تراث عربي

 تراث عربي

أبوحيان التوحيدي

فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة

هو أبوحيان التوحيدى, علي بن محمد بن العباس, من أبناء القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) مجهول المولد والنشأة.. قيل إنه فارسي الأصل.. وقيل إنه عـربي الأصل.

كان مثله مثل المتنبي : عبقرية في غير زمانها, وموهبة فذة في غير مكانها, ورسالة في غير أوانها. لهذا لا غرو أن يتفجـر الإبداع - عند كليهما - ثـورة على الوجود, وتمرداً - ولا أقول حقدا - على العالم, واغتـرابا في الذات والزمان والمكان, الأمر الذي انتهـى بقيـام أبي حيان - في مشهد مأسـاوي أسيف - بحرق كتبـه, في أواخر عمره, حتى لا يكون بينه وبين العالم وشيجـة من فكـر أو علم أو أدب.

آثاره الإبداعية

بالرغم من ذلك, فقد عثر على بعض آثاره الإبداعية عند بعض معاصريه, التي دفعت آدم متز إلى القول: (ربما كان التوحيدي أعظم كتاب النثر العربي على الإطلاق) ومنها ـ على مستوى الإبداع الأدبي ـ كتاب الإمتاع والمؤانسة, وكتاب البصائر والذخائر (أضخم كتبه) وكتاب الهوامل والشوامل وكتاب مثالب الوزيرين أو أخلاق الوزيرين (الصاحب بن عباد, وابن العميد) وكتاب الصداقة والصديق.

ومن آثاره القصصية (الرسالة البغدادية).

ومن آثاره الفلسفية كتاب (المقابسات)

ومن آثاره الصوفية كتاب (الإشارات الإلهية والأنفاس الروحانية).

وعلى الرغم من كثرة آثاره المطبوعة والمخطوطة والمفقودة, فقد كان نصيبه التهميش والتغييب, أو كما يقول ياقوت الحموي في ترجمته له: (ولم أر أحداً من أهل العلم ذكره في كتاب, ولا دمجه في خطاب). ذلك أنه لم يكن من أدباء السلطة وكتابها, فكان أن لفظته من مجالسها وعطاياها وكان أيضاً أن تجنبه نقاد السلطة, وتجاهله مثقفوها. شأنه في ذلك شأن كل صاحب عبقرية فذة أو موهبة أصيلة في الثقافة العربية, لا يعرف كيف يتصالح أو يتعايش معها في ظل هذه العلاقة المعقدة في الثقافة العربية بين الثقافة والسلطة, ومن ثم لم يعرف التوحيدي كيف يتجمل في حضور السلطة أو ينافقها أو يتملقها رغبة أو رهبة, ومن هنا وصف في بلاط السلطة بأنه (سخيف اللسان, قليل الرضا عند الإساءة والإحسان, الذم شأنه, والثلب دكانه) على حد تعبير ياقوت, ولهذا لا غرو أن يعيش غريباً وأن يموت غريباً.

وتعد مؤلفات التوحيدي ـ الموسوعية والتخصصية ـ مرآة لفكره ووجدانه, أو بالأحرى تعكس (رؤيته للعالم), إبان القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) حيث المتناقضات السياسية والاجتماعية والاقتصادية سمة تحكم العصر, وتحدد صيرورته التاريخية آنذاك.

العامة والسلطان

في نص سياسي من كتاب الإمتاع والمؤانسة, يتحدث التوحيدي ـ برؤية ثاقبة ـ عن علاقة الشعوب (العربية الإسلامية) بحكامها وسلاطينها, ففي الوقت الذي تنزعج فيه السلطة من تدخل (العامة) (الشعب أو الرأي العام إذا شئنا استخدام مصطلح معاصر) في الأمور السياسية والخوض في سيرة السلطان ـ يرى التوحيدي, أن الشعوب ـ باعتبارها صاحبة المصلحة ـ من حقها, بل من واجبها, في إطار حرية الرأي والمعارضة ـ أن تتدخل في شئون السلطة والسلطات, على اعتبار أن ذلك شأن جمعي لا فردي. وأن أمنها واستقرارها ومستقبلها معقود بصلاح ملوكها وعدلهم, أن الملك لا يكون ملكاً إلا بالرعية, كما أن الرعية لا تكون رعية, إلا بالملك, وهذا من الأحوال المتضايفة, والأسماء المتناصفة, وبسبب هذه العلاقة المحكمة والوصلة الوشيجة, فألهجت العامة بتعرف حال سائسها, والناظر في أمرها, والمالك لزمامها, حتى تكون على بيان من رفاهة عيشها, وطيب حياتها, ودرور مواردها, بالأمن الفاشي بينها, والعدل الفائض عليها, والخير المجلوب إليها, وهذا أمر جار على نظام الطبيعة, ومندوبٌ إليه أيضاً في أحكام الشريعة.

قال: ولو قالت الرعية لسلطانها: لم لا نخوض في حديثك, ولا نبحث عن غيب أمرك, ولم لا نسأل عن دينك ونحلتك وعادتك وسيرتك? ولم لا نقف على حقيقة حالك في ليلك ونهارك, ومصالحنا متعلقة بك, وخيراتنا متوقعة من جهتك, ومسرتنا ملحوظة بتدبيرك, ومساءتنا مصروفة باهتمامك, وتظلمنا مرفوع بعزك, ورفاهيتنا حاصلة بحسن نظرك وجميل انتقادك, وشائع رحمتك, وبليغ اجتهادك, ما كان جواب سلطانها وسائسها? أما كان عليه أن يعلم أن الرعية مصيبة في دعواها التي بها استطالت, بلى والله, الحق معترف به وإن شغب الشاغب, وأعنت المعنت.

غريب عصره

وكان طبيعياً ـ وهو المعتز بذاته وبعلمه وفكره وأدبه ـ أن يفشل في التواصل مع معاصريه من أصحاب الجاه والسلطان لرعايته. أو من الكتاب (أصحاب القلم وأرباب المناصب) الذين سعوا إلى وأد موهبته وسحق عبقريته, حقداً وحسداً, أو تملقاً ورياء للسلطة. وكان طبيعياً أيضاً على رجل بحجم موهبة أبي حيان وعبقريته الفذة أن يصاب بالإحباط, وأن يتمكن اليأس منه, وأن يستشعر ـ من ثم ـ الغربة, على حد تعبيره, في الزمان والمكان, في القيمة والمكانة. إنها غربة الذات التي تدرك قيمتها, ولا تملك إلا أن تدفع ثمن العبقرية والموهبة, وعاقبة التفرد والامتياز, فكان أن نفض يده ـ أخيراً ـ من الحياة والأحياء, وزهد في الدنيا, وانطوى على نفسه, ورغب في التصوف (والتصوف ـ في بعض جوانبه ـ رفض للدنيوي, وتمرد على الواقع, وصرخة احتجاج عليه) ورافق المتصوفة أو الغرباء كما يسميهم أحياناً. حتى أصبح كما يقول ياقوت (صوفي السمت والهيئة) و(شيخاً في الصوفية) أي في تحقيق الصلة بالمطلق, بالأبدى, بالأكوان كلها, على حد تعبير جمال الغيطاني, وتتحقق عندئذ صلة من نوع آخر, بقدر ما تحوي من تحقق, بقدر ما تحوي من غربة أبدية.

وعلى الرغم من كثرة كتب التوحيدي التي تعكس أزمته الاغترابية, ومنها مثالب الوزيرين, والصداقة والصديق, ورسالة الحنين إلى الأوطان, ورسائله في التصوف, وروايته السردية الفذة (الرسالة البغدادية) التي تعد أول صرخة فردية روائية في وجه المجتمع, فإن أعظمها على الإطلاق كتابه (الإشارات الإلهية والأنفاس الروحانية) الذي يعتبر أحد شوامخ ( النثر الوجداني الذاتي) في الأدب العربي القديم, ويعد معه التوحيدي رائد هذا النوع.

من الكتابات النثرية التي تتأبى على التصنيف الأدبي إلا ضمن إطار (فن النجوى) على حد تعبير عبد الرحمن بدوي, محقق هذا الكتاب, أو (فن المناجاة) الذي لا نجد له نظيراً في نثرنا الكتابي, قبل التوحيدي. وهذه بعض مقتطفات من كتاب الإشارات في الغربة والاغتراب.

محـنـة الغـريـب

(سألتني - رفقَ اللهُ بك, وعطف على قلبك - أن أذكر لك الغريب ومحنه, وأصف لك الغربة وعجائبها, وأمرَّ في أضعاف ذلك بأسرار لطيفة ومعان شريفة, إما معرِّضاً, وإما مُصرِّحاً, وإما مُبعّداً, وإما مقرِّبا, فكنت على أن أُجيبك إلى ذلك, ثم إني وجدت في حالي شاغلاً عنك, وحائلاً دونك, ومفرقاً بيني وبينك. وكيف أَخفضُ الكلام الآن وأرفع, وما الذي أقول وأصنع, وبماذا أصبر, وعلى ماذا أجزع? وعلى العلات التي وصفتها والقوارف التي سترتها أقول :

إنّ الغريبَ بحيث

ما حطّت ركائبه ذليل

ويد الغريب قصيرة

 

ولسانه أبداً كليل

والناس ينصرُ بعضهم

 

بعضاً وناصرُه قليل

يا هذا! هذا وصف غريب نأى عن وطن بُني بالماء والطين, وبعد عن ألاف له عهدهم الخشونة واللين, ولعله عاقرهم الكأس بين الغدران والرياض, واجتلى بعينه محاسن الحدق المراض, ثم إن كان عاقبة ذلك كله إلى الذهاب والانقراض, فأين أنت عن قريب قد طالت غربته في وطنه, وقل حظه ونصيبه من حبيبه وسكنه?! وأين أنت عن غريب لا سبيل له إلى الأوطان, ولا طاقة به على الاستيطان?! قد علاه الشحوب وهو في كن, وغلبه الحزن حتى صار كأنه شن. إن نطق نطق حزنان منقطعاً, وإن سكت سكت حيران مرتدعاً, وإن قرب قرب خاضعاً, وإن بعد بعد خاشعاً, وإن ظهر ظهر ذليلاً, وإن توارى توارى عليلاً, وإن طلب طلب واليأس غالب عليه...

وقد قيل : الغريب من جفاه الحبيب. وأنا أقول : بل الغريب من واصله الحبيب, بل الغريب من تغافل عنه الرقيب, بل الغريب من حاباه الشريب, بل الغريب من نودي من قريب, بل الغريب من هو في غربته غريب...).

جـوامـع الكـلـم

من الكلمات القصار التي أوردها التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة :

  • ما خاب مَنْ استخار, ولا ندم مَنْ استشار.
  • غنم من أدبته الحكمة, وأحكمته التجربة.
  • المرء ما عاش في تجريب.
  • مَنْ لم يقدمه حَزْمٌ أخّره عجز.
  • مَنْ ضاق صدره اتسع لسانه.
  • العيال سوس المال
  • الموت الفادح خير من الزّي الفاضح.
  • البطنة تذهب الفطنة.
  • مـن أطـاع هـواه أعطـى عدوه مُناه.
  • ذل الطالب بقدر حاجته.
  • عدل السلطان خير من خصب الزمان.
  • من توقّى سلم, ومن تهور ندم.
  • ربما سوّد المال غير السيّد.
  • لا كثير مع تبذير, ولا قليل مع تقتير.
  • الحسد أهلك الجسد.
  • الغنيُّ في الغربة موصول, والفقير في الأهل مصروم.
  • إذا تم العقل نقص الكلام.

حـال الدنـيـا

إذا أقبلت الدنيا على المرء أعارته محاسن غيره, وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه. (الإمتاع 2 : 150)

مـلـحـة الـوداع

كان من عادات التوحيدي - في الإمتاع والمؤانسة - أن يخـتم أحاديثـه في معظم الليالي بملحة يطلـبهـا منه الوزير (ابن سعدان) يطلق عليها ملحة الوداع, ومنها أن أحد الشعـراء (قد دعا بناء ليبـني له حائطاً, فحضـر, فلما أمسى اقتضى البناء الأجرة, فتماكسا, وذلك أن الرجل طلب عشرين درهما, فقال جحظـة - الشاعر: إنما عملت نصف يوم وتطلب عشرين درهما? قال : أنت لا تدري, أني قد بنيـت لك حائطاً يبقى مائة سنة, فبينـما هما كذلك وجـب الحائط وسقط. فقال جحظة : هذا عملك الحسن?! قال : فأردت أن يبقى ألف سنة?! قال : لا, ولكن كان يبقى إلى أن تستوفي أجرتك! فضحك - الوزير - أضحك اللّه سنّه.

ومنها أيضاً : (كان يحكى عن أعرابي حديث مضحك : قيل لأعرابي : أتريد أن تصلب في مصلحة الأمة? فقال : لا, ولكني أحب أن تصلب الأمة في مصلحتي).

 

محمد رجب النجار