جمال العربية

جمال العربية

عــَوْدُ الـربـيــع
فــي شـعــر أمــين نـخــلــة

(أبريل) ديْر العاشقين من قديم الزمن, هكذا تحدث الشاعر محمود حسن إسماعيل عن شهر أبريل وسواقيه التي تملأ القلوب بالهوى والشباب, وتطلق صهد الربيع وحمياه في الطبيعة والإنسان. لكن الربيع الذي نتأمله في هذا النص الشعري الفاتن للشاعر اللبناني أمين نخلة ربيع من طراز آخر صاغه صاحبه من أفواف الوشى ومغنى الروابي ومرح النسيم ودروب نفح الطيب. وسكب عليه من روحه المفعمة بالحياة, ومن ريعان الطبيعة اللبنانية عالماً فيّاضاً من الصور واللوحات الشعرية البديعة: فالعشب نقْش الوهاد والمروج موجات بحر لجي, والغصْن مضنى بلا سبب, والأشجار غرف مهيأة بالشمس مبنية بالغمام, فأيّ جمالٍ آسرٍ وأيّ افتنان!

وأمين نخلة صاحب هذا النص الشعري الفاتن (1901-1976) واحد من جيل كبار شعراء لبنان في العصر الحديث, وهو الجيل الذي يضم الأخطل الصغير بشارة الخوري وإلياس أبو شبكة وأمين نخلة وسعيد عقل - الوحيد من بينهم الذي لايزال موفور الحياة والإبداع, والذي حقق للبنان مكانته الشعرية ودوره الإبداعي في ديوان الشعر العربي, عندما كان العالم العربي يفاخر بشعرائه الكبار من أمثال الرصافي والزهاوي والجوهري في العراق, وبدوي الجبل وعمر أبو ريشة في سوريا, وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وخليل مطران - اللبناني الأصل المصريّ الإقامة والهوى - في مصر.

والمتأملون في شعر أمين نخلة يقولون فيه ما قاله الشاعر الكويتي عبدالعزيز سعود البابطين في تصديره لطبعة مؤسسة جائزة البابطين من ديوانه: (صوت أمين نخلة هو صوت الجمال في الشعر العربي الحديث, الذي عاش عمره يغزل ثوبه الموشّى بالصدق, ويلملم أطراف سداه ولحمته في حنوّ وتفانٍ. والجمال عنده قرين الحياة, يجده في الفكرة والكلمة والحب والطبيعة والغناء والتذكّر والقصيدة معشوقته الأولى, بل وفي إكليل الشوك وأشجار الخريف.

وهو أيضاً صوت قدير من أصوات العروبة المدافعين عن الفصحى وإرثها الحضاري, أقبل على القرآن الكريم (وهو المسيحي) واختار من نهج البلاغة (للإمام علي بن أبي طالب) مائة كلمة ضمنها (كتاب المائة), إنه القائل:

نحن في الفصحى رعْينا ذمماً وشرعْنا دونها سُمْر القنَا
فكأنْ العزّ من قرآنها لم يكن إلا إلينا أو بنا
فانظروا في فُصَحِ القول عسى أن تروْا قرآنكم قرآننا


ثم يضيف البابطين قوله: (تلك القيم التي عاش لها, ونادى بها شاعرنا (الأمين) ما أحوجنا إليها اليوم لمواجهة جحافل الرداءة والفرقة والقبح, والاعتصام بقيم الخير والعروبة والجمال).

فإذا عدنا إلى صوت أمين نخلة نفسه, وهو يُطلعنا على لمحات من صباه الباكر, وبدايات شاعريته المبدعة, وجدناه يتحدث عن نفسه بضمير الغائب في تقديمه لديوانه الثالث والأخير (ليالي الرقمتينْ) ويقول:

(أنا أعرفه وهو لا يعرفني, أنا عشت وإياه في ظل الصبا, تحت الورق الأخضر من شجرة العمر, وأنا شهدت نشوء خواطره, وتفتح صباباته ومواجيد نفسه, فكأن الحياة كانت تصبّ في صدره بين عيني مادة العبير والنور, ولذائذ الطعم الجديد لأشياء الدنيا, قلبٌ يُعرفُ له ويُملأ إلى الطّفاف, وعقل تقام له الأساس من قواعد وعُمد. ثم مازال به الأمر هكذا, وهو يسحب أذياله ورائي في نهار وليل, ويقرب مني في مسافات الأيام حتى لحق بي, وجاءني, وتمت أعجوبة الحياة, فإذا أنا هو, وإذا هو إيّاي.

نعم, لقد أصبحت أنا إياه, ولكن في حال غير حاله, وأصبح هو إياي, ولكن في تغير عجيب, فإنه لم يبقْ منه في جوانب نفسي إلا ما يسلم بعد فراق الزهر من الشمّ المتوهّم للذات المنقرضة.

ولعمرك! أين هو من أيامه المتوغلة في الماضي? أين عهده بالورود على بهجات الجديد في العيش, وبالدّهش العذب لكل ما تأخذ عينُه من نجوم وبحار وحقول وأنهر متراكضة وأودية منخفضة تحت عظمات الجبال? وأين ذلك الدفتر, وقد كان عنده ديوان الكون? وتلك القصبة, قصبة القلم, وكانت من أغصان الجنة? وتلك الدواة, وكانت قمقم السحر الأسود?

ولا, والله, ما أراه قد نسي في الأيام زماناً كان فيه يظن أن الأقلام مقاطر للمعرفة والإحساس تصبّ فوق الورق صبّها الروي, وأن هتفاته الندية في وجه الجدائد من أشياء الحياة هي الأغاني الفريدة الجنس, تلعلع في حب الجمال والحق والخير وحدها, لا طرب قبل عهدها بالطرب!

ومن لي بعينيه حتى يرى بعد زمان صاحبه, هذا, يطول الفحص عن الصواب, وبامتلاء اليد من التجريب, أن الأقلام أدوات قاصرة من أدوات العقل والقلب في محاولة للخروج إلى عالم الضياء, وأن مقتضى الحياة المشتــــــركة إنما هو في محــاكاة الناس للناس, وأخْذ الجميع بأذواق الجميع, على ما في النفس البشرية من شوق إلى نقل القدم في السبيل المجهول, ومن لذة في التفرّد وانقطاع النظير).

هذه لغة نثرية تحاكي لغة أمين نخلة الشعرية روعة تعبير وتصوير وجمالَ جرسٍ وإيقاع وروعة تأثير وإيحاء. وإلا فكيف تأتى له أن يقول مصوّراً أول اهتزازه أمام الجمال متحدّثاً عن نفسه بضمير الغائب: (ولقد حدث لصاحبي بعد ذلك, وهو في أول أمره بمشاهد الجمال, أن وقعت عيناه على جنّة مرفوعة فوق قدمين, تُلألئُ الضحكات والألفاظ في ذلك الفم الزاهي وتصبّ صبّ الأنوار حول القامة الفارعة.

أول الأمر, وأول ما عرف هو كيف يدق القلب دقاً شديداً, فهرع إلى الكتب عسى أن يجد في موضع من شعر أو نثر صوتاً يرجع إليه بمثل ما في صدره من ضجة مدويّة في مهرجان الجمال فيستريح إلى الأسوة),

الأناقة هي طابع المدرسة اللبنانية في الشعر, واكتمال الصنعة الفنية ملمح أساسي من ملامحها, واغتناء اللغة بزاد وفير من الاشتقاقات سمة من سماتها, والجرأة على اقتحام ما هو ثابت ومقدّس, والثورة على السائد والمألوف والمكرور, طابع لإبداع هذه المدرسة كله. يتفاوت الشعراء قرباً أو بعداً منه, لكنهم يشتركون في خصائصه ومقوّماته وبنيته, وينهلون ويأخذون كل منهم بنصيب.

وفي شعر أمين نخلة تبلغ هذه الصنعة الفنية والقدرة اللغوية أقصاها وتصل إلى قمتها, حتى ليخيل لبعض دارسي شعره ومتذوّقيه أن صنعته - الماهرة والماكرة - طغت على مضمونه الفكري والروحي. وهو اتهام لا يصمد كثيراً أمام معاودة النظر والتأمّل, واكتشاف ذلك الخيط الروحي الرفيع الذي واكب شعر أمين نخلة منذ هتفاته الأولى في دفتــــر الغزل - ديوانه الأول - حتى معارجه الصوفية في ديوانه الأخير (ليالي الرقمتيْن) عبوراً لديوانه الثاني (الديوان الجديد).

يقول أمين نخلة في قصيدته (عوْد الربيع):

جاء الربيع وحرّك الغْصْنا أين الربيع, وأين ما كـُنّا
عُودي, فقد عاد الربيع, وقد عاد الحمامُ, وقد تعاتبْنا!
عودي, فقد عاد الربيعُ لنا همسُ الربيع وغمّزهُ عنّا
أنفاسُه منا, ورقّتهُ منا, وجَرّ ذُيوله منّا


* * *

تدعوكِ خلف السهل رابيةٌ كانت لنا, ولحبّنا, مغنى
ذكرتْ شبابيْنا, فما نسيتْ قدماً, ولا صوتاً بها رنّا
خضراء, من لين الربيع, ومن مرح النسيم, حَوَتْ أباً وابنا
أشجارُها غُرفٌ مهيأةٌ بالشمسِ أو بغمامةٍ تُبْنى
جعلتْ لنا في كلِّ منعطفٍ حضْناً, وكلِّ مُظلّلٍ حضْنا


* * *

يا درْبَ نفْح الطيب: وجهتُنا أرضُ الكناريّ الذي غنّى
يا غصْن, يا مُضْنى بلا سبب: ملْ حوْلَنا, يا غصْنُ, يا مُضْنى!
يا نرجِساً نعْسانَ من ولهٍ: قمْ من فراش الغُنْجِ, غازلْنا
يا ورد, يا ابن الرقة: اختبأتْ في ظلّك العشاق, خبّئْنا!
يا عشبُ, يا نقْشَ الوهادِ, ويا لُج المروج, وبحْرَها الأدنى:
جئْنا بركْبِ الحبِّ هرولةً في دارك الخضراءِ أَنزلْنا!


مرة ثانية يعود أمين نخلة إلى أفياء الربيع وجنة ظلاله وعطـــــوره وهو يتغـــــنى بشـــهر (نيسان) أو (أبريل) الذي هو شهر موكب الربـــيع في تخطّره وزهوه وافتنانه, وهو لا يتوقف ليسأل - كما سأل محمود حسن إسماعيل وهو يتحدث عن سواقى أبريل:

سمعتُه يتلو المزامير, فهل يسمعني? لكن يبدأ بخلْع إمارة الشــــهور عليه, وتتويجه على النسـائم والغصـــــون والطيور, وكأنما هو ديوان شـــــعر على الجمــــال يدور:

(نيسان) حلوٌ غريرُ على الشهور أميرُ
في الأرض زفة بُشرى وفي الفضاءِ حبورُ
وكلّ شمٍّ أريجُ وكلّ لمْسٍ حريرُ
كأن دفْقَ حياةٍ في الكون, أو ذا نشورُ!
فالشوك نعْمَ التثني والصخر نعْمَ الشعورُ!
والغصنُ يلبس ثوباً يا حبّذا لو يُعيرُ
وللنسيم كلامٌ عن الحنانِ كثيرُ
والطير حطّت, ولولا أحبابُها لا تطيرُ
كأنّ ديوان شعرٍ على الجمالِ يدورُ
الحبر يلمعُ فيه وتُسْتشفُّ السطورُ
طالت عليه الحواشي إنّ الكتابَ كبيرُ
هل شاعر عبقريٌّ في كلّ وادٍ يسيرُ
منه الحنين, ومنهُ تنفّسٌ وضميرُ
قد قال كلِّ جديدٍ ما أسمعتهُ الدهورُ!
فاليوم حُبّر وشيٌ واليوم صيغت شُطورُ
نيسان زار, فأهلاً فضلٌ علينا, وخيرُ
أمرّةً كلِّ عامٍ لو كلّ يومٍ يزور?


فــــإذا ما التفـــت أمين نخـــلة إلى موضـــــع الميلاد, إلى (الأرز) الذي نماهُ وسقاهُ روح الشعر وكبرياء الجبل وعذوبة الغدير, اكتسى التفاتهُ بهذه الصـورة الشــــعرية الربيعية البديعة التي يقــــول فيها:

يا نسيم الأرْز من نَفْحٍ, ومن بَللٍ يسري, وريّا تسطعُ:
طفْ بأرض الله سهلا, ورُبيً ولتعانقْكَ الجهاتُ الأربعُ
كُنْ مُشاعَ الخير للناس, وما نحنٌ ممّا في يديْنا نمنعُ
كلُّ دانٍ وبعيدٍ عندنا في أُخوّات البرايا شَرَع!


* * *

أيها الأرْزُ تشبّثْ بالثرى وابسط الظلّ الذي لا يُرفَعُ
نحن ظُلّلنا, فظّلل بعدَنا أفرُخاً بالريش لا تضطلعُ
يا وقى اللهُ لهم أجنحةً هل من أكبادنا تُنتزعُ!


 

فاروق شوشة