إلى أن نلتقي

  إلى أن نلتقي


فـن الـلـوحـة.. الـسـؤال المـحـرج

كان لابد أن يقفز السؤال إلى الذهن عندما زرنا متحف الفن الحديث في القاهرة بعيد افتتاحه قبل سنوات قليلة. استمرت جولتنا آنذاك في ارجائه نحو ثلاث ساعات. واللافت للنظر أن عدد الزوار كان يقل عن عدد الساعات, على الرغم من حداثة المتحف وأناقته, وأهمية مجموعة اللوحات التي تغطي أبرز ما انتجه كبار الرسامين المصريين.

اكتفينا آنذاك باختصار السؤال بـ: لماذا?

لماذا كل هذا الازدحام في متحف الفن الفرعوني المجاور, وكل هذا الفراغ في متحف الفن التشكيلي المعاصر?

تكررت الملاحظة مرات عدة في متاحف ومعارض كثيرة, كان آخرها في متحف مدينة اللاذقية في سوريا, وبأكثر الأشكال فجاجة.

كانت هناك مجموعة من خمسة أو ستة زائرين عرب. بدا عليهم أنهم من النخبة المثقفة, من خلال توقفهم الطويل في قاعات الآثار القديمة, وتعليقاتهم على التماثيل واللقى العائدة إلى حضارات شمال سوريا القديمة وصولا إلى الخزفيات والمصوغات الإسلامية.

المذهل, هو أنه بوصول هؤلاء الزائرين إلى القائمة الأخيرة من المتحف, اكتفوا باطلالة من عتبة الباب والعودة إلى الرواق الخارجي. اعتقدنا أنها قاعة خاوية, أو مخصصة للمكاتب وإدارة المتحف, ولكننا فوجئنا بأنها تضم مجموعة جميلة جدا من اللوحات لفنانين سوريين معاصرين.

لم يعد بالإمكان الاكتفاء باختصار السؤال بكلمة, ولا حتى القبول بالتفتيش عن صيغة مهذبة لطرح السؤال.

لقد عرفت حضارتنا فن الرسم طوال قرون عديدة. ولكن الرسم العربي الكلاسيكي جاء في معظمه على صفحات الكتب, أي أنه ارتبط بالكتاب والنص.

أما فن اللوحة, وهو أوربي الأصل, فيهدف إلى انتاج رسم ملون يعلق على الحائط ويتم التطلع إليه على أنه مستقل تماما عما حوله.

لقد نشأ فن اللوحة في أوربا من خلال مسيرة طويلة جدا, وارتبط لنحو ألف سنة بالنسيج الديني, قبل أن يتحرر من المواضيع الدينية, ليصبح جزءاً أساسياً من النسيج الثقافي العام لأوربا بأسرها.

ولو سألنا أي مواطن أوربي ما الذي يختاره فيما لو اضطر إلى التخلي عن موسيقى بيتهوفن أو لوحات رامبراندت? عن شعر فيكتور هوجو أو لوحات أوجين ديلاكروا? لارتبك هذا الأوربي وعجز عن التفضيل والمقارنة بين الخيارات. ولكننا لو خيرنا أي مواطن عربي بين أغنيات أم كلثوم على سبيل المثال ولوحات الرسام الشهير فلان الفلاني, لما تردد لحظة واحدة في الحسم: (خذوا كل اللوحات واتركوا لي أغنيات أم كلثوم..).

لقد بدأنا في البلاد العربية باكتشاف فن اللوحة وانتاجها منذ قرن وأكثر, على أيدي فنانين تمتع الكثيرون منهم بالموهبة الكبيرة والملكة الضرورية للإبداع. ولكن النتيجة بعد مائة عام لا تزال...

قد يطرح البعض مسألة التربية الفنية ونشر التوعية. ولكن التربية يمكنها أن تقلب اللامبالاة إلى عداء ـ وليس بالضرورة إلى إعجاب ـ أمام الكثير من اللوحات العربية التي احيطت لأسباب مختلفة بهالة من الاحترام المصطنع.

لسنا هنا في مجال بحث الأسباب واقتراح الحلول. ولكن للإشارة إلى أن هناك أزمة, أو لنقل هاوية تفصل اللوحة العربية عن نسيجنا الثقافي العميق. وما حصل في متحف اللاذقية مجرد فتيل يفجر السؤال الذي آن الأوان لطرحه في شكله الفج والمحرج: هل فن اللوحة ضروري لنسيجنا الثقافي? أم يمكن الاستغناء عن اللوحة جملة وتفصيلاً?

 

عبود عطية