غادامير عميد الفلسفة المعاصرة وداعية الـحوار

غادامير عميد الفلسفة المعاصرة وداعية الـحوار

فلسفة
العـقـلية التأويـليـة بـدلاً مـن الــتـواصـلـية

في أعلى مرتفعات هايدلبرج بألمانيا يقطن الفيلسوف الألماني المعاصر هانس جورج غادامير الذي جاوز عمره المائة سنة (ولد سنة 1900), ورغم تقدمه في السن فإنه لايزال متابعاً لقضايا الفكر الفلسفي, وقارئاً جيداً لجديد الدراسات الفلسفية, خاصة في مجال النظريات التأويلية التي كان من أبرز منظريها والمجددين في أدواتها المنهجية والعلمية من خلال كتابه (الحقيقة والمنهج) الصادر سنة 1960, هذا الكتاب الذي أثار جدلاً واسعاً في أوساط الفلاسفة ونقاد الأدب والباحثين في العلوم الإنسانية, ولعل طبيعة الجدل الذي دار بينه وبين يورجن هابر ماس (ولد سنة 1926) أحد أبرز روّاد مدرسة فرانكفورت حول المنهجية في العلوم الإنسانية وطبيعة المعرفة التي تقدمها هذه العلوم كان وراء الشهرة الواسعة لهذا الفيلسوف, الذي عرف كداعية للحوار وكشخصية ذات منحى فكري جديد يختلف عن أطروحات مدرسة فرانكفورت التي نظر لها هوركهايمر (1895-1973) وتيودور ادورنو (1903-1969) من خلال تشديده على العقلانية التأويلية في مقابل العقلانية التواصلية التي تمسك بها هابر ماس خاصة, كذلك حاد غادامير عن فلسفة هيدجر (1889-1976) رغم تتلمذه على يديه وتأثره بمنهجه الفكري في بلورة أسئلة الوجود ونقد الميتافيزيقا من خلال إعادة صياغتها وبلورة مبحث اللغة والتأويل ضمن أفق فلسفي منفرد, وهو ما أعطاه شرعية بعد وفاة هيدجر سنة 1976 ليكون أبرز فلاسفة الوجودية الجديدة في ألمانيا, ومحطّ أنظار العلماء وأهم المنظرين لخطاب التأويل, وذلك لما تميز به منهجه من نظرة نقدية للعلوم هدفها معرفة الحقيقة, حقيقة جماليات الأثر الفني التي هي المدخل الرئيسي لفهم جوهر وجود الإنسان ولمواجهة الاغتراب, ذلك أن تقبلنا للعمل الفني في نظر غادامير بعيداً عن وعينا بالحقيقة المؤسسة له والمتردد صداها فيه يخلف لدينا الشعور بالاغتراب, وقد أعطى في معرض هذه الفلسفة الجديدة التي قرنت بين مبحث الجمال والحقيقة ضمن دائرة هيرمينوطيقية تتجاوز حدود الدائرة التي رسمها هيدجر دورا جديداً وإشكالياً للغة ينتهي إلى ما يصطلح عليه بفن الفهم, الذي يقوم على الوعي بالأساس المعرفي والوجودي وعلى تصوّرنا للغة في ذاتها كوطن للفهم, والنظر إلى التأويل كفعل للفهم, وقناة يتقبل عبرها الآخر الخطاب, وتساعدنا في بناء المفاهيم الفلسفية ضمن أفق مغاير ونحتها بوصفها منطلقاً أولياً لبناء المعارف, وقد رفض غادامير المغالاة في هذا المنهج إلى الحد الذي يمكن أن يتحوّل معه إلى لعبة تدور في حلقة مفرغة, بل سعى إلى وضع محددات منهجية ونظرية مترابطة الأجزاء في ضبط استراتيجية الفهم والتأويل بعيداً عن كل إسقاطات وأدبيات متهافتة على تطبيق كشوفات علوم الإنسان وثورة المناهج.

مظلة الأب

لم تكن هناك صلة تذكر بين غادامير والفلسفة إبان نشأته, فوالده يوهانس غادامير كان أستاذاً للكيمياء الحيوية في جامعة بريسلا, وكان ينظر إلى الفلسفة والعلوم الإنسانية نظرة ازدراء, ويرى أن المشتغلين بالفلسفة كمثل المشتغلين بالثرثرة, وأن المنهج الوحيد لمعرفة الحقيقة هو منهج العلوم الطبيعية والرياضية, غير أن الابن كان عكس ذلك إذ يشدد على أهمية الفكر والنقد في حياة الإنسان, ويثق بدور الفلسفة في بلورة أسئلة الوجود والعلم ذاته, ذلك أنه ظلّ يؤكد أن المعارف العلمية لا تتقدم خارج النقد الفلسفي الذي يرسم لها حدودها ويحلل محصلاتها, ويكشف عن إمكانات تقدمها والتطور في القوانين التي تبنيها حول الظواهر والأشياء, ولعل هذا ما كان فيما بعد وراء انضمامه إلى حلقة الكانطيين الجدد الذين كانوا بمنزلة تيار ابستيمولوجي مستحدث في نقد العلوم والفلسفة ذاتها.

وقد اشتد الغضب بأب الفيلسوف غادامير إبان التحاقه بالجامعة واختياره دراسة الفلسفة في مدينة بريسلا, وذلك بعد أن أتم سنة 1918 فترة التلمذة بمدرسة (الروح القدس), وتنقل في السنوات الثلاث التالية لذلك بين جامعتي ماربورج وميونيخ وهي الفترة ذاتها التي تأثر فيها بالكانطيين الجدد, وهكذا إلى أن أعد في سنة 1922 رسالة الدكتوراه التي كان محورها (لذة المعرفة في محاورات أفلاطون).

وفي سنة 1923 التقى غادامير بادموندهوسرل ومارتن هيدجر, وواظب على حضور محاضراتهما في جامعة فرايبورج وأمام اقتنائه بفلسفة هيدجر في هذه الفترة بدأ في التخلي عن مناصرته للكانطيين الجدد.

وفي سنة 1924 بدأ غادامير في دراسة علم اللغة الكلاسيكي من خلال تصوره دروس باول فرويد ليندر, وبعد إعداده لرسالة علمية عن أفلاطون بإشراف هيدجر وأستاذه في علم اللغة الكلاسيكي عيّن أستاذا للفلسفة في جامعة ماربورج.

وفي سنة 1946 قدم غادامير إلى جامعة ليبزج ثم التحق بجامعة فرانكفورت إلى جانب هوركها يمروأدورنو وهناك كانت له خلافات واعتراضات كثيرة على المنطلقات النظرية للنزعة النقدية الفلسفية التي نظرت لها مدرسة فرانكفورت, وهكذا إلى أن استقر به المطاف بجامعة هايدلبرج لكي يشغل كرسي الفلسفة خلفاً لكارل ياسبرز.

وكانت سنة 1950 مرحلة حاسمة في مسار فلسفة غادامير وبداية عهد جديد لتنظير هذه الفلسفة, إذ إنه بعد أن أشرف على إصدار كتاب تذكاري بمناسبة عيد ميلاد هيدجر الستين أقدم على تأليف عمل في تجديد فلسفة التأويل وبحث أدواتها ومنطلقاتها. وبعد سنين عشر صدر كتاب غادامير (الحقيقة والمنهج: مبادئ فلسفة التأويل) وقد مثل هذا الكتاب حدثاً استثنائياً, لاسيما أن غادامير منذ إعداده رسالته الجامعية لم يكتب أي تأليف وإلى حدود بلوغه سن الستين تاريخ صدور هذا الكتاب.

غادامير... والتأويل

إن طرح مشكلة الحقيقة في نظر غادامير وبحث الأطروحات التي ألفت في ذلك يقود في مداه الأقصى إلى بحث مسألة اللغة التي بدورها تحيلنا إلى النص, والنص من حيث هو بنية من الرموز والمعاني والقيم يحيلنا إلى القارئ الذي هو مئوّل بمعنى من المعاني, وبالتالي عليه أن يمارس الفهم بما هو منهج وفلسفة في الآن ذاته. والتأويل لا يستقيم إلا باعتبار معانيه الثلاثة الوجودية والجمالية والمعرفية الفلسفية, وقد أخرج غادامير هذا التأويل من دائرة العلم بالمفهوم الأكاديمي الضيق ليربط بينه وبين التجربة الكليّة التي يكوّنها الإنسان عن العالم ويخوضها من خلال الوجود والفن والمعرفة, وهنا يصبح رهان الحقيقة يشترط تحديد المفاهيم والمنطلقات التي تلقي بنا في أعماق هذه الحقيقة, وتجعلنا نحيط بجوهر الأثر الفني وحقيقة جمالياته بعيداً عن السطحية والآنية ولتحصيل هذا المقصد يرى غادامير أنه من الضروري تجاوز الأدبيات الكلاسيكية التي تراكمت منذ الإغريق إلى عصرنا هذا مع شلايرماخر ودليتاري وأعلام مدرسة فرانكفورت وكذلك مناهج القراءة التي بلورتها مدارس النقد الفرنسي, باتجاه يقطع مع تفسير النص وشرحه إلى السعي في سبيل فهمه, والفهم في نظر غادامير ليس مجرد بناء تصوّرات حول النص بقدر ما هو سؤال جوهري يستقطب كل أسئلة الوجود والفن والمعرفة, كما هو ليس وظيفة معرفية أو أدبية لغوية أو نفسية سوسيولوجية. إن القناة التي تنبني عليها ومن خلالها علاقة الكائن بالكينونة ضمن أفق السؤال والتساؤل المستمرّ, وطلب الفهم لا يعني عند غادامير طلب اليقين, بل هو إعادة صياغة لسؤال الوجود والمعنى, ووضع كل يقين وكل معرفة موضع سؤال بعيداً عن اللاأدرية أو الشك من أجل الشك أو العدمية المغلقة على ذاتها, ولذلك راهن غادامير على (التأويلية) التي اشتغل على تنظيرها في اتجاهات مختلفة حتى يتحرر كليّاً ممّا يمكن أن يذكرنا بدلالة المصطلح الفلسفي التقليدي الذي يحصر الفلسفة في تحصيل المعرفة والبحث عن الحقيقة, فلقد وعى غادامير أهميّة تخليص سؤال الوجود ومنهج الفهم من التجريدات العامّة التي استمرّت حتى مع النسق الهيدجري, فأراد أن يتخذ من التأويل منهجاً فلسفياً جديداً لا يتأسس فحسب على تطوير إجراءات الفهم والنقد المزدوج للعلوم الإنسانية والفلسفية, بل يتجاوز ذلك إلى تفسير الشروط التي تتيح الفهم إلى حد يتضح معه المعنى الأصلي المفترض الذي أنتج النص للتعبير عنه, وقد اختار الثقافة في تمظهراتها الكتابية الكبرى (الفن والفلسفة واللاهوت والأدب) وسيطا للفهم, أو بالأحرى مجالاً لإعادة تأسيس مستمرّة لعلاقة الكائن بالكينونة والإنسان بالحقيقة. واتخذ من اللغة دليلاً للفهم. وبالتالي نقل اللغة من كونها موطن الكينونة والوجود عند هيدجر إلى مجال الفهم ذاته, باعتبارها هي عمل الفهم وقاعدته الأساسية التي تكشف عن الأصل والأساس والمنطلق المرجعي لكل مكتوب أو مفكر فيه أو متخيل جمالي, ومن ثم يكون التأويل فهماً للفهم ذاته, وإعادة تأمل لجماليات الفنون في ضوء كل نتاج منهجي في الفلسفة والعلوم الإنسانية وفي مجال اللسانيات التي وظّفها من موقفه كفيلسوف في تجاوز التصوّر القائل إن اللغة أداة تعبير ومخزن للثقافة والفنون ليجعل منها قاعدة للفهم ومنطلقاً له, من حيث هو فن سؤال ووعي بالوجود والفن لا حدّ له.

نحو التجريد والاغتراب

وقد كان لمثل هذه الصياغة الجديدة لفلسفة التأويل أثرها في دفع غادامير إلى إعادة بناء حقيقة وعينا بجماليات العمل الفني وتحديد ماهيته ليكشف لنا عن جوهر مشكلة اغتراب الإنسان في العصر الحديث مبيناً كيف أن تلقي الفن باعتباره جمالاً بعيداً عن كل حقيقة, وعن كل رغبة في الفهم, يزيد شعورنا بالاغتراب, ذلك أن العمل الفني يكمن في جوهر الوجود ذاته, وفي أعماقه تكمن حقيقة الوجود وفي ماضي هذا الفن يتردد صدى البحث عن الحقيقة من البدايات إلى الآن, حيث لم يبارح الإنسان هاجس التفكير في الحقيقة والوجود وإن ادّعى تحت وطأة التقنية والمعلوماتية وطرقها السيّارة والمعقدة ذلك.

وهكذا أمكن القول إن غادامير عمل في مشروعه الفلسفي على تجاوز التصورات التي بنيت حول التأويل ابتداء من أرسطو وصولاً إلى فرسان التأويل في العصر الحديث مع شلايرماخر وديلتاي وهيدجر, ليبرز أن في اللغة ذاتها وبها يمكن الاشتغال على أسس وأصل كل شيء ومساءلة كل الحقائق والمعارف المؤسسة لجماليات الفنون ولمعقولية كلّ خطاب ومنهج سواء في العلوم الإنسانية أو في العلوم الطبيعية أو في مجال النقد الأدبي, وذلك من خلال التأويل كفلسفة جديدة في الفهم والمعرفة, أو كمنهج تراجع في ضوئه مشروعية المناهج الأخرى, ويقف أمام تشتت موضوعات المعرفة وتشظي الحقيقة, التي وضعها غادامير في مقابل المنهج وجعل من (الحوار) مدارا مركزياً للصراع بينهما وذلك من خلال مجالات ثلاثة رئيسية:

- المجال الجمالي ويتعلق بالأعمال الفنية.

- المجال التاريخي ويتعلق بالرصيد الماضي في المعارف والفلسفة والأديان والآداب وفي التجارب الاجتماعية.

- المجال اللغوي ويتعلق بالعلاقات والمعاني والدلالات.

وقد كان صدى نظرية غادامير في فلسفة التأويل والفهم كبيراً وفاعلاً في شغل مدارس النقد الأدبي, وتيارات البحث في جماليات الفنون, وكذلك أثرت فلسفة غادامير في الفلسفات النظرية المعاصرة وخاصة في بول ريكو (ولد سنة 1913) الذي , وإن اختلف معه في إدماج بعد السلطة, في عملية الفهم , تأثر به في بلورة نظريته في التأويل والقراءة.

أما التأثير الأكبر لمشروع غادامير فقد كان على (مدرسة كونستانس لجماليات التلقي) حيث اعتمد رائدها ومؤسسها روبرت ياوس (1921-1998) المنطلقات النظرية وجهاز المفاهيم الذي وضعه غادامير في صياغة مبادئ هذه المدرسة ونظرتها للفن والجمال في علاقتهما بالمبدع والمتلقي

 

مـحـمـد الـكـحلاوي







محمد الكحلاوي