جمال العربية

جمال العربية

نازك الملائكة:
وتجليات إبداع نصف قرن

منذ نصف قرن، كتبت الشاعرة العراقية نازك الملائكة تقول: الذي أعتقده أن الشعر العربي، يقف اليوم على حافة تطور جارف عاصف، لن يُبقي من الأساليب القديمة شيئاً، فالأوزان والقوافي والأساليب والمذاهب ستتزعزع قواعدها جميعاً، والألفاظ ستتسع حتى تشمل آفاقاً جديدة واسعة من قوة التعبير، والتجارب الشعرية- الموضوعات- ستتجه اتجاهاً سريعاً إلى داخل النفس، بعد أن بقيت تحوم حولها من بعيد. أقول هذا اعتماداً على دراسة بطيئة لشعرنا المعاصر واتجاهاته، وأقوله لأنه النتيجة المنطقية لإقبالنا على قراءة الآداب الأوربية ودراسة أحدث النظريات في الفلسفة والفن وعلم النفس.

والواقع أن الذين يريدون الجمع بين الثقافة الحديثة وتقاليد الشعر القديمة، أشبه بمن يعيش اليوم بملابس القرن الأول للهجرة، ونحن بين اثنين: إما أن نتعلم النظريات ونتأثر بها ونطبّقها، أو ألا نتعلمها إطلاقاً.

واختتمت نازك الملائكة نبوءتها الشعرية بقولها:

إنني أؤمن بمستقبل الشعر العربي إيماناً حارّا عميقاً، أؤمن أنه مندفع بكل ما في صدور شعرائه من قوى ومواهب وإمكانات، ليتبوأ مكاناً رفيعاً في أدب العالم.

وألف تحية لشعراء الغد!

والمتأمل الآن في جماليات العربية عبر تجليات الإبداع الشعري خلال مسيرة نصف قرن من المغامرة والتجريب والاختلاف، يدهشه أن نبوءة نازك كانت بداية الشرارة لموجات متتابعة من الإبداع، جسّدت نموذج قصيدة الشعر الجديد، الشعر الحر، ثم تجاوزت هذا النموذج إلى قصيدة النثر، ولايزال باب الدهشة مفتوحاً لكل من يمتلك الموهبة العاتية، والقدرة على فعل التغيير، واكتشاف جماليات جديدة لم تكن معروفة من قبل.

تقول نازك الملائكة وهي تتجه بخطابها الشعري إلى العام الجديد:

يا عام لا تقرب مساكننا، فنحن هنا طيوف
من عالم الأشباح، ينكرنا البشر
ويفرّ منا الليل والماضي، ويجهلنا القدر
ونعيش أشباحاً تطوف
نحن الذين نسير لا ذكرى لنا
لا حلم، لا أشواق تشرق، لا مُنى
آفاق أعيننا رماد
تلك البحيرات الرواكد في الوجوه الصامتة
ولنا الجباه الساكتة
لا نبض فيها، لا اتقاد
نحن العراة من الشعور، ذوو الشفاه الباهتة
الهاربون من الزمان إلى العدم
الجاهلون أسى النوم
نحن الذين نعيش في ترف القصور
ونظلّ ينقصنا الشعور
لا ذكريات،
نحيا، ولا تدري الحياة،
نحيا، ولا نشكو، ونجهل ما البكاء
ما الموت، ما الميلاد، ما معنى السماء

ثم تقول نازك:

يا عام سر، هو ذا الطريق
يلوي خطاك، سُدى نؤمل أن نفيق
نحن الذين لهم عروق من قصب
بيضاء أو خضراء، نحن بلا شعور
الحزن نجهله، ونجهل ما الغضب
ما قولهم إن الضمائر قد تثور
ونود لو متنا فترفضنا القبور
* * *

هذه اللغة المتململة، وهذا الانعطاف إلى الداخل دوراناً في تلافيف الذات، وزوايا الوجدان، وهذه الرؤية القاتمة التي تستشرف غداً يأتي به عام جديد، لكنه يأتي لمن هم عراة من الشعور، وهاربون من الزمان إلى العدم.

بعد نصف قرن، من تجليات الإبداع العربي، ومن نبوءات نازك، هل يمكن وصف الحال بأنه قد تغير، وهل يمكن قراءة الوجه الباطني لشعر نازك قراءة ترى في التململ علامة على الثورة والتمرّد، وفي الدلالات الحزينة والقاتمة غضباً مكظوماً وبركاناً يوشك أن ينفجر? إن الجديد الذي مثله شعر نازك، بكل ظلاله وجمالياته وروعة تشكيله وانسيابيته- في تلك المرحلة منذ نصف قرن- يكمن في دائرة التحوّل، والاستبصار بالتغيير القادم، وحتميته ومشروعيته في آن.

حتى في حواريتها التي أدارتها بين شخصيتين أولاهما نازك في مرحلة "قرارة الموجة" وثانيتهما نازك في مرحلة "شجرة القمر"، حتى في هذه الحوارية تتفجّر ينابيع الثورية والتجديد، من خلال لغة نازك الشفيفة، المحمّلة بالوعي والخبرة، النابضة بالحكمة والحياة، عندما تقول الثانية للأولى:

ألا يبدو أن فتاة أخرى هي التي ستتحكم في شعري أنا؟ واحدة لا أعرفها الآن، ستنبع من المستقبل وتواجهني ولن يروقها شعري، أغنيتي هذه الأخيرة التي تنتفض فيها الوردة الحمراء، وتتفجّر الدموع المختبئة فيها، هذه الأغنية التي أراها أنا أجمل ما يمكن أن أنظم، يجوز أنها لن تسمح لي بنشرها كما أصنع أنا بقصائدك.

وعندما يحتد الحوار بينهما حول الفلسفة، حول معنى المعنى في النص الشعري، وما يمكن أن تبوح به القصيدة من جلوات الفكر وإشراقات الروح، تحاول الأولى أن تستشهد بقصيدة عنوانها "طريق العودة" لأنها تلخصها، فتجيبها الثانية: طبعاً تلخصك، ولهذا أراني لا أنسجم معك، إني أحب طريق العودة ولا أستسيغ كرهك له وثورتك عليه، اسمعي ما تقولين:

لماذا نعود؟
أليس هناك مكان وراء الوجود؟
نظلّ إليه نسير
ولا نستطيع الوصول
فترد الأولى في لهجة حالمة: حقّاً، لماذا نعود؟

إن طريق الرواح مملوء بالحياة والجمال دائماً، وما نكاد نقرر الرجوع حتى يركد كل شيء، وتلوح الأشياء جامدة مملّة، طريق الرواح يعرض علينا الأشياء أول مرة، فنراها بلهفة تخفي ما فيها من معايب، بينما يقدّمها لنا طريق العودة، وقد فقدت جدّتها.

عندئذ تتولى الثانية- وهي نازك في نضجها واكتمالها واتساع دائرة وعيها بالحياة والإنسان ـ مهمة تقديم الوعي الكاشف والتحليل العميق، وهو وعي يمتزج أحياناً بقدر من السخرية والرغبة في لفت الانتباه إلى أهمية التغيير في الموقف والرؤية والإحساس، تقول:

واأسفاه، أنت إذن تؤمنين أن آمالنا هي دائماً أجمل من تحققها، أترى الكأس أعذب حين لا نملكها? أتصبح بلا طعم إذا نحن بلغناه وتناولناها؟

إنك يا صديقتي- تقصد نازك الأولى- لا تقوين على التحديق في الأشياء خوفاً من أن يكشف طريق العودة ما تخفيه النظرة العجلى، أليس هذا هو السرّ في قصيدتك "لنفترق"، فلماذا أردت هذا الفراق وألححت عليه؟ اسمعي أبياتك:

ومازال وجهك مثل الظلام، له ألف معنى
وقد يعتريه جمود الصّنم
إذا رفع الليل كفّيه عنّا

هكذا تحاولين أن تهربي من التحديق في الأشياء، وتؤثرين أن تستبقي على عينيك غشاوة تحجب عنك كل شيء، إنك تكرهين أن تبلغي القمة، لئلا يلوح لك المنحدر، وتمقتين أن تصلي إلى نهاية الطريق لئلا تضطري إلى الرجوع. وتحبين، ماذا تحبين أنت؟ إنك بكلمة واحدة لا تحبّين الوصول إلى أي مكان.

وفي نهاية هذه الحوارية- التي تعد من إبداعات نازك النثرية التي ترقى إلى أفق إبداعاتها الشعرية- لغة وإفضاء وجمال صياغة وإحكام تعبير وهندسة بناء وجدلية فكر- في نهايتها تقول الثانية للأولى التي أعلنت عودتها إلى قوقعتها: أما أنا، فإن نفسي الجديدة تنتظرني في مكان ما من المستقبل القريب، وسأذهب للقائها!

إن شاعرية نازك الملائكة- على امتداد مسيرة نصف القرن- تظل شاهد التحوّل والمغامرة، ووعي التغيير وضرورة التجديد، وتبقى مساءلة دائمة تطرحها الشاعرة على ذاتها ديواناً بعد ديوان، وقصيدة بعد قصيدة، وأفقاً بعد أفق، ودرساً للأجيال الشعرية الراهنة والقادمة، في معنى الشعرية الأصيلة، ومعنى تجاوزها المستمر لذاتها اكتشافاً ومساءلة.

هل نختتم تجليات الجمال في شعر نازك ونثرها بهذه اللوحة الشعرية الثرية "أغنية للقمر":

كأس حليب مثلّج ترف

أم جدول سائل من الصدف؟

أم غسق أبيض يسيل على

خدود ليل معطّر السدف؟

أم حقّ عطر ملوّن خضل

يقطر شهداً لكلّ مغترف?

أم أنت خدّ مزنبق أرج

ينعس فوق الأعشاب والسعف

يا فضة كالضياء ليّنة

يا لون حبي القديم، يا شغفي!

***

ما أنت يا دورق الضياء، ويا

كواكبا في الظلام منصهرة؟

يا قُبلا سوسنية سكبت

شهدا مُصفّى في ليلة عطرة

يا مخبأ للجمال، يا حُزماً

من زنبق في السماء منعصرة

ويا شفاها من الضياء دنت

تمسح وجه العرائس النضرة

يا بركة العطر والنعومة يا

سلّة فلّ في الأفق منحدرة!

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات