دهشة اللوحة عندما تلامس الـحياة والـحب والـحرية

دهشة اللوحة عندما تلامس الـحياة والـحب والـحرية

قـراءة فـي الأعـمـال الفـنيـة لـسـامـي محـمـد

تتميز ثقافة الكويت المعاصرة بالتداخل العجيب, للتيارات والاتجاهات والتقاليد والأساليب المختلفة في جميع مجالاتها. وليس مصادفة أن الكويت أصبحت عاصمة الثقافة العربية للعام 2001, وأن إنجازاتها معروفة على نطاق واسع بفضل النشاط الإبداعي لكثير من الكويتيين وبينهم النحات والرسام سامي محمد.

تلقيت لأول مرة أعمالاً فنية لسامي محمد قبل سنوات عدة, حينما أقيم معرض الكويت للفنون التشكيلية في صالة الفنون الرئيسية في بلغاريا سنة 1989 وشارك سامي محمد فيه بعدد من لوحاته التي ولدت فيّ انطباعاً عميقاً. وتعرفت على أعماله المختلفة عن قريب وأدركت أن مواهبه النادرة وغير التقليدية تظهر حتى في أعماله الأولى التي رسمها وصنعها في الستينيات, على الرغم من أن الفنان يعتبر هذه المرحلة من حياته الفنية مرحلة دراسية. ويستوحي الفنان أعماله من التراث العربي الثقافي والتجربة العالمية المعاصرة لكي يؤسس منهجه الأصلي ويعطي المميزات القومية الفريدة لأعماله الفنية, ومن بين أعمال هذه المرحلة نشير إلى تماثيل: (ابن رشد) (1964) و(الخليل بن أحمد) (1965) و(والدتي) (1968) وكذلك إلى اللوحات: (طبيعة صامتة: الكمان رقم 2) (1965) و(طبيعة صامتة: نحاس) (1965) و(منظر من الشرفة) (1968) وغيرها. وتتميز هذه الأعمال بالأسلوب الأكاديمي والاهتمام بالتفاصيل الوصفية ودقة التصوّر للأشخاص والمواد والطبيعة. وعندما يرسم سامي محمد صورة وينظر بعمق إلى الأشخاص ووقفتهم وجلستهم ووجوههم ويلاحظ أنظارهم وحركات أيديهم وخصائص ألبستهم والمنظر الداخلي. وفي صورة (الأشخاص يخبرون عن أنفسهم). من السهل أن نتعرف عليهم وعلى أخلاقهم, ومن خلال أعماله هذه نرى كيف أن الفنان يظهر حسّاً عالياً في التعبير والاستشفاف حيث يصل إلى أعماق النفس البشرية عبر المظهر الخارجي لها. وبهذا يصبح سامي محمد ماهرا في التصوّر النفسي حتى في المراحل الأولى من إبداعه.

نعرف جميعا أن الفنان يمتلك (عينا تأملية) وهذا يعني أنه ليس مرآة بسيطة وعادية, بل أكثر من ذلك بكثير, حيث إن أفكاره وأشواقه وحبّه وغضبه وكذلك شخصيته وكل انفعالاته كاملة يعبر عنها بطريقته الخاصة من خلال نظرة عينه ومشاهداتها الموضوعية, فالعين هي أداة رقابة دقيقة حدودها خيال الفنان.

ومع مرور الزمن, تتغير نظرة سامي محمد إلى الإنسان وعالمه, فأعماله الفنية خلال السبعينيات والثمانينيات تشير إلى أن شهادات البصر المباشرة تشترك في العملية الإبداعية كأحد العناصر الموضوعية فقط. كما أن آثار الرؤى والأصوات والانفعالا ت والذكريات وتداعي الأفكار تشكل تأثيراً موحداً قوياً. يتمثل في اللوحات المطلية بالألوان أو التماثيل المصنوعة من المواد المختلفة, ولذلك يدرك هذا البصر ويوحي الفكر عن الفنون الجميلة بأنها تبقى بصرية بذاتها ولكن تتبدل المسميات بلا وعي, ويتنازل الانطباع البصري لخليط الدوافع المختلفة في الأعمال الناضجة لسامي محمد.

يمكن أن تجري محاكمة متوازية بين الوعي الفني المعاصر والقديم الذي لم يمكن الاستقبال البصري عنده الحاكم الأخير, فمثلاً نرى أن النحات المصري القديم قد جعل فرعونا ذا مقاييـــس مفرطــــة الكبر لا تعبر عن حقيقته, بحيث يظهر الفرعون أكبر من خدمه ورعيته, على الرغم من أنه ذو صفات بشرية طبيعية, ولم تخف هذه الحقيقة بالطبع عن وعي النحات المصري القديم. وهكذا من الصعب تخيل أن الفنان الإفريقي قد رأى عند مواطنيه أعينا أسطوانية ورءوسا هرمية الشكل.

وحقيقة الأمر أن الاستقبال البصري عند قدماء الفنانين هو الذي يمتلكه أي فنان معاصر, غير أن الفنون التشكيلية لا تخضع للقوانين البصرية, بل تحكمها قوانين أخرى, هي خليط من تقاليد تراث وسحر وغيبيات وكذلك من قوانين المجتمعات القبلية, غير أن هذه القوانين المتوارثة وهذه الأنماط المحددة بها, لا يعترف بها الفنان سامي محمد.

حرية أكبر

وهنا يطرح السؤال نفسه: لماذا يرفض سامي محمد المعادلة البسيطة: ارسم كما ترى بما تحتويه هذه المعادلة من تقييد للنفس وتحديد ذاتي لمخيلتها.

هناك أكثر من إجابة افتراضية لهذا الرفض ومنها: للتخلص من القيود المحددة للنشاط الإبداعي عند الفنان, ومن أجل حرية أكبر في التعبير عن مكنونات النفس الإبداعية, ومن أجل التأثير المباشر في الحس الفني على حساب المفاهيم الجمالية التقليدية, وأخيراً لخلق إبداعي جديد غير مسبوق.

وفي الواقع فإن كل إجابة من هذه الإجابات صحيحة, ولكنها تصبح ذات مصداقية عالية عند أخذها مجتمعة, حيث إن كل إجابة منفصلة تعبر عن قسم من هذه الحقيقة, ومع ذلك فإن الجواب المعقول مستحيل لأن هذه الاحتمالات المذكورة لم تكن نتاج القرار المنطقي بل نتيجة تجربة المحاولة والخطأ والصعود والهبوط عند الفنان المبدع خلال السنوات الإبداعية العديدة. ويكتب سامي محمد نفسه:

(كنت طفلا صغيرا عندما حرّكني الطين.

وثابا اندفعت أجرب, وأجرب..

وهأنا الآن...

أهب نفسي لقضية...

الإنسان!

الصغير بحجمه حد الروعة..

والكبير في احتماله حد الأمل...

والعظيم في إبداعه حد الدهشة...)

إننا نلاحظ انعطافا في إبداع سامي محمد في السبعينيات, ومنذ هذه الفترة, فمن المستحيل علينا أن ندّعي وجود مفهوم وحيد يتيم حول الإنسان عند سامي محمد, ففي هذه المرحلة الناضجة يختلف اقترابه من الموديل (النموذج) في أعماله الفنية التي ظهرت في هذه الفترة وعلى سبيل المثال: تماثيله المصنوعة في 1970 ((البحار) و (الجوع) و (العبودية)), واللوحات المرسومة في (1973) ((حوش كويتي قديم) و (الجرح العميق) و (الفتاة والمرآة: رقم 1)) وغيرها.

ونشير إلى تحول أسلوب سامي محمد الفني ونزعته في تصور الإنسان الذي يتغير دائماً. وهكذا فإننا لا نملك إلا أن نمتّع أبصارنا بهذا الانسجام المتهادي في لوحته المصوّرة للفتاة التي أطلق عليها الفنان اسم (انسجام) (1972) تارة وتارة أخرى نرى وجه المرأة المخيف بعينيها الرهيبتين اللتين تنسلان في دخائلنا وتعري حقيقتنا في تمثاله (امرأة) (1973). ولهذا السبب يمكننا أن نتكلم عن تعبير نفس الفنان ونظراته المتضاربة عن العالم, ولكن يجب علينا أن نشير إلى إمكانات الإنسان عند سامي محمد في أن يكون مختلفاً ولا شبيه لنفسه كما هي الحال في أعمال بيكاسو. وبالتأكيد فإن الإنسان عند سامي محمد هو مقياس لكل شيء ولكن هذا المقياس غير ثابت. وفي كثير من أعماله لا يعتبر الإنسان مثالاً ولا يملك جوهرا مستقراً, بل بالعكس يجب عليه أن يقاس ويقيم بالعين الجديدة وعلى أساس المستوى الجديد من القيم الجمالية. والفنان هو الذي يقيم الإنسان ويحكم عليه.

محاولات حاسمة

إن الفنان سامي محمد يرفض الأساليب الأكاديمية الجافة في عمله بالموديل ويكف عن الاعتماد عليه, وتصبح الشخصية شيئاً بذاته, وهناك حاجة إلى الكثير من الجهود الخاصة لمعرفة التراكيب النفسية. ولذلك يحطّم سامي محمد أحياناً صورة الشخصية المألوفة ويبعثها من جديد رغم استمرارية المفاهيم المألوفة. ونعثر على آثار الصراع مع الموديل في بعض الاسكتشات التي تشرح كثيراً من أعماله, مثلا: (مجموعة المكبلين), التي ظهرت في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات, وفي هذه السلسلة يسعى سامي محمد إلى إظهار الجوهر الداخلي للموديل.

وتتمثل رغبة الفنان في الدخول عبر المظهر الخارجي إلى الأعماق في أعماله الجرافيكية بأشكال وطرق متباينة, ونلمس براعته الفنية بوضوح من خلال استعمال الأشكال الهندسية في عمله (زخرفة إسلامية) (1988), وصولاً في محاولاته في إبراز الحدود بين الظاهر والباطن في عمله (الصرخة رقم 1) (1988) الذي يحتوي بعضاً من أفكاره في (مجموعة المكبلين).

ونشير هنا إلى الإدراك الدرامي للتحالف بين المنظر المألوف للأشخاص والأشياء وجوهرها الذي لا يختص بالفنانين فقط, بل بالمبدعين الذين يسعون إلى كشف دخائل النفس البشرية, من أمثال الكاتب الروسي لييف تولستوي أو الأديب الكويتي سليمان الشطي. وفي عدد من أعمال سامي محمد يسبب هذا التحالف نتائج تشاؤمية وحتى عدمية وفي أعماله الأخرى يصبح هذا محركاً للنشاط الإبداعي الذي يتجه إلى استيعاب الطبيعة المنسجمة للأشياء.

إن خصائص نظرية سامي محمد التي تشرح علاقته الباردة للموديل تتمثل في عدم استطاعة أي شخص أن يمثل أفكار الفنان المتغيرة والشاملة عن الإنسان وأن يصبح مهما وخطيرا حينما يخرج من إطار شخصيته وينقلب إلى بطل للأسطورة التي ابتدعها سامي محمد. وليس مصادفة أن المعارف العميقة للفنون الشعبية والتقاليد القومية سمحت للفنان بالوصول إلى النتائج الميثولوجية في أعماله المستوحاة من السدو وبعض تصميماته لبيت السدو, وكما كتبت مديرة بيت السدو سابقاً الشيخة ألطاف سالم العلي الصباح: (إن تجربة سامي محمد الفنية مشبعة بالكثير من العطاء. وإنتاجه الفني سواء في النحت أو الرسم سوف يثري مسيرة الحركة الفنية في الكويت, وتجربته مع فن السدو بشكل خاص تستحق الذكر والاهتمام).

اللحظة المعيشة

إن سامي محمد يحب الإنسان ويحترمه احتراماً عميقا ولكن نظريته تختلف عن أفكار الفنانين الغربيين منذ زمن النهضة الأوربية حتى المرحلة التي تسمى بالانطباعية, ومن المعروف أن مثلهم الجمالي يتجسّد في الموديل أو في الشخص المعين وأنهم يشكّلونه كما يرونه, وهنا لا يوجد اختلاف شديد بين مفهومهم عن الإنسان وما يصنعونه رسماً كان أو نحتا. أما عند الفنان سامي محمد وأبطاله ومن ضمنها شخصيته هو أيضاً حين تصبح موديلاً للوحاته فإنها أي اللوحات لا تعمد إلى إبراز جمال هذه الشخصيات الطبيعي والواقعي, بل إنها تحمل طابع الحياة المعاصرة والذي يحمل طابعاً مأساوياً أحياناً. ونلاحظ هذا الأثر في كثير من التماثيل لسامي محمد. وليس من المنطقي أن الفنان لا يشفق على أبطاله ولا يبرز حقيقتهم, وفي الوقت نفسه تظهر على وجوههم مسحة تشير إلى إتقان ما, لا نهاية له.

ونرى في أعمال سامي محمد الفنية حركة أحياناً وسكوناً في فترة أخرى حيث تبقى أشخاصه حبيسة اللحظة المعيشة, وفي الوقت نفسه تتبدى رغباتهم الجامحة في الانعتاق من قيود الزمن والمرور إلى الأبدية السرمدية. إن التحول من حالة إلى أخرى يمتلك كثيراً من المعاني كما يحتويها طموح الفنان إلى فهم جوهر الأشياء الثابت وروحها العالية. وتتحول معارضة الحركة والسكون إلى الاصطدام الدرامي في البعض من مجموعة الصناديق: (الاندفاعية) (1978) و (صرخة الحسان) (1978) و(الصراع) (1978) وغيرها. وإن هذا التعارض ما بين الحركة والسكون والسهولة والصعوبة ينكشف كعملية وحيدة للتدمير والإنشاء في تماثيله: (لحظة خروج) (1989) و(الاحتراق) (1989) و(الكابوس) (1994) وغيرها.

ويحاول سامي محمد أن يربط الأجزاء ويوطدها على أساس الفصل والقطع ومن ثم يجعل بطله يتحرّك معانيا تحوّلات شكلية تجمع في آن واحد ما بين الانسجام والجبروت حين ينتصب التمثال آخذاً شكله النهائي. ويبرز الفنان أمامنا كالطائر الأسطوري الذي يكوّن الإنسان من العناصر التركيبية الأصلية للمادة بإرادة وجهود المبدع القوية والمنهجية. وعلينا أن ننظر إلى تماثيل سامي محمد من جميع الجهات لكي ندرك التغيرات في الترابط بين الأحجام وأشكالها. وبمهارة يستعمل المبدع العناصر المعروفة منذ أقدم العصور كالخطوط والأضواء والظلال, ويبحثها ويستفيد من خصائصها الفطرية, فبينما يعطي الخط العمودي إحساساً بالصعود, والخط الأفقي يشعرنا بالهدوء والسكينة, فإن الشكل البيضاوي يصوّر لنا إحساساً ديناميكياً ذا قوة أكبر بكثير مما توحيه لنا الدائرة وغيرها. وقد كشف الرسامون عن هذه الأشياء الطبيعية منذ زمن بعيد, وأما سامي محمد فسمح للعناصر الأصلية بألا تغيب في عملية التمثل, بل تحافظ على وجودها, وفي إدراكها بلغ هذا المبدع الحد الأقصى.

وإن الأعمال الفنية المختلفة لسامي محمد تتألق بالمعاني الكثيرة وتؤثر فينا بمحتواها الذي يمكننا من إدراكها وتفسيرها بطريقتنا الخاصة, وكما هي الحال مع أعمال بيكاسو وجويا, فإن باستطاعتنا أن نقارن سامي محمد بهما لأننا نشعر بقوة التأثير السحرية والشمولية وكذلك جرأة موهبته التي تساعده في ألا يتخذ التصميمات السطحية, ولذلك فإن أعمال سامي محمد المتميزة بالإنسانية والحب للحياة والحرية تخرج عن حدود الإبداع القومي وتصبح إنجازاً بارعاً للثقافة العربية كلها, إن لم نقل إنها تجاوزها منطلقة إلى حدود العالمية.

 

بيان ريحانوفا







تمثال (والدتي) من أعمال الفنان عام 1968





لوحة (شيخ القبيلة) مستوحاة من أعمال السدو





تمثال آخر لسامي محمد (لحظة الخروج)





تمثال (الصراع) ــ عام 1978





أحد أعماله ويحمل عنوان (امرأة) ــ عام 1973