شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ

التحدي.. ونقمة الطغيان

ألقى الراهب "سافونارولا" بالهدية في وجه رجال الحاكم "بيرو دي مديتشي" الذين أرسلهم لاسترضائه، وحملهم رسالة تنطوي على الترغيب والترهيب، طالبا منه أن يكف عن سخريته به، وأن يوقف نقده للفساد الشائع بين رجال الدنيا والدين على السواء..!

الصراع بين آل مديتشي والراهب سافونارولا يروي أحداثه التاريخ.فقد خلف بيرو أباه لورنزو في سلطانه على فلورنسا الإيطالية. ولكن سوء خلقه وفساد أحكامه أفقداه حب الشعب، ذلك الحب الذي كان يقوم عليه حكم آل مديتشي.

وكان من المحن الكثيرة التي لازمته أن مشروعات أبيه وإسرافه، أفقرا خزانة عاصمة النهضة، كما أن زوجة بيرو الأرسينية كانت تشمخ بأنفها الروماني على مواطنيه وترميهم بأنهم أمة من أرباب الحوانيت.

وفي آخر أيام لورنزو الأب، ظهر سافونارولا الراهب الذي كانت أولى كتاباته المعروفة قصيدة يندد فيها برذائل إيطاليا بمن فيهم البابوات أنفسهم، وينذر نفسه لإصلاح بلده وكنيسته.

وكان من بين ما قاله: "إن الانتقام الإلهي سيحل بالطغاة والزناة والكافرين، ممن خيل إليهم أنهم يسيطرون على إيطاليا".

وصاغ الراهب عظاته في صورة التشهير بالرذائل الخلقية، والتنبؤ بيوم الدين، والدعوة إلى التوبة. واختير الرجل رئيسا لدير سان ماركو حيث وجد فيه لورنزو عدوا أشد صرامة وقوة من أي عدد آخر ممن عارضوه.

وذهل الناس من شجاعة الراهب الذي كان تنديده صاخبا ضد رجال الدنيا والدين. وكانت قسوته على الأمراء أشد منها على الشعب الغارق في الملذات. وسرى في قلوب البسطاء تيار قوي من التطرف والاستهانة بالحكم والحكام.

واضطرب لورنزو لأقوال الراهب، فقد كان جده هو الذي أنشأ ديرسان ماركو وأغناه. وبدا له أن مما لا يقبله العقل أن يقوم ذلك الرجل من فوق منبر البيت المقدس الذي أنشأه آل مرتيشي، فيقضي على ذلك التأييد الشعبي الذي قام على أساسه سلطان أسرته. وحاول لورنزو أن يسترضي الراهب فجاء ليحضر القداس وينفح الدير بهبات شخصية. إلا أن الراهب ازدراه وقال له: إذا كنت تريدني أن أسكت، فلتكف أنت عن سيئاتك..!

الهجوم لا يلين

مات لورنزو، وجاء ابنه بيرو الشاب الفاسد. وكان ضعف الابن سببا في أن أصبح سافونارولا أكبر قوة في البلاد. وحين فاحت رائحة مفاسد إسكندر السادس بابا روما، أصبح الراهب أشد جرأة فيما يوجهه من نقد للفساد الشائع وقتئذ بين رجال الدنيا والدين. وأخذ يندد بالثراء الدنيوي الذي يستمتع به رجال الكنيسة بما يتجلى في الحفلات الكنسية من فخامة وأبهة. وراح يشنع على الأحبار الكبار الذين يضعون على رءوسهم تيجانا فخمة من الذهب والحجارة الكريمة، ويزينون ملابسهم الفخمة بأوشحة منسوجة من الديباج المقصب. وأخذ يقارن ذلك بما كان عليه رجال الدين الأولون من بساطة "فقد كانوا يعطون القليل الذي يملكون، ليسدوا حاجة الفقراء والمعوزين. أما أحبارنا فإنهم ينهبون من الفقراء ما يقيمون به أودهم ليحصلوا هم به على أقداحهم وتيجانهم".

وزاد الطين بلة أن الراهب تنبأ بأن الله سيرسل على إيطاليا كارثة مدلهمة، ينتقم بها لذنوبها وآثام طغاتها، ثم يتنبأ بأن فرنسا ستغزو إيطاليا، وهو ما حدث بعد ذلك بالفعل حين انقض شارل الثامن على إيطاليا يعتزم ضم مملكة نابولي إلى التاج الفرنسي. وظن بيرو أنه يستطيع إنقاذ بلاده من فرنسا بالذهاب بنفسه إلى عدوه وسلم له بكل ما يريد. وكان رد مجلس الحكام بزعامة المعارضين لآل مديتشي وبتأييد من سافونارولا أن يخلعوه ويعيدوا الجمهورية القديمة. فلما عاد بيرو وجد أبواب قصره مغلقة في وجهه، وفوجئ بالناس يهزءون به والصبية يقذفونه بالحجارة، ففر هو وأسرته.

ثورة أخلاقية رائعة

الآن. استطاع الراهب المتحدي تحقيق بعض آماله. وأنشأت الحكومة الجديدة بتوجيه منه مكتبا للقروض للفقراء حتى لا يعتمدوا على المرابين. وألغيت جميع الضرائب ما عدا ضريبة العشر من دخل الأملاك العقارية التي أعفي منها التجار. وحاول المجلس بتحريض من الراهب أن يصلح الأخلاق والقوانين، فحرم سباق الخيل والأغاني البذيئة في الحفلات التنكرية، وجرم الميسر وانتهاك الحرمات. وارتضت المدينة هذه الإصلاحات إلى حين. وأخذ الأهالي يتغنون في الشوارع بالترانيم الدينية بدلا من الأغاني المبتذلة..

كانت ثورة أخلاقية رائعة...

ولكن كل ذلك لم يجد تأييدا من طوائف كثيرة وخاصة بقايا حزب دي مديتشي. وأخذ هذا الحزب يدبر المؤامرات لعودة بيرو. وتكدست الجموع المعادية أمام دير سافونارولا وراحت الغوغاء تهاجم عظاته. وحاولوا خلال الشغب أن يقبضوا عليه. وكانت قمة المعاناة للراهب أن يواجه ويتحدى أعظم قوة في إيطاليا وهو البابا إسكندر السادس الذي كان يرى ضرورة إسكات الراهب الذي يواصل تحديه للبابوية بخطبه النارية. وأرسل البابا إلى مجلس السيادة أمرا بأن يمتنع عن الخطابة وأن يخضع لسلطان الوكيل العام للرهبان الدومينيك في لمباردي، وأن يرحل إلى أي مكان يأمره هذا الوكيل بالرحيل إليه.

وإذا كان سافونارولا قد توقف عن الخطابة فترة في محاولة لتفادي إحراج مجلس السيادة، إلا أنه عاود إلقاء مواعظه بعد أن رد على رسالة البابا قائلا: "إذا ما تبينت بوضوح أن رحيلي عن مدينة ما، سيؤدي إلى هلاك أهلها الروحي والزمني، فإني لن أطيع إنسانا على ظهر الأرض يأمرني بالرحيل عنها، لأني إن أطعته عصيت أوامر الله".

انقلاب وعقاب

راح الراهب يندد من جديد في موعظة يوم أحد الصوم الكبير بأخلاق روما عاصمة العالم المسيحي.

وفي روما انقلب الناس على الراهب انقلابا كبيرا وأخذوا يطالبون بانزال العقاب به. وانتهز البابا الفرصة فوقع قرارا بحرمان سافونارولا. وبلغ عصيان الراهب مداه ووقف في كنيسة سان ماركو فوصف قرار الحرمان بأنه قرار ظالم باطل، واتهم كل من يؤيده بالمروق عن الدين. وانتهى الأمر بأن أصدر هو نفسه قرارا بحرمان البابا قائلا: "فلتحل اللعنة على من يصدر أوامر تتعارض مع الخير. وإذا ما نقض أي بابا بما يناقض ذلك فليعلن حرمانه".

وكان لابد لمجلس السيادة أن يتخذ موقفا، خاصة عندما أعلن أحد الرهبان الفرنسسكان أنه يتحدى سافونارولا ويدعوه إلى التحكيم الإلهي بواسطة النار. وأعدت في وسط الميدان كومتان متماثلتان من الخشب الممزوج بالقار والزيت والراتنج والبارود. وشكل مجلس السيادة محكمة تفتيش عاجلة بأمر البابا. وجرى المحققون على الشريعة التي سنتها محكمة التفتيش.

ودانت المحكمة الراهب سافونارولا باعتباره منشقا وخارجا على الدين. وأوقدت تحت الراهب ومتحديه نار حامية أحالت جثتيهما رمادا، ثم ألقي بالرماد في نهر الأرنو لئلا يقدسه الناس بوصفه بقايا القديسين..!

 

سليمان مظهر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات