العـرب.. والـحـاجـة إلـى سـيـاسـة ثقـافـيـة للتنمـيـة

العـرب.. والـحـاجـة إلـى سـيـاسـة ثقـافـيـة للتنمـيـة

قضايا عامة

تواجه الدول النامية تحديات تتمثل في تهديد الذاتيات الثقافية والفقر والتفاوت الكبير بين دول الشمال ودول الجنوب في مناحي الحياة جميعا, والشعور بالعجز والتصاغر والانسحاق, تلك التحديات تهدّد بإشعال الحروب والعنف والانتقام. لهذا, فإن الخطر سيف ذو حدّين, مصلت على العالم بأسره في وقت واحد.

إن إدراك دول العالم جميعاً, الغنية القوية منها والفقيرة النامية, هذا الخطر الداهم والمهدِّد للجميع, يفسّر لنا تنادي دول العالم منذ العقد الأخير من القرن الماضي, إلى دراسة المستجدات واقتراح الحلول ورسم السياسات, ويتجلى ذلك في اهتمام منظمة الأمم المتحدة ومنظمة اليونسكو بموضوع السياسات الثقافية. فمنذ عام 1991 شكّلت المنظمتان الدوليتان لجنة عالمية مستقلة برئاسة الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة خافيير بيريز ديكويلار, وعضوية مفكرين متميّزين يمثلون الأقاليم الثقافية في العالم, كلّفت إعداد تقرير لاقتراح الخطط العاجلة وطويلة المدى للنهوض بالعمل الثقافي لتحقيق التنمية البشرية. وكان تقرير اللجنة المعنون (التنوع البشري المبدع) أساس وثيقة خطة عمل للسياسات الثقافية من أجل التنمية التي أقرتها مائة وتسع وأربعون دولة, بما فيها الدول العربية, في (مؤتمر السياسات الثقافية من أجل التنمية) الذي عقدته اليونسكو في ستوكهولم عام 1998.

اعتمدت الخطة وتقرير ديكويلار مفهوماً للتنمية مفاده أن التنمية البشرية هي عملية توسيع مجال الخيارات أمام الناس, وهو مفهوم يقيس التنمية بمدى توافر تنوّع واسع من الإمكانات المتاحة أمام الناس تتراوح بين الحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى الفرص المتاحة أمام الفرد ليتمتع بالصحة والتعليم والثقافة ويكون منتجاً وخلاقاً وينعم بالكرامة وحقوق الإنسان. وليس الهدف النهائي للتنمية سوى تحقيق الخير المادي والذهني والاجتماعي لكل إنسان.

الحرية الثقافية والكرامة

ولا شك أن العنصر الثقافي أساسي في هذا المفهوم للتنمية, كما أن الحرية الثقافية حيوية لتحقيق الكرامة الإنسانية. والحرية الثقافية, كما أكد تقرير ديكويلار, خلافاً للحرية الفردية, هي حرية جماعية, فهي تشير إلى حق جماعة من الناس في أن تتخذ ما تشاء من أساليب الحياة. والحرية الثقافية هي ضمان للحرية بما هي كل متكامل, فهي تتجاوز حماية الجماعة إلى حماية حق كل فرد من أفرادها. والحرية الثقافية بحمايتها مناهج الآخرين في الحياة, تشجع على التجريب والتنوع والخيال والإبداع. وقد خلص التقرير إلى نتيجة مهمة في هذا الموضوع وهي أن التنمية الحقيقية ليست تلك التي تسعى إلى ردم الهوة وتجاوزها بين الدول الفقيرة والدول الغنية فحسب, بل تلك التي تُظهر أن التقاليد الخاصة بكل ثقافة من الثقافات يمكن أن تدمج بالموارد الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية الحديثة فيكون للشعوب حقها في رسم تصوراتها الخاصة للحداثة المرتبطة بتراثها وتقاليدها, فلا تملى عليها أنماط الحداثة الغربية ولا تفرض عليها مبادئها الغريبة عنها باسم الحداثة.

هذا المفهوم المحدد للتنمية البشرية يطرح السؤال المتعلق بكيفية بلوغ الأهداف المنشودة لتحقيق إنسانية الإنسان وخير المجتمع البشري. وقد تمثلت الإجابة في المبدأ الذي أقرته الخطة وهو أن (التنمية المستديمة والازدهار الثقافي مترابطان يعتمد كل منهما على الآخر). وأعادت الخطة تأكيد التعريف الذي وضعه للثقافة المؤتمر العالمي للسياسات الثقافية الذي عقدته اليونسكو في مكسيكو في 6 أغسطس 1982 وينص على: (أن الثقافة, بمعناها الواسع, قد تكون اليوم عبارة عن جماع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تُميّز مجتمعا بعينه أو فئة اجتماعية بعينها. وهي تشمل الفنون والآداب وطرائق الحياة كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات..).

ومن الطبيعي أن تكون السياسات الثقافية محور خطة العمل التي أقرّها مؤتمر ستوكهولم, إذ لا سبيل إلى تحقيق الأهداف المرسومة إلا بصياغة سياسات ثقافية ملائمة وإعادة النظر في السياسات الثقافية الراهنة على المستويات المحلية والوطنية والإقليمية والعالمية في آن معا. وقد أكدت الخطة (أن الأهداف الرئيسية للسياسات الثقافية هي في تحديد الأهداف وإنشاء البنى وتأمين الموارد المناسبة لخلق بيئة يصل فيها الإنسان إلى تحقيق إنسانيته).

ولما كانت السياسة الثقافية تمثّل أحد المكوّنات الرئيسية لسياسة إنمائية مستديمة تعتمد النماء الذاتي الداخلي, فلابدّ من تنفيذها بالتنسيق مع السياسة في مجالات اجتماعية أخرى على أساس التوجّه المتكامل, كما أنه ينبغي على كل سياسة تنموية أن تأخذ في الحسبان, بشكل جدّي, الثقافة في ذاتها.

ملامح أساسية

رسمت الخطة الملامح الأساسية للسياسات الثقافية الموصى باتباعها تمثّلت في الحوار بين الثقافات, وحرّية التعبير تحقيقاً للتفاعل وللمشاركة الفعّالة في الحياة الثقافية, وتشجيع الإبداع في مختلف أشكاله, وإعطاء الفرص للمواطنين جميعاً بكل فئاتهم, لممارسة النشاطات الثقافية والتمتّع بالخبرات الثقافية, وإثراء الشعور بالهويّة الثقافية والانتماء لدى كل فرد ومجموعة ودعمهم في بحثهم عن مستقبل كريم وآمن. كما دعت الخطة إلى تحقيق الاندماج الاجتماعي وتحسين نوعية الحياة لكل أفراد المجتمع من دون تمييز, واحترام المساواة بين المرأة والرجل, مع الاعتراف الكامل بحقوق للمرأة مماثلة لحقوق الرجل وبحرّيتها في التعبير وضمان وصولها إلى مناصب صنع القرار, وأكّدت أن المشاركة الفعالة في مجتمع المعلومات وتمكن كل فرد من تقنيات الإعلام والاتصال يمثّلان بعدا رئيسيا لأي سياسة ثقافية.

إن الأمة العربية, شأنها شأن الدول النامية جميعاً, تعصف بها تحديات خطيرة تزداد حدّة وقسوة مع مرور الزمن, وكأن لا ذروة ثابتة لها, تحديّات سياسية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية وثقافية تهدّد ذاتيتها وكيانها وتطرح أسئلة عميقة الدلالة وصعبة الإجابة في شأن مستقبل أجيالها الصاعدة. ولا شك في أن إدراك كون المعضلة التي نواجهها معضلة حضارية.

في الدرجة الأولى, يبرز العنصر الثقافي بما هو العنصر الحيوي في الاستجابة للتحديات الأليمة التي ينبغي على الأمة أن تنهض لها. ولابدّ من إقناع أصحاب القرار في أقطار وطننا العربي بأن الارتقاء بالحياة الثقافية للمواطن العربي, بالمعنى الواسع الذي بيّناه, شرط أساسي لتحقيق التنمية الشاملة. فلن تحقق الخطط التنموية أهدافها ما لم تأخذ العنصر الثقافي في الحسبان بجدية تامة, ولن تعطي تلك الخطط نتائجها المرجوة ما لم تُرسم وتنفّذ بصيغة متكاملة, متجاوزة الاختصاصات التقليدية المتعارف عليها بين القطاعات المختلفة في مجالات التنمية.

الأمية تزحف

إن أمامنا, نحن العرب, أشواطاً طويلة لا بد أن نقطعها, في سباق مع الزمن, حتى يظلّ لهذه الأمة العريقة وجود على صفحات تاريخ حديث لا يرحم المتواني ولا يغفر لمن يخطئ. ففي عصر أصبحت الأميّة فيه هي الجهل باستخدام تقنيات الاتصال, مازالت الأمية الأبجدية مرتفعة المعدلات لم نستطع القضاء عليها رغم الخطط والمحاولات, ومازالت معدّلات التسرب من التعليم مثيرة للقلق, ومازالت المناهج الدراسية بعامة, تعاني الغربة عن العصر وتجترّ أساليب تربوية تجاوزها الزمن, ويتراجع, عاماً بعد عام, عدد الكتب المطبوعة في أقطار الوطن العربي كما تتناقص نسخ ما يطبع منها, وتظلّ الملكية الفكرية حقلاً سائباً للتجار والسماسرة, والمبدعون محرومون من حقوقهم القانونية. وفي عصر الطرق السريعة للمعلومات والسماوات المفتوحة للفضائيات تغلق حدودنا الأرضية في وجه الصحيفة والمجلة والكتاب, ويحاكم الكتّاب, ويُحكم على المؤلفين والمبدعين.

ويبقى ضئيلاً, قياساً بما ينبغي أن يكون عليه, عدد قاعات المسارح ودور السينما وصالات العروض التشكيلية والمكتبات العامة والمراكز الثقافية, وتعدّ متدنيّة - قياسا على المتوسط العالمي وتتدنى أحياناً عن المعدلات في البلدان النامية - نسبة امتلاك أجهزة الراديو والتلفزيون وعدد نسخ الصحف وورق الطباعة لعدد المواطنين في مجموع الدول العربية. ففي حين يصل المتوسط العالمي لامتلاك أجهزة الراديو للألف مواطن 364 جهازاً ينخفض إلى 264 جهازاً في الدول العربية. والمتوسط العالمي لامتلاك أجهزة التلفزيون 228 جهازاً ينخفض إلى 138 جهازاً في الدول العربية مقابل 145 جهازاً في الدول النامية. وفي حين أن المتوسط العالمي لعدد نسخ الصحف لكل ألف مواطن هو 115 نسخة فإنه ينخفض في الدول العربية إلى 35 نسخة مقابل 50 نسخة في الدول النامية, ويتحدد المتوسط العالمي لورق الطباعة لكل ألف طن بـ 20.9 ولا يتجاوز 2.9 في الدول العربية مقارنة بـ 5.2 في الدول النامية.

الاتصالات المقطوعة

وفي مجال الاتصال يفتقر الوطن العربي إلى البنية التحتية للاتصالات, فلا تتجاوز نسبة الربط بشبكة الهاتف 6 من كل مائة مواطن في معظم الدول العربية بينما تتجاوز هذه النسبة 60 مواطناً في الدول المتقدمة. ولا تتعدى نسبة المشتركين بشبكة الإنترنت مواطناً واحداً من كل ألف مواطن في أغلب الدول العربية بينما تفوق هذه النسبة المائة مشترك في عديد الدول المصنعة.

وتشكو الدول العربية من نقص في توافر وسائل الاتصالات الحديثة في المنازل خاصة, إذ لا تصل نسبة امتلاك أجهزة الكمبيوتر الشخصية إلى 30 جهازاً للألف مواطن في حين ترتفع هذه النسبة إلى ما يتجاوز 150 جهازاً في معظم الدول المصنّعة.

ولا توجد في الدول العربية صناعات ثقافية, باستثناء تجميع أجهزة التلفزيون في عدد منها وصناعة 20 في المائة من ورق الكتابة, وتغطّى بقية احتياجات السوق بالاستيراد, ولم توفّر الحكومات العربية الامتيازات والتسهيلات والحوافز لتشجيع المستثمرين على إقامة هذه الصناعات. ويبقى الأمن الثقافي العربي مهددا مادمنا لم نصل إلى إيلاء اهتمامنا لما يسمّى بصناعات المحتوى الثقافي, فتبقى أسواقنا الثقافية وعقولنا مفتوحة للإنتاج الثقافي الأجنبي, ويقف المبدع العربي عاجزاً أمامه, مكبّلاً وسط مناخ غير موات للإبداع ولم تتوافر له الحوافز المادية المشجعة عليه. ويظلّ الإنتاج العربي ينتظر تأشيرات الدخول على الحدود العربية - العربية المفتوحة أمام الإنتاج الأجنبي.

وفي عصر يفرض إيقاعه المتسارع على كل فرد من أفراد المجتمع أن يكون فاعلاً إلى أقصى حدود الطاقة الإنسانية, تعاني مجتمعات عربية عديدة شللا نصفيا, فالمرأة فيها - الأم والأخت والزوجة لهذا الجيل وللجيل القادم - تنوء تحت أثقال التقاليد البالية وتلفّها أجواء القهر الاجتماعي الخانق وتحرم من فرص التعليم والعمل. كما أن معدّلات وفيات الأطفال, ومعدّلات عمر الفرد وبخاصة النساء, ونسب الإنتاج الحرفي والزراعي, ومؤشرات التنمية الريفية لم تبلغ المستويات المنشودة.

فأين نحن من اللحاق بالعصر? وكيف سنواجه تحدّياته القاهرة? ومن أين نبدأ?

ليس المقصود من رسم هذه الصورة القاتمة للأوضاع العربية شلّ العزائم, والركون إلى اليأس, والتباكي على الواقع المؤلم, لكنها صيحة الدعوة إلى الصحوة من رقاد طويل والانطلاق في فضاء العصر الجديد, انطلاقة تنتقي بروح نقدية مثقفة ومسئولة, من ماضي هذه الأمة العريقة تجلّياته المشرقة, لتزاوجها مع أفضل ما أفرزته الحداثة في هذا العصر من قيم الحريّة والعدالة واحترام حقوق الإنسان والمساواة بين البشر وتشجيع الإبداع وتبجيل العلم وتأكيد قيمة العمل, وهي قيم أخلاقية محورية في ثقافتنا نهضت بها الحضارة العربية وترسّخت بها, هي أساس كل نهضة حضارية.

غاية التنمية

إن الإنسان هو الأساس والمنطلق وهو الهدف والغاية, ولا بدّ من تنمية الإنسان العربي. والشرط الأساسي للتنمية البشرية توفير الكرامة لكل فرد من أفراد المجتمع ليشعر كل إنسان بإنسانيته ويحقق كل طاقاته ارتقاء بذاته ونهوضاً بمجتمعه ووفاء لوطنه وأمّته. وهذا هو الهدف الأول للسياسات الثقافية, وهي محور كل سياسة تنموية. ولا بد لهذه السياسات أن تقوم على مفاهيم ثقافية وتربوية واجتماعية جديدة تتماشى مع التطور المتسارع للعصر وتضمن الدخول بقوة في مجتمع المعلومات والمشاركة الفعلية فيه للحاق بالمنجزات العلمية والتقنية الحديثة مع ما تفرضه من قيم جديدة تؤكد احترام الإنسان وحقه في العلم والعمل وحريّة الرأي والتفكير والتعبير وممارسة كل حقوقه الإنسانية, في إطار المسئولية الوطنية والعمل لخير الوطن ومراعاة حقوق الآخرين, مع التأكيد على المساواة بين المرأة والرجل والاعتراف بحقوق المرأة كاملة, وضمان وصولها إلى مراكز صنع القرار.

إننا, نحن العرب, نعيش منعطفاً تاريخياً خطيراً, نقف, أفراداً وجماعات وأقطاراً وأمة, في مواجهة تحديّات مصيرية بكل معنى الكلمة. ولعلّ أول شروط الاستجابة لهذه التحديات أن نعمل معاً, متكافلين ومتعاضدين, لمواجهتها. فلابدّ من التنسيق بين الدول العربية في صياغة السياسات الثقافية وفي كل مجال يتعلق بالتنمية البشرية والتنمية الشاملة. فالعمل العربي المشترك سبيلنا في عصر التجمعات الإقليمية الكبرى وزمن التحديات الحضارية الكبرى. لابد من استجابة جماعية في حجم تلك التحديّات, وهذه مسئولية تاريخية وأخلاقية وقومية ستحاسبنا عليها أجيالنا القادمة. فلنبن لأمة خطّت صفحات رائعة في التاريخ البشري مستقبلاً يضمن حضورها الفاعل بين الأمم في خريطة الغد الإنساني.

 

ريــــتــــا عــــوض