أرقام

أرقام

عالم النخبة!

شيئا فشيئا، يصبح عالمنا هو عالم النخبة. لا مكان فيه للفقراء والضعفاء وقليلي المعرفة.

بدأت الظاهرة ـ وفق ما هو متاح من أرقام ـ في القرن الماضي، فاتسعت ثغرة الدخل بين الشريحة الأغنى في العالم، والشريحة الأدنى دخلاً.. وبعد أن كانت نسبة ما تحوزه الشريحة الأولى للثانية "7: 1" عام "1820"، باتت النسبة "بعد خمسين عاما" "1:11".

في هذا القرن، وتحت تأثير زحف صناعي واسع، ومعرفة تكنولوجية تركزت في دول الشمال، باتت النسبة بين أكبر "20%" من السكان دخلا، وأقل "20%" تمثل ثلاثين ضعفا عام "1960"، ثم أصبحت "74" ضعفا عام 1997 !

قد تدهشنا الأرقام والتي تعني أن فردا يولد في الشمال سوف يكون نصيبه من الدخل "74" ضعفا لنفس الفرد إذا تم ميلاده في دول الجنوب أو خارج دائرة الدول والطبقات المحظوظة، وبصرف النظر عن فروق الأسعار وتكاليف المعيشة فإن الأرقام قد تعني أيضا أن فرص الأول في الحصول على السلع والخدمات التي تمثل مستوى معيشيا تزيد لأكثر من سبعين ضعفا على فرص الشخص الثاني. ينطبق ذلك على فرص السكن والصحة، ومتوسط العمر، والتعليم، والثقافة والترويح وكل شيء. بل إن ساعة عمل في الشمال تقدم نفس ما يجري إنتاجه في الجنوب قد تساوي أضعافا مضاعفة لما يتم دفعه جـنوبا!

وقد تزداد الدهشة إذا انتقلنا من مجموعات دولية، إلى عالم الأفراد والجماعات، فبينما تسجل الأدبيات العالمية العربية انتشار ظاهرة الفقر فإن تقرير التنمية البشرية الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة "1999" يشير إلى أن أغنى مائتي شخص في العالم قد زاد ما يملكونه في السنوات الأربع الأخيرة وفي ظل العولمة بمقدار تريليون دولار.. والأكثر أن أغنى ثلاثة أفراد في العالم يحوزون أصولا تفوق الناتج القومي لكل الدول الأقل نموا في العالم والتي تضم ستمائة مليون شخص. أي أن ثروة ثلاثة أشخاص تعادل أو تفوق دخل ستـمائة مليون في عام كامل!

من الشعوب.. للشركات

رحلة الأرقام مستمرة والدهشة أيضا مستمرة، وأما مجالات التمييز والتميز، والتهميش والإفقار على الجانب الآخر، فهي مجالات متعددة.

على مستوى الشعوب فإن دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والتي تضم "19%" من السكان تملك "71%" من تجارة السلع والخدمات و"58%" من الاستثمارات و"91%" من مواقع الإنترنت بما يعنيه ذلك الرقم الأخير من انطلاق في المعرفة.

وعلى مستوى الشعوب أيضا فإن خمس سكان العالم الأكثر دخلا يحوزون "86%" من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، و"82%" من أسواق الصادرات والسلع والخدمات و"68%" من الاستثمارات الأجنبية المباشرة و"74%" من الخطوط الهاتفية والاتصالات اللاسلكية في العالم وذلك مقابل "1%" في كل مجال من هذه المجـالات للشـريحة التي تضم الـ "20%" من السكان الأقل دخلا.. باستثناء وحيد هي الخطوط اللاسلكية والتي يصل نصيبها منها إلى "1.5%".

إنه تركز الثروة وانتشار الفقر، ليس على مستوى الدول فقط، ولكن على مستوى الأنشطة أيضا، فأكبر عشر شركات في العالم للمواصلات السلكية واللاسلكية تحوز "86%" من النشاط، وأكبر عشر شركات في مجال المبيدات "85%" من النشاط، وهكذا في معظم الأنشطة.

فإذا انتقلنا من الثروة إلى المعرفة فإن هناك عشرة بلاد تنفق "84%" من ميزانية البحث العلمي، كما أنها قد احتكرت وطوال الحقبتين الأخيرتين "95%" من براءات الاختراع التي تصدر في الولايات المتحدة، ومؤشر استخدام "الإنترنت" أو الكمبيوتر أو القنوات الفضائية يعطي نفس النتيجة: تركز في المعرفة، وانتشار للجهل!

ويلاحظ تقرير التنمية البشرية أن التغيرات التي حجبت العولمة لم تقتصر على الثروة والمعرفة فقط، ولم تقتصر على الفروق بين الأمم وحدها.

لقد حدث نفس الشيء، وهو الاتجاه إلى عالم من النخبة إن جاز التعبير، في مجال العمل، فبينما تزداد نسبة البطالة ويجد الكثيرون أنفسهم خارج سوق العمل، فإن الفرص تزداد أمام الأكثر علماً، والأكثر خبرة، وهناك طلب كبير لذوي المهارات، والمديرين، والعلماء ومقدمي البرامج الترويحية.

أما غير المهرة وقليلو المعرفة فأسواقهم محلية ومحدودة وأجورهم منخفضة! وداخل الوطن الواحد تحدث كل هذه المفارقات: تركز في الثروة والمعرفة وفرص العمل، وانتشار للفقر والجهل وفقدان لفرصة العمل الجيدة. يحدث ذلك في الصين إذا قارنا الأقاليم الساحلية التي تشتغل بالتصدير بالأقاليم الداخلية الأقل انتعاشا، ويحدث في دول شرق أوربا، بل يحدث أيضا في دول من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية مثل: السويد، وبريطانيا، والولايات المتحدة الأمريكية.

إنه عالم من اللامساواة.. فماذا كانت النتيجة؟

تركز في القوة

القاعدة القديمة وهي أن من يملك يحكم، مازالت سارية المفعول، والقاعدة القديمة تنصرف ـ على الأرجح ـ إلى قضية الثروة، فما بال إذا كان ما يملكون الآن: ثروة، ومعرفة وفرص عمل؟.

وبالفعل فإن مراكز السيطرة السياسية والاقتصادية والعلمية والعسكرية في العالم، هي نفسها تلك المجموعة من الدول والشركات والمنظمات التي تملك أكثر.

ونستطيع أن نتوقع أنه مع انسياب أكثر للسلع والخدمات في ظل عولمة تشترط فتح الحدود، فإن التأثير الاقتصادي والسياسي والثقافي سوف يكون لمن يملك حجماً أكبر من المعاملات، فإذا كانت دول منظمة التعاون الاقتصادي والتي تمتد من اليابان شرقا للولايات المتحدة غربا عبورا بغرب أوربا، إذا كانت دول هذه المنظمة تملك 71% من تجارة العالم فإنه لابد أن يكون لها نفس نسبة التأثير في خلق العادات والتقاليد وأنماط الاستهلاك، بل أنماط الاستثمار أيضا والشواهد على ذلك قائمة فكثير من السلع أصبحت عالمية بمعنى الكلمة، وكثير من حملات الترويج باتت تغزو شاشات "التلفزيون" وكأنها تخاطب سوقا واحدة متجاهلة أي حدود قطرية.

أيضا، وفي نفس الاتجاه يأتي ذلك التأثير الضخم لاحتكار المعرفة، وما يشبه الاحتكار في مجال البحوث العلمية والذي تمثله عشر دول، هي نفسها التي سوف تملك مستقبل العالم في القرن المقبل. لها موقع الريادة والإمامة، ونحن من ورائها نستهلك المعرفة ولا ننتجها، ندفع ثمن التخلف، ويتقاضون هم ثمن المعرفة.

يتحدث البرنامج الانمائي للأمم المتحدة عن غياب الأمن في ظل الشكل الحالي للعولمة، ويقصدون الأمن الاقتصادي والسياسي وفرص العمل والبيئة وكل شيء.

وفي الواقع العملي، وبعيدا عن تقرير التنمية البشرية فإنه يمكن القول إن ظاهرة الثروة والفقر، أو ظاهرة النخبة والرعية كانت وراء الكثير من حالات التوتر والحروب التي نشبت، فالصراع في وسط آسيا ومن حول أفغانستان لا ينفصل عن صراع البترول، والصراع في البلقان لا ينفصل عن امتلاك الثروات والمنافذ البحرية، بل إن بعض الصراعات العربية كانت خلفيتها قضية الثروة.إنه عالم جديد تتسع فيه الفروق بشكل غير مسبوق، وتغيب فيه فكرة العدل بشكل يعيد للذاكرة عصر العبيد، لكنهم عبيد بملابس للسهرة، وسادة لا يرددون كلمات مثل: الاستعمار والتبعية، فالقاموس الجديد يضم كلمات أخرى مثل: الاندماج، والاحتواء، والقرية الكبيرة التي تخلقها العولمة.

ولكن.. أليس ذلك كله نوعا جديداً من التطرف غير ما عرفناه من تطرف فكري? أليس التركز الشديد للثروة والمعرفة وفرص العمل وفرص الحياة وبما يقابلها من فقر على الجانب الآخر، أليس كل ذلك تطرفا يهددنا في المستقبل؟ أظن ذلك.

 

محمود المراغي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات