التخلف العقلي كيف نواجهه؟ أنيس فهمي

التخلف العقلي مشكلة تعافي منها المجتمعات المتقدة والمتخلفة على السواء وفي السنوات الأخيرة تضاعفت جهود الباحثين والمتخصصين في علوم الكيمياء الحيوية والجينات والهندسة الوراثية وعلم النفس من أجل فهم أعمق لهذا المرض مواجهة أكثر فاعلية وأكثر إنسانية لمشكلاته الاجتماعية والنفسية والاقتصادية

" ثبت من الإحصاءات العلمية أن نسبة المصابين بنوع أو آخر من أنواع التخلف العقلي تبلغ 5. 3 في الألف لدى الذين تتراوح أعمارهم بين عشر سنوات وأربع عشرة سنة وتزداد هذه النسبة حتى تصل في حوالي 6 في الألف بين جميع الأعمار.

وفي أغلب البلاد الصناعية تظهر حالات كثيرة من المصابين بالتخلف العقلي بدرجة شديدة عندما يكتشف المدرسون أو علماء النفس والتربية أو أطباء المدارس أن بعض الطلبة لا يصلحون لتلقي العلم في المدارس العادية، وبين أولئك المصابين بالتخلف العقلي بدرجة شديدة لا يوجد أكثر من 15% ممن يمكنهم الاشتغال بمهام بسيطة في مجال الصناعة أما الباقون وهم 90% فلا يستطيعون القيام بأي عمل.

مقاييس القدرة العقلية

إن المقياس الشائع لقياس القدرة العقلية هو معدل الذكاء الذي يبلغ عند الناس العاديين مائة نقطة، وعلى هذا الأساس فإن الذين يقل معدل الذكاء عندهم عن سبعين نقطة يعتبرون تحت المستوى العادي؟ والذين يقل معدل الذكاء عندهم عن خمس وأربعين نقطة يعتبرون في حالة شديدة من التخلف العقلي، ويقع ضمن هذه الحالات العبط والبلاهة.

وتوجد مقاييس أخرى للقدرة العقلية تعتمد على مقاس الكفاءة- الاجتماعية، لكن هذه المقاييس تستخدم بوساطة الأطباء. والإخصائيين والمخططين الاجتماعين الذين يهتمون بتحديد نوع التخلف العقلي عند الأطفال لما لنلك من أهمية في التخطيط بالنسبة لمجالات التعليم والتربية.

أما بالنسبة للبالغين فإن مقاييس القدرة العقلية تستخدم لتميز تلك الطائفة من الناس المصابين بالتخلف العقلي حتى تتمكن السلطات المسئولة من الحجر على حقوقهم المدنية ، ومعرفة أين وكيف يعيش أولئك الناس، وهل يسمح أو لا يسمح لهم برعاية أطفالهم، وهل يعفون أو لا يعفون من الاضطلاع بمسئولياتهم المالية والاجتماعية.

أنواع التخلف العقلي

يوجد نوعان من أنواع التخلف العقلي من الناحية الاجتماعية:

النوع الأول يشمل الحالات المرضية الصريحة والتي تكون مصحوبة بعوائق اجتماعية وتعليمية تعوق المتخلف عن القيام بدوره الاجتماعي والتعليمي. وأهم الحالات المرضية من هذا النوع ما يطلق عليه اسم ( المرض المنغولي ) أو ( مرض داون )، ولكن توجد حالات أخرى نادرة مثل أنواع الشذوذ في تركيب الجمجمة.

أما النوع الثاني وهو الأكثر شيوعا فيشمل أولئك الذين يعجزون عن بلوغ المراحل العادية من الأداء الوظيفي الحركي والاجتماعي والعقلي سواء كان هذا العجز مصحوبا أو غير مصحوب بتغيرات مرضية.

وقد تجمعت في السنوات الأخيرة أدلة كثيرة على أن المتخلفين عقليا بدرجة بسيطة، وهم الذين يزيد معدل الذكاء عندهم على 50 نقطة ، قد تتحسن حالتهم بعد تركهم المدرسة، وكثيرون منهم عاديون من الناحية الاجتماعية ويستطيعون إعالة أنفسهم. وبذلك لا يمكن تمييزهم عن الناس العاديين ، لكن أقلية نادرة منهم قد تضطر السلطات إلى حجزهم بمستشفيات الأمراض العقلية.

أما الذين يقل معدل الذكاء عندهم عن 45 نقطة فيحتاجون لحجزهم بمستشفيات الأمراض العقلية ، ولكن ذلك لا يعني أن هذه هي الطريقة الوحيدة أو المثلى للتصرف إزاءهم، وإنما يعني أن أولئك المرضى يعانون من نوع من العجز يتطلب نوعا من الرعاية الخاصة لهم ولعائلاتهم طوال بقائهم على قيد الحياة.

أما من الناحية الإكلينيكية فيمكن تقسيم التخلف العقلي الشائع في الأنواع الآتية:

1- الأبله: ويبدو عليه النقص في قواه العقلية منذ ولادته في أغلب الأحيان.

ومن أهم أنواعه:

(أ) استسقاء الدماغ : هذا المرض قد يولد به الطفل أو قد يظهر في السنوات الأولى من حياته، نتيجة لزيادة إفراز السائل المخي الشوكي، أو نتيجة لانسداد في القنوات التي ينصرف هذا السائل من خلالها . يضغط هذا السائل على عظام الجمجمة فتتمدد وتصبح رقيقة في سمكها وبذلك يكبر حجم الرأس، وفي الوقت نفسه يضغط السائل على نسيج المخ فيحدث به ضمورا قد يصل إلى حد يهدد حياة الطفل.

(ب) على عكس المرض السابق قد يولد الطفل الأبله برأس صغير جدا له شكل مخروطي مثل قمع السكر، أما الوجه فيكون حجمه كبيرا بالنسبة للرأس ويتشكل الأنف بشكل المنقار وتطول الأذنان حتى تعلوان فوق مستوى الرأس.

وهذا النوع يكون نمو الطفل فيه أقل من المعدل الطبيعي وغالبا ما يكون قزما.

(ج) الطفل المنغولي: في هذا النوع يكون الرأس مستديرا وحجمه أقل من الحجم الطبيعي والجلد خشنا، والشفتان متشققتين، والجفون مصابة بالإكزيما، ويبدو اللسان كبيرا في الحجم وبارزا من الفم، أما الأنف فتكون عريضة وقصبة الأنف مفلطحة والوجه عموما يبدو مستديرا مثل شكل القمر، والعينان تكونان في شكل ثمرة اللوز ومائلتين في وضعهما، والشكل العام للوجه يشبه شكل الوجه في أطفال منغوليا.

أما اليدان فتكونان قصيرتين ، وتكون القدمان عريضتين، وطول الطفل أقل من الطول الطبيعي.

(د) هناك نوع من البلاهة يظهر في الأطفال المصابين بعدم وجود الغدة الدرقية، أو فقدان وظيفتها، ويصعب عادة تشخيص هذا المرض قبل نهاية السنة الثانية من عمر الطفل.

ويتميز هذا الطفل بضعف النمو العام، كما أن رأسه ويديه وقدميه تكون أكبر في الحجم بالنسبة للجذع والذراعين والساقين، أما الوجه فيكون عريضا وخاليا من التعبير، وتكون العينان متباعدتين وخاليتين من البريق، والأنف عريضة ومفلطحة، أما اللسان فيكون ضخم الحجم وبارزا من بين الأسنان.

وعقلية الأبله لا تزيد على عقلية طفل في الثالثة مهما تقدم به العمر، وهو ضعيف الإدراك لدرجة أنه لا يقدر على حماية نفسه من الأخطار الخارجية كما لا يمكنه التخاطب مع الآخرين.

2 - العبيط : وهذا يمكنه أن يحمي نفسه من الأخطار الخارجية، لكنه لا يقدر على كسب عيشه بنفسه بسبب ضعف قواه العقلية، وفي الغالب لا تنمو عقلية العبيط عن عقلية طفل بين الثالثة والسابعة من عمره، أما شكله فيتميز بصغر الجبهة والذقن وبتشويه في الأسنان والأطراف.

3 - ضعيف العقل: المرضى الذين ينتسبون إلى هذا النوع تنمو عقليتهم أكثر من العبط، ولكنهم يحتاجون للمراقبة والعناية، وهم انفعاليون بطبيعتهم، وفي الغالب لا يستقيمون في تعليمهم بالمدارس، ولذلك غالبا ما يفشلون في التعليم.

ويتميز ضعاف العقول بضعف حواسهم الخلقية، فهم يكذبون ويسرقون، وقد تصل بهم الدرجة إلى ارتكاب جرائم القتل، وتمثل هذه الفئة حوالي 40% من المساجين الشبان، وأغلبهم يكونون ما نسميهم (بالأحداث).

أسباب التخلف العقلي

السبب الأول لحالات التخلف العقلي الشديد سبب عضوي قد يكون نتيجة لمرض أو إصابة تقع للجنين قبل أو في أثناء ولادته، أو بعد ولادته بزمن وجيز، ومن أهم الأسباب العضوية وجود تلف بالمخ نتيجة للإصابة بالالتهاب السحائي، أو الإصابة بالمرض المنغولي - أو عدم وجود الغدة الدرقية، ولكن توجد حالات كثيرة تبلغ نسبتها 30% لا يمكن معرفة سبب إصابتها بالتخلف العقلي.

أما سبب الحالات البسيطة من التخلف العقلي فيرجع غالبا إلى عامل اجتماعي أو تربوي، بالإضافة إلى ذلك توجد عوامل كثيرة من أهمها عامل الوراثة، أو إدمان الوالدين على الخمور أو المخدرات، أو إصابة أحدهما أو كليهما معاً بالزهري أو السل أو الصرع، كما أن الزواج بالأقارب قد يهيئ التربة لحدوث التخلف العقلي.

ومن الأسباب المباشرة لحدوث النقص في القوى العقلية للطفل إصابة الأم بصدمة أو حمى في أثناء الحمل وخاصة الحصبة الألمانية، أو أن تعاني آلام ولادة متعسرة.

الموقف إزاء التخلف العقلي

والآن ما هو الموقف الواجب اتخاذه إزاء التخلف العقلي؟

في السنوات العشر الأخيرة حدثت ثورة في تفكير الإخصائيين وسلوكهم إزاء الأشخاص المصابين بالتخلف العقلي، فقد ساعدت أجهزة الإعلام المختلفة على جذب الاهتمام إلى الأبحاث النوعية في مجالات الكيمياء الحيوية وعلوم الجينات، والهندسة الوراثية وعلم النفس، مما ساعد كثيرا على فهم مشكلة التخلف العقلي، ولكن هذا الاهتمام انحصر في مجال ضيق بالنسبة للإخصائيين الممارسين بالرغم من أنه لا يوجد مجتمع يخلو من المشكلات الخاصة بالوقاية من التخلف العقلي والموقف الواجب اتخاذه إزاءه.

ومن الملاحظ الآن أنه توجد في كل الدول تقريبا فجوة بين النظرية والتطبيق. في مجالات التشخيص والعلاج والتعليم بالنسبة للمتخلفين عقليا، فمشكلة العلاج مثلا أصبحت معقدة للغاية، إذ تستوجب تعاون فريق بأكمله من الإخصائيين الذين لا يشتركون فقط في نفس النظرة الفلسفية للمشكلة، بل يجب أن يكونوا جميعا على استعداد لتعلم وسائل مهنية جديدة، واستحداث طرق للاتصال مع الأخصائيين الآخرين الذين يختلفون معهم في نظرتهم للمشكلة، وقد تسبب التهاون الذي حدث في دراسة هذه المشكلة دراسة جادة في حدوث حلقة مفرغة، ذلك لأن العجز في وجود ممارسين متمرنين يؤدي إلى نقص في الأبحاث والإحصاءات، ونقص في الاهتمام بالمشكلة، مما يؤدي بالتالي إلى قلة في الأبحاث الجماعية والممارسين المتخصصين.

وإذا نظرنا إلى مشكلة التخلف العقلي نظرة مثالية لوجدنا أن العلاج يجب أن يبدأ من العناية اليقظة بالأم الحامل، وهذا يتوقف على العلاقة الحسنة الصريحة بين الطبيب والأم، فمن الملاحظ أن الكثير من الأمهات يتصورن أن الطبيب يجب أن يلم بطريقة تلقائية بكل مشكلاتهن وأن يحلها من تلقاء نفسه، ولتوضيح هذه النقطة نذكر مثلا أن إحدى الأمهات الشابات التي كانت تعيش في ظروف قاسية وسيئة ولها ثلاثة أطفال يعانون من التخلف العقلي والأزمات الصرعية اعترفت بأنه قبل حملها الرابع كانت تتمنى لو أن الطبيب المعالج تحدث من تلقاء نفسه مع زوجها بخصوص منع الحمل.

ولقد فتحت السنوات الأخيرة آفاقا جديدة لفهم مشكلة التخلف العقلي وكيفية التعامل معها، فقد أصبح معروفا الآن أن معدل الذكاء ليس شيئا ثابتا جامدا، ولكن يمكن غرسه وتنميته بوسائل متعددة من خلال المواقف التعليمية والاجتماعية.

إن وجود مناخ عائلي مقبول يشجع الطفل على تنمية لغته، كما أن تشجيع الطفل على أن يساعد نفسه بنفسه سيقوي الحافز الذي يدفع الطفل إلى التعلم.

وهناك نقطة مهمة نود أن نلفت النظر إليها هي مسئولية رجال التربية عن إنشاء المعاهد الخاصة بإيواء المتخلفين عقليا، حيث يقحم الأخصائيون بدراسة المشكلات الشخصية والعائلية والاقتصادية الخاصة بالمتخلفين عقليا والعمل على إيجاد الحلول لها عن طريق الاهتمام أولا بسبل الوقاية ثم نواحي العلاج الطبي والنفسي، وحل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، وإنشاء مراكز للتدريب والتأهيل، والعمل على تنمية معدل الذكاء بالوسائل العلمية الحديثة، وبذلك يمكن التقليل بقدر الإمكان من الإصابة بالتخلف العقلي وخفض الأعباء التي تطرحها هذه المشكلة على مجتمعات الدول النامية.