سينما: ستانلي كوبريك: قليل الأفلام.. كثير الكلام

سينما: ستانلي كوبريك: قليل الأفلام.. كثير الكلام

كلما ذكر اسم المخرج ستانلي كوبريك، تم الربط بينه وبين عدد الأفلام التي قام بإخراجها، واستخلص الرابط كيف انها قليلة العدد قياساً بتعداد السنين.

المعروف أن كوبريك أخرج 13 فيلماً روائياً طويلاً خلال مهنة امتدت من العام 1955 إلى اليوم، وهو ولد في نيويورك بتاريخ 26/7/1928، وتوفي في مطلع هذا العام حالما أنجز فيلمه الثالث عشر "عينان مغلقتان باتساع" Eyes Wide Shut

إذن، قُدّر لكوبريك إخراج هذا العدد المحدود من الأعمال السينمائية خلال 46 سنة، ثلاثة منها في السنوات العشرين الأخيرة من بينها واحد فقط في التسعينيات.

كل ذلك من دون أن يحمل كوبريك مهام البحث عن ممولين ومغامرين، أو يطرق باب الاستديوهات، كما لو كان عاطلاً عن العمل، على العكس، كان التمويل له دائماً حاضراً وموجوداً، المهم أن يبدأ.

كوبريك كان سينمائياً تاماً والعبارة هنا تفيد معناها على أكثر من نحو. فالمخرج الذي أهداه أبوه كاميرا تصوير عادية وهو بعد طفل زارعاً فيه حب الصورة، لم يكن مخرج الفيلم الذي يحققه فقط، بل كاتبه ومؤلفه ومصوّره ومنتجه أيضاً، صحيح أنه استعان دوماً بمدير تصوير مختلف، لكنه كان كثيراً ما يحمل الكاميرا بنفسه ليصوّر مشاهد منتقاة "تماماً كما فعل في المشاهد الأولى التي يقدم لنا فيها الممثلة نيكول كيدمان في الفيلم الجديد "عينان مغلقتان باتساع""، وكان يأتي بكاتب سيناريو، لكنه وبعد أن يفرض عليه تغيير السيناريو مرات ومرات، ينكب عليه، فيغيّره إلى صيغته النهائية التي نراها على الشاشة.

إلى ذلك، كان كوبريك سينمائياً من حيث إلمامه الكامل بالقواعد اللغوية للسينما، ليس لديه من لقطة تنتمي إلى أي لغة أخرى، اللغات الأخرى "من موسيقى ومسرح وتمثيل" هي التي تنضوي تحت اللغة السينمائية التي يلقيها عبر الفيلم، في ذلك هو بذات حجم المخرج الياباني العريق أكيرا كيروساوا والسوفييتي الرائع أيضاً أندريه تاركوفسكي، والإيطالي الكبير فيديريكو فيلليني، وكل هؤلاء رحلوا أيضاً عن عالمنا تاركين فيه أعمالاً لا يمكن أن تضمر أو تذوب طالما نحن على هذه الأرض.

بدايات حرب

حينما أمسك كوبريك الكاميرا اليدوية لأول مرة، كان في السابعة من عمره، وما إن أصبح في السابعة عشرة حتى بات مصوّراً محترفاً يعمل لحساب مجلة Look التي كانت في الأربعينيات والخمسينيات بالغة الانتشار، ومنافسة مهمة لمجلة بذات الحجم والاهتمام هي Life التي قدر لها الاستمرار، بينما توقفت "لوك" في منتصف السبعينيات أو نحوها، في العام 1950 ترك المجلة وقرر تحقيق أول فيلم سينمائي له بعدما أدمن مشاهدة الأفلام، وأحب العمل فيها.

ذلك الفيلم الأول كان تسجيلياً قصيراً بعنوان "يوم المعركة" The Day of the Fight، وحين انتهائه سنح له أمر بيعه إلى شركة RKO "واحدة من الاستديوهات العريقة التي توقفت في مطلع الخمسينيات بعد أربعة عقود زاخرة بالانتاجات متفاوتة الأهمية من "المواطن كين" لأورسون ويلز إلى مسلسلات الدقائق الخمس الإثارية التي كانت تنتج بوفرة في الثلاثينيات والأربعينيات".

ربح كوبريك عن ذلك الفيلم كان بحدود 100 دولار، ودخولا لساحة العمل السينمائي وتمهيدا لفيلم تسجيلي قصير آخر هو "الأب المسافر" Flying Padre، وما هو جدير بالذكر هنا أن كوبريك كتب كلا الفيلمين وصوّرهما، كما قام بتوليف أولهما بنفسه.

بعد تحقيقه فيلماً ثالثاً بعنوان "المبحرون" أو "Seafarers" صمم كوبريك على تحقيق فيلمه الروائي الطويل الأول وتمكن من ذلك في العام 1935" عندما أنجز "خوف ورغبة" Fear and Desire الذي شارك في كتابة السيناريو له.

ذلك الفيلم الأول مثير للاهتمام اليوم لأنه من النوع الحربي، وهو نوع أمّه المخرج لاحقاً أربع مرات بعد ذلك في صيغ شتى، في "ممر المجد" "دراما في إطار الحرب العالمية الأولى- 1957"، "د. سترانجلوف" "كوميديا سوداء في إطار حرب نووية- 1964"، "باري ليندون" "دراما في إطار حرب الإنجليز والفرنسيين في القرن التاسع عشر- 1975" و "سترة معدنية كاملة" "حربي عن فيتنام- 1987".

قصة "خوف ورغبة" تدور حول أربعة طيارين سقطت بهم الطائرة خلف خطوط العدو، لا يحدد كوبريك، أي حرب ولا أي دولة أو أي أعداء. الخوف من الوضع يركبهم والرغبة في العودة إلى خطوطهم تحفّزهم لبناء مركبة بسيطة تطفو على النهر ليلاً وصولاً إلى قاعدتهم، لكن لا شيء مؤكد في مثل هذا الوضع.

صوّر كوبريك ذلك الفيلم بالأبيض والأسود مع مجموعة قليلة من الممثلين الذين بقوا مجهولين إلى اليوم: ديفيد ألن ستيف كويت وكينيث هارب، المعروف الوحيد هو بول مازورسكي الذي تحوّل مخرجاً بعد سنوات قليلة، وقدّم أفلاماً متفاوتة "وغير مميزة كثيراً" لعل أشهرها "صعلوك بيفرلي هيلز" In and Out of Beverly Hills في العام 1986.

جماليات كوبريك

قليلون جداً الذين شاهدوا "خوف ورغبة" بالأمس أو اليوم، وكذلك الذين سنحت لهم فرصة مشاهدة ثاني أفلام كوبريك وعنوانه "قبلة القاتل" Killer's Kiss الذي شارك في إنتاجه وشارك في كتابته وقام بتصويره وتوليفه في العام 1955.

مَن ير الفيلم، فسيجد فيه كل الخصائص التي نمت لاحقاً لتشكّل سينما كوبريك، القصة تدور حول ملاكم "جيمي سميث" يعيش في شقة تطل على فتاة تعمل راقصة ومتورطة مع رجل عنيف، الملاكم يشاهدها من بعيد بصمت ولا يتدخل تقرّباً منها إلا عندما يرقبها ذات مرة وهي تتعرض لصفعات ذلك الرجل "فرانك سيلفيرا الذي عمل مع كوبريك في الفيلم السابق أيضاً" فيتدخل لحمايتها، هذا التدخل يقودهما إلى التفكير في الهرب من المدينة "نيويورك" بعد أن أصبح مؤكداً أن ردّة فعل الرجل الآخر ستكون خطرة، خصوصاً أنه رجل عصابات، لكن الملاكم لا ينجح في توضيب أمر هروبه سريعاً، والعصابة تمسك به في شقة منزوية وتضربه، وحين يكتشف أنه لا يستطيع الاعتماد على مَن أحبّ لتخليصه يهرب من الشقة إلى المدينة حيث ينتهي الفيلم.

من بين ما أسسه كوبريك في هذا الفيلم نظرته إلى المدينة العارية غير الجذابة، والتي لا روح فيها أو جمال، لذلك عندما نقرأ في النقد الغربي مآخذ على فيلم كوبريك الأخير "عينان مغلقتان باتساع" تنتقد أن المدينة "نيويورك أيضاً" تبدو لا روح فيها وغير واقعية، لا نستطيع سوى مطالبة هؤلاء "النقاد" بالعودة إلى تاريخ كوبريك لأنه لم ير في أي عمل حققه أي جمال يمكن وصفه في أي موقع اجتماعي، ناهيك عن كونه مدينة.

الجمال الوحيد الممكن استخلاصه من أفلام كوبريك على نوعين:

جمال الطبيعة في بعض أعماله "مثل "باري ليندون"، وجمال الوحشة التي تفيد في إثراء الموقف، وشحن الدراما، والمستخلص من المشاعر، وهذه الأخيرة تبقى بيت القصيد في كل أعماله ومستوحاة حتى من تصويره المدينة العارية من الروح والجمال في "قبلة القاتل" أو في "عينان مغلقتان باتساع" أو غيرهما.

"قبلة القاتل" أيضاً نوع من التمرين على أسلوب معالجة تصويرية خاص، إنه فيلم ضحل التكلفة جداً "حتى بمقاييس فترته آنذاك"، لكن أسلوب تصويره وإدارة الكاميرا فيه يعوّض عن ذلك جيداً، يضع على الأرجح ما بنى عليه مخرجون مستقلون آخرون "مثل جون كازافيتز" أعمالهم الأولى ومنطلقاته قبل تطويرها في أساليب خاصة تتبع دراية وموهبة كل منهم على حدة.

في العام التالي 1956، أطلق كوبريك فيلماً بوليسياً آخر هو "القتل" The Killing، وهذا أنتجه جيمس ب. هاريس، وقام كوبريك بكتابة السيناريو مع جيم تومسون، وهذا واحد من أشهر كتّاب الرواية البوليسية إلى اليوم، لوسيان بالارد قام بالتصوير "غير الملوّن"، وهذا تحوّل سريعاً إلى أحد أفضل مديري التصوير في الستينيات والسبعينيات، وعمل سابقاً مع جون فورد، ولاحقاً مع سام بكنباه من بين آخرين.

لم تكن هوليوود مستعدة لفيلم مركب كالذي شاهدته عندما عرض كوبريك النتيجة عليها، ولسنوات بقي الفيلم مهملاً باستثناء عرض تجاري واحد قصير النفس، لكن النقّاد الذين أتيحت لهم مشاهدته لاحقاً هم الذين أنقذوا هذا الفيلم من الضياع.

"القتل" فيلم رائع يتولى فيه كوبريك سرد القصة، ليس من عدة وجهات نظر فقط، بل من عدة زوايا تنتمي إلى وجهة النظر ذاتها، الغاية من ذلك تتبدى هي تأليف أسلوب تشويق لم يسبقه إليه أحد.

القصة تدور حول سرقة مكتب سباق خيول ويقود الخطة المنفذة جيداً لص "سترلينغ هايدن" يريد ترك العمليات والخلود بعيداً مع صديقته البريئة التي تحبّه "كولين غراي" بحصته من الغنيمة التي تقدر بمليوني دولار، الذين معه في العملية تحر لا يكفيه راتبه، ورجل زوجته تموت، ولابد من إنقاذها، وآخر متزوج من امرأة يريد أن يثبت لها قدرته على إنقاذها من الفقر المدقع، ورجل ولّت أيام شبابه، مجموعة من الشخصيات التي لا تشعر نحوها بأي عداوة، بل تغمرنا صوبها شحنة من التعاطف، كل شيء يسير حسب الخطة المرسومة بخلاف أن الزوج الضعيف حيال زوجته يشي لها بما اتفق أن يكون سرّاً، وهي تشي لعشيقها الذي يداهم المكان لسرقة الغنيمة، الجميع يموت ويبقى رئيس العصابة "هايدن" وصديقته، وحين يصل بالغنيمة من بعد المجزرة، يتوجه وإياها إلى المطار مع حقيبة مليئة بالدولارات التي تقع في أرض المطار "بسبب كلب فلت من صاحبته الثرية ما اضطر سائق العربة لمحاولة تفاديه عنوة ووقوع الحقيبة وانفتاحها"، المشهد المؤلم هو لتلك الملايين وهي تتبعثر بفعل الهواء الصادر عن مراوح الطائرات والآمال العالية، وهي تتهاوى أمام عيني اللص، المشهد الأخير للقطة مسحوبة أمام هايدن وغراي وهما يحاولان الخروج من المطار قبل إلقاء القبض عليهما، هايدن يمشي فعلاً كما لو أنه على أهبة فالج، ووراءه تحرّيان يسحبان مسدسيهما على أهبة إلقاء القبض عليه.

محرر العبيد

قلب كوبريك مع بطله هايدن بلا خجل، كذلك قلوبنا نحن، إذ إن المدان هنا هو الحاجة إلى المال وليس سرقته، الشخصيات الطيبة و "الخاطئة" التي تطالعنا، تثير الشفقة أكثر مما تثير الإعجاب، لكن الإعجاب مثار على صعيد آخر هو صعيد التمثيل الذي لا يهوي مطلقاً دون مستويات الجودة: ماري ويندسور "وكانت دوماً "الأنثى القاتلة" في سلسلة "الفيلم نوار" البوليسية الداكنة"، أليشا كوك "زوجها" مع فينس إدوارز وجاك فليبين "العجوز"، تد دي كورسيا "التحري"، جو سوير "الزوج المحب لزوجته المريضة" وفي أدوار ثانوية لا تقل قيمة هناك جاي أدلر وتيموثي كاري من بين آخرين.

إذ حقق كوبريك هذا الفيلم بنحو 300 ألف دولار فقط، أسس نفسه كواحد من ألمع المواهب الجديدة، وبناء على الملاحظات الإيجابية التي حصدها الفيلم في عروضه الأولى القليلة، انطلق لتحقيق فيلمه الأول المعادي للحرب وهو "ممرات المجد" Paths of Glory "1957": كيرك دوغلاس يكتشف أن القيادة الفرنسية التي ضحت بمئات الرجال في هجوم فاشل على خطوط التماس خلال الحرب العالمية الأولى، تحاول الآن إلقاء اللوم على الضباط الصغار، والتهرّب من المسئولية، مشاهد القتال في ذلك الفيلم من أقوى ما طبع على أشرطة إلى اليوم.

وبسبب قوة هذا الفيلم، أصرّ كيرك دوغلاس على أن يقوم كوبريك بإخراج فيلمه اللاحق "سبارتاكوس" عوض المخرج "الجيد أيضاً" الذي كان بدأ التصوير ولم يتأقلم مع دوغلاس وهو أنطوني مان "Mann".

"سبارتاكوس" "1960" كان فيلماً جيداً عن محرر العبيد الشهير، لكن كوبريك لم يحب العمل من دون صلاحيات استثنائية، وهو افتقدها عندما وجد أن تقاليد الأمور من نصيب شركة يونيفرسال، على الرغم من ذلك، ومن وجهة نظر مشاهد عادية أو نقدية، فإن الفيلم مزدحم بالحسنات من السيناريو "الذي وضعه الخبير دالتون ترومبو" إلى التصوير "راسل ماتي" إلى سلاسة توالي الأحداث في إطار فيلم ملحمي النفس، وسريع الحركة، وكثير التأثير درامياً في الوقت ذاته.

الفيلم التالي "لوليتا" "1968 " "عن رواية فلاديمير نوبوكوف" كان مهمة صعبة أخرى أمام كوبريك، والمرة الأخيرة التي أقدم فيها على تحقيق فيلم لا يملك عليه سلطة، نظرة سوداوية قاتمة على عالم غير أخلاقي يربط أستاذ مدرسة "جيمس ماسون" بأرملة "شيلي وينترز" ثم بابنتها المراهقة "سو ليون"، العلاقة غير الأخلاقية "تبعاً لعوامل مختلفة من بينها أن الفتاة قاصر" تشي برغبة المخرج بإدانة الشخصيات كلها على حد سواء، وفي حين أن الحق لاشك معه في ذلك، إلا أن السبب وراء تنفيذ هذا الفيلم يتلاشى مع استمرار الإدانة على خط واحد من الأحداث لا يتغير، هذا، عند هذا الناقد، الفيلم الضعيف الوحيد الذي حققه كوبريك في حياته السينمائية كلها.

خطابات كوبريك

من البداية، كانت الرسالة التي يريد كوبريك إلقاءها على المجتمع الذي يعمل ويعيش فيه هي احتكار القوة الكبيرة للعالم الصغير المؤلف من أفراد قلائل، هذه القوة ليس من الضروري أن تكون السلطة السياسية أو العسكرية "ولو أن ذلك كما سنرى محتمل"، بل أيضاً مجتمع الأغنياء والنافذين. في "القتل" هؤلاء مغيّبون تماماً باستثناء أن المرأة الثرية التي ترتدي الفرو وتحمل كلباً يتسبب في ضياع كل أحلام بطل الفيلم، هي من ذلك المجتمع الذي لن يعي حقيقة ماحدث لأنه منفصل.

في "ممرات المجد" نجد أن السلطة المنتقدة هي عسكرية، وهذا يحدث أيضاً في فيلمه اللاحق "سترة معدنية كاملة" Full Metal Jacket، حيث يتم إرسال الجنود إلى رحى حرب بعيدة تبدو مجنونة وبلا هدف، فيتنام بالنسبة للعديدين هي مكان ممارسة رجولة حقنوا بها، ولم يكتسبوها اكتساباً وجدانياً.

ذلك الفيلم الذي حققه كوبريك في العام 1987 منقسم إلى قسمين: الأول يقع في المؤسسة العسكرية نفسها حيث يتم إعداد الجنود بقدر كبير من التعسّف، وبقدر أعلى من الإهانات اليومية التي تتسبب في محو شخصيته تدريجياً، والثاني يقع في رحى الحرب. في معظم هذا القسم نتابع أحداث فيلق صغير يمشط مدينة مهدّمة، فجأة بندقية قنّاص تصيب جندياً أفرو- أمريكيا في منطقة رجولته "الاختيار هو الفحولة" ونتعرّف لاحقاً على أن القناص ليس سوى فتاة "ما يزيد من إهانة تلك الرجولة؟" التي تقتل جندياً آخر قبل أن تحاصَر وتطلب من الجنود المحاصرين لها بأن يقتلوها، قطع، نهاية الفيلم.

وكان كوبريك قبل 23 سنة من "سترة معدنية كاملة" حقق "دكتور سترانجلوف: كيف تعلمت إيقاف القلق وحب القنبلة" Dr. Strangelove: or، How I Learned to Stop Worrying and love the Bomb، وفيه نجد النقد مغلفاً بسخرية كوميدية حادّة لا مهرب من تلقفها واضحة.

في هذا الفيلم "الأبيض والأسود أيضاً" نجد سترلينغ هايدن أيضاً في دور جنرال متعصّب يعتقد أن الشيوعيين قد تسللوا إلى عصب الحياة الأمريكية، وأن عليه الدفاع عن الحرية المهددة، تبعاً لذلك يقوم بإطلاق واحدة من الطائرات الحاملة للقنبلة النووية والتي لا يمكن إرجاعها إلى قواعدها أو تدميرها أمريكياً، رئيس الجمهورية الأمريكي "الكوميدي بيتر سلرز في ثلاثة أدوار في هذا الفيلم" يحاول إنقاذ الموقف، فيتصل بالرئيس السوفييتي ناقلاً إليه خبر قرب إلقاء القنبلة النووية فوق جزء من بلاده، وسامحاً له بتدمير الطائرة إذا ما استطاع.

في الوقت ذاته، تحاول القيادة الأمريكية إرسال فريق من الجنود لاحتلال مقر قيادة الجنرال، فتقع معارك طاحنة بينهم وبين المدافعين عن المقر الذي صدقوا أنهم روس في ثياب أمريكية.

أما على متن الطائرة المتوجهة إلى الأراضي السوفييتية، فالاستعداد جار على قدم وساق، لكن حينما يجد الملاحون الثلاثة أن الوقود غير كاف للعودة، يضطرون لإلقاء القنبلة في أي موقع فوق تلك الأراضي، المشكلة هي أن عطلاً يطرأ على عملية إنزال القنبلة من حجرها مما يؤدي إلى قيام أحد الملاحين "الممثل الراحل سليم بيكنز Slim Pickins" بركوب القنبلة في محاولة لفصلها عمّا يحول دون إطلاقها، إذ ينجح يجد نفسه وقد خرج من قلب الطائرة وهو مازال عليها، واللقطة الأخيرة له تصوّره يرفع قبعته كما رعاة البقر حين يركبون الخيول الجانحة.

الكثير من الخيال والكوميديا والنقد تداخل في هذا الفيلم الذي رفع من شعبية كوبريك النقدية والجماهيرية، والفيلم حتى من بعد كل تلك السنين مازال "حديثاً" متجدداً ومنفرداً في صياغته ومعالجته.

بعده، قدم كوبريك فيلمه الخيالي العلمي الكبـير "2001: أوديسا الفضاء" "1968" الذي انقسم بدوره إلى قسمين "كما الفيلم اللاحق "سترة معدنية واقية""، القسم الأول تصوير لما يمكن أن يكون تاريخ العنف والسلطة على الأرض ضمن المجتمعات الأولى، والثاني نقلة إلى العام 2001- أي بفاصل 33 سنة بحسبان تاريخ إنتاج الفيلم- حيث يحذّر كوبريك "حتى من ذلك الحين" من الاتكال الذي نشهده حالياً على الكمبيوتر والتكنولوجيا.

الفيلم صرخة ضد العلم المجيّر وانتقال السلطة من الإنسان إلى الآلة، كما أن فيلمه بريطاني الأحداث "كلوكوورك أورانج" كان صرخة- ولو مختلفة- ضد فلتان الأخلاقيات، وتعرّض الفقراء كما الأغنياء للمعاناة بسبب هذا الفلتان العنيف الشامل، وكيف تقوم السلطة بحل الأزمة عن طريق المزيد من القرارات الدكتاتورية. مثل "أوديسا الفضاء" وقعت أحداث هذا الفيلم في المستقبل، إنما من دون تحديد.

ثم الأزمة الفردية

لم يكن كل شيء في عالم كوبريك يدور في رحى السلطة الكبيرة، "التألق" The Shining هو عن السلطة الصغيرة.

عن رواية للكاتب الشعبي ستيفن كينغ، نقل كوبريك قصة رجل وزوجته وابنه الصغير متوجهين عبر دروب ثلجية طبيعية إلى فندق مقفل الأبواب لأن المنطقة تعمل صيفاً ولا يؤمّها شتاء أحد، وظيفته الجديدة هي المكوث في ذلك الفندق المقفل، ورعايته إلى أن يفتح أبوابه، وهو يجد أنها فرصة مناسبة لكتابة روايته الجديدة، إذ هو مؤلف روائي معروف.

لكن في ذلك المنعزل من كل شيء تتراءى لهذا المؤلف "كما يقوم به جاك نيكلسون" أشباح وأوهام سريعاً ما تؤثر عليه مستغلة خوفه وشعوره بالعزلة والوحدة الشديدة، هذا بدوره ما ينتج عنه جنوحاً نحو الجنون المطلق ومحاولته قتل زوجته وابنه، ثم نهايته مثلجاً بعدما ضاع في متاهة خارج جدران الفندق.

كوبريك صنع فيلم رعب مخيفاً فعلاً، ومثل أفلامه الأخرى لا يقلّد آخر قبله ولا يمكن تقليده على الإطلاق.

والحقيقة أن فيلم "التألق" يعود إلى الذاكرة حين مشاهدة فيلمه الأخير "عينان مغلقتان باتساع" حيث أن كليهما يتمتع بالحركات التصويرية ذاتها، المشاهد الطويلة وسحبات الكاميرات المتمهلة، والأجواء البرّاقة، والألوان المشعّة، والأضواء القوية، كذلك يتشابهان في أن كليهما يدور عن أزمة الفرد المتناهية وسط عالم أساءوا حل مشاكلهم فيه.

"عينان مغلقتان باتساع" يدور حول الطبيب الناجح والثري توم كروز المتزوج من امرأة بالغة الجمال والرقة "نيكول كيدمان" التي- كما نفهم إيحاء- تتألم منذ البداية لأن زوجها لا يستطيع أن يكون بجانبها حتى حينما يحضران حفلة واحدة.

بناء على موقف متشابك، يحدث في تلك الحفلة، حيث يراها تراقص رجلاً غريباً، وتراه يتحدث إلى فتاتين "وتعتقد أنه صعد معهما إلى غرفة بعيدة"، تذكر له حين يعودان إلى البيت المرفّه الذي يعيشان فيه أنها كثيراً ما تتخيل ذلك البحّار الذي التقته صدفة ذات مرة، صحيح أنهما لم يتعارفا، لكنه مازال يزورها في أحلام اليقظة، هذا الكلام يثير الزوج الذي يعتقد أن زوجته تخفي الحقيقة، وهي أنها خانته بالفعل مع ذلك الغريب، هذا ما يدفعه لقرار خاطئ وهو محاولة الانفتاح 180 درجة على المناسبات الغرامية، وبينها حفلة جنسية جماعية تقيمها جمعية سرية.

لكن الطبيب يخفق في كل محاولاته بما في ذلك الحفلة التي بدت فرصته القصوى، وفي نهاية الفيلم، يدرك أن الحل الحقيقي لكل أزمته هو، وكما تقول له زوجته، الحب بينهما.

هذا الفيلم الأخير لكوبريك إعلان عن موقع الحب المغيب في حياتنا كبشر، عن الإساءة إليه عبر الظن والشك والريبة ثم محاولة الانتقام عبر الخطيئة والأذى وتعريض النفس للخطر.

أسلوب كوبريك التعبيري من الرقي بحيث يتطلب مشاهدتين كاملتين لاستيعابه تماماً، لا عجب أن المخرج يصرف الوقت الكثير في إتقان كل حركة للكاميرا، للمونتاج، وكل حركة للممثلين.

في نحو نصف قرن، أخرج كوبريك أفلاماً قليلة، لكنه قال الكثير جداً فيها.

 

محمد رضا

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




المخرج ستانلي كوبريك





لقطة من عينان مغلقتان باتساع





نيكول كيدمان الزوجة التي تثير غيرة زوجها





توم كروز





لقطة من عينان مغلقتان باتساع مع توم كروز وسيدني بولاك