطاء. إن بناء الأحداث يهدف إلى عقد مقارنة بين حياة الطبّاخات وأزواجهن وبين أسلافهن وأخلافهن، ويوضح التغييرات التي حدثت سواء إلى الأفضل أو الأسوأ، إن وصف الاهتمامات اليومية والملذات خلال عصور المطبخ والتغيرات الاجتماعية والقوى التي أدت إلى هذه التغيرات يمثل وليمة مقارنة وضعت فيها مواد ومعارف كثيرة وضخمة ولكن بعناية وترتيب، بحيث لا تنكسر المائدة تحت ثقل الأطباق التي عليها. وقد تعددت في هذه الرواية صور الكناية والرمز ابتداء من الأشكال الموغلة في القدم إلى اللغة العامية السوقية، ويبدو أن جنتر جراس هو الكاتب الألماني الوحيد الذي يستطيع أن يفعل ذلك في الوقت الحاضر، إذ أنه خلق لوحة سيطر فيها على قوة الكلمة وحيويتها بشكل نادر المثال، لقد خصص جنتر جراس للجوع فصلاً رائعاً ومؤثراً أبلغ التأثير، وفيه يعود المؤلف إلى ذكرياته عن رحلته إلى مدينة كلكتا بالهند، ولاشك أن هذا الفصل لم يسبق له مثيل في كل الآداب العالمية. الألمان ينقرضون في عام 1980 ذكر المستشار الألماني هيلموت شميت في إحدى خطبه السياسية أن الأزمة الدولية التي كانت سائدة في غضون ذلك العام تشبه الموقف العالمي في شهر أغسطس 1914 عندما نشبت الحرب العالمية الأولى، وبعد هذا التصريح، أرسل أربعة من الأدباء الألمان إلى المستشار الألماني رسالة مفتوحة حاولوا فيها أن يقولوا للمستشار الألماني ولحكومته إن عليهم أن يذكروا دائماً المسئولية الخاصة التي تقع على عاتق الألمان نحو السلام، إذ أنهم عرّضوا القارة الأوربية للدمار من خلال حربين، وقد كان جنتر جراس واحداً من الأدباء الأربعة الذين اشتركوا في هذه الرسالة التي جاء فيها أن الحرب العالمية الأولى بدأت في مدينة سراييفو اليوغوسلافية، والحرب الثانية بدأت في مدينة دانتسيج الألمانية، والآن يقولون إن الحرب الثالثة ستبدأ في طهران. هذه الكلمات مستقاة من الكتاب الذي أصدره جنتر جراس بعنوان "الألمان ينقرضون"، وهو كتاب روائي يعالج الموقف السياسي الدولي إلى جانب الأشياء الأخرى، إن جنتر جراس بالرغم من عنوان كتابه لا يريد أن يدخل الرعب إلى قلب القارئ، ولكنه يطرح سؤالاً عاماً بقوله: "لماذا أتنازل عن هواياتي وحبّي للحياة? ولماذا أقول الوداع لربّات الشعر والأدب لمجرد أن أمريكا والاتحاد السوفييتي علمانا أن نشعر بالرعب والفزع، ومنذ حرب فيتنام وغزو السوفييت لتشيكوسلوفاكيا حاولا أن يمليا إرادتيهما علينا? إننا إن فعلنا ذلك، فمعناه أننا نحترم القوة الغاشمة، وأننا نقبل سياستهما اللاأخلاقية، إن الحرب دمّرت دانتسيج، أما أنا، فأستطيع أن أعيد بناءها بالكلمات وحدها، لا يستطيع أولئك الأقوياء أن ينافسوني، وأنا أنكر قدرتهم على منعي من الكتابة". في هذا العمل، يتبلور نتاج مخيلة جنتر جراس الذي يصطدم بالحقيقة باستمرار، إن خياله يحاول أن يهرب من الحقيقة، إلا أن الحقيقة تطارده دائماً. إن الفكرة التي كانت تلح على جنتر جراس في هذا العمل هي افتراضه أن الألمان كجنس، إما أن ينقرضوا تماماً أو يتكاثروا بشدة مثل الصينيين الذين سيهبط عددهم إلى ثمانين مليوناً فقط، فهل يمكن أن يفعل الألمان ذلك؟ ولكن إن فعلوا ذلك فسيكون أمامهم خطر وجود مائة مليون من الجنس السكسوني ومائة وعشرين مليونا من الجنس الروسي الذين سيفرضون سلطانهم على العالم، وهذه الفكرة تصيب جنتر جراس بالرعب إلى حد أنه يفضل في تلك الحالة أن يرى الألمان في فترينات المتاحف! ومع الصفة الروائية لهذا العمل، إلا أن "الألمان ينقرضون" يعتبر عملاً سياسياً في المقام الأول، إن جنتر جراس في عمله هذا يعيد إلى أذهاننا أسطورة سيزيف، إنه سيزيف الصغير الذي يدفع أمامه "حجر البحث عن السلام"، وهو يصعد الجبل مصفّراً في الغابة الألمانية. الفأرة بعد خمس سنوات من التوقف عن الكتابة، نشر جنتر جراس رواية "الفأرة" التي ترجمت إلى لغات عدة، وفيها يتصور المؤلف أن الفئران قد استمرت في العيش بعد كارثة الانفجار العظيم الذي حدث في الكون، وأصبحت لها استراتيجية جديدة للحياة كما تعلمت أيضاً القراءة والكتابة. أما الفأرة التي كانت هدية عيد الميلاد إلى راوي القصة، فقد كانت "دودة كتب" لا تتوقف أبداً عن القراءة أو قصّ الحكايات، أو اقتباس آيات من الإنجيل، أو التفوّه بشتائم، أو استفزاز الراوي لأنها تعرف كل شيء أكثر منه، وهي تفخر بمهارتها في النجاة من الإبادة الجماعية، وليس لديها أي شيء طيب تقوله عن الجنس البشري، إنها تقول للراوي: "لقد عشتم مرة، كنتم موجودين ولا نذكر عنكم شيئاً إلا أنكم مجانين، لن تصنعوا أبداً التاريخ مرة أخرى، ليس لكم مستقبل، فقد انتهيتم، لا فائدة منكم على الاطلاق". وقد وصف جنتر جراس روايته هذه بأنها "قصة خرافية سيئة" وأيضاً بأنها "كارثة في عصر الكوارث". حقل واسع أو مشكلة معقّدة صدرت هذه الرواية في عام 1955 وتناول فيها جنتر جراس موضوع الوحدة الألمانية انطلاقاً من الحاضر إلى المائة وخمسين عاماً الماضية من التاريخ الألماني، وصوّر فيها مساوئ الحكم الشمولي ومساوئ أجهزة الأمن بقسوتها وتجسّسها على المواطنين، وإهدار حرية الإنسان وكرامته، كما صوّر الأوضاع الراهنة في ألمانيا الموحّدة، ومما يجدر ذكره أن جنتر جراس عارض السرعة التي تمت بها الوحدة الألمانية في عام 1990. نداء الضفادع صدرت هذه الرواية في عام 1997، والضفدعة في القصص الخرافية الألمانية يقال عنها إنها حاملة الأنباء السيئة أو "نبي الهلاك". إن جنتر جراس كان دائماً مهتماً بكل أنواع عائلة الأمفيبيا AMPHIBIA التي تنتمي إليها الضفادع، ولم يكتف بكتابة القصص عنها، بل رسمها أيضاً في كتبه، وتتناول هذه الرواية قصة قديمة، ففي الميناء الألماني القديم "دانتسيج" الذي أصبح بعد الحرب العالمية الثانية تابعاً لبولندا باسم "جدانسك"، يقع في الحب أستاذ ألماني في تاريخ الفن مع أرملة بولندية. ونظراً لبعد المسافة بين الحبيبين فإنهما يقيمان مقبرة للصلح حيث يعاد دفن أهالي دانتسيج السابقين الذين سبق أن طردوا من مدينتهم وماتوا منذ مدة طويلة، يعاد دفنهم في موطنهم الأصلي، إن هذه المقبرة الألمانية البولندية تقابل بالحفاوة من المواطنين باعتبارها "الشكل النهائي للتفاهم الدولي"، ويتلقى الأستاذ الألماني والأرملة البولندية عدداً كبيراً من طلبات إعادة الدفن، ولكن في تلك الأوقات التي اتسمت بالعدوانية والتخريب، لم تستطع المقبرة أن تكون ميناء للسلام. وأثير سؤال عمّا إذا كان من الأفضل أن تحاط المقبرة بسور يحميها من اللصوص، وتحوّل السؤال إلى صراع مرير أشعلته خلفيات إيديولوجية بعثت من جديد النزاعات القديمة بين ألمانيا وبولندا مما أدى إلى فشل مشروع مقبرة الصلح. ويحدث بعد ذلك أن يلقى الحبيبان مصرعهما إثر حادث أليم أثناء قيامهما برحلة بين روما ونابولي، ويُدفنا كشخصين مجهولين في مقبرة مزدوجة بإحدى القرى، وكان التعليق الأخير للمؤلف على مصيرهما المفجع: "لقد وجدا مكاناً آمناً، اتركوهما ينعمان بالراحة في سلام".
|