بدأت الرحلة بقراءة بصرية للنقوش والرسوم التي صورت ملحمة (قادش), على
جدران المعابد المصرية, وامتدت الخطوات, فإذا نحن على سفر, لنصل قرب الحدود السورية
اللبنانية, بمدينة القصير شمال دمشق. وعلى مرمى حجر من الموقع العريق, نتوقف لنقرأ
دروس التاريخ, ونحن نستمتع بهبات الجغرافيا.
السكون المحيط يشبه الهدوء الذي يسبق العاصفة. لكن العاصفة كانت قد
هبت قبل 33 قرنا بالتمام والكمال, حين شهدت (قادش) معركة شرسة, قبل أن تهنأ بسلام
حقيقي.
ملوك وأباطرة
عند وفاة الملكة حتشبسوت, كانت مستعمرات مصر في سورية قد بددتها معارك
الاستقلال والانفصال عن المملكة الأم, أو الانضمام والتحالف مع الدولة الميتانية
التي مدت سلطانها من مركزها ـ الذي يقع بعد نهر الفرات ـ حتى سواحل سورية على البحر
المتوسط, لذلك ما أن تولى تحتمس الثالث الحكم, حتى بدأ منذ العام 1457 قبل الميلاد
بلغت سبع عشرة في سورية وحدها, طرد خلالها الميتانيين إلى ما بعد نهر الفرات,
مستعيدًا لمصر إمبراطوريتها في العالم القديم, وليسارع ملوك بابل وأشور وخيتا (في
آسيا الصغرى) إلى خطب ود المملكة الظافرة, وتوطيد العلاقات الدبلوماسية مع الفرعون
المنتصر.
كان تحتمس الثالث صورة كلاسيكية للفرعون الإمبريالي, الغازي, الذي
يرمي لفتح العالم, ولكنه كان أيضا حامي العدالة, ومحقق الأمن, وراعي الشعب. غير أن
ابنه الذي دعا إلى دين التوحيد, وغير اسمه من أمنحتب الثالث إلى إخناتون, لم يكن
يراعي شئون السياسة الخارجية كوالده, مفضلا عليها الاهتمام بشئون الدعوة الدينية في
الداخل. ومن هنا شاءت الأقدار لأباطرة الحيثيين, في مملكة خيتا الكبرى, وهي البقعة
التي تحت سلطة تركيا اليوم, أن تعيد اجتياح سورية حتى تصل إلى مدينة (قادش) الحيوية
التي كانت حصنا للقوات المصرية, والتي كان تحتمس الثالث كثيرًا ما يفخر بفتحه لها,
وهناك, لعب الحكام المحليون دورين مزدوجين, يخاطبون في مراسلاتهم فرعون مصر بأنهم
على العهد مقيمين, بينما هم يسهلون للحيثيين انتزاع كل أراضي الإمبراطورية المصرية
في آسيا, من جبيل (بيبلوس) إلى أوغاريت, لتصبح ملكا للقوة العظمى الجديدة في الشرق
الأدنى القديم; الإمبراطورية الحيثية.
بعد سنوات يتولى حكمَ مصر الملكُ الشابُ توت عنخ آتون (توت عنخ آمون
فيما بعد), لكنه يرحل بشكل مفاجئ بعد تسع سنوات فقط من توليه أمور البلاد, فتقرر
الأرملة القوية عنخ إس إن آمون, ألا تتزوج برجل من عامة الشعب, وتراسل الإمبراطور
الحيثي سوبيلوليوما, ليرسل أحد أبنائه إلى مصر حتى تتزوجَه وتجلسَه على عرش
مصر.
لكن الملك الحيثي لم يسارع بتنفيذ الطلب الذي أدهشه, وأرسل أحد
جواسيسه للتيقن من العرض الغريب. وكان العرض ـ كما وجده الجاسوس ـ حقيقيا. واطمأن
الملك, فأرسل أحد أبنائه, لكن آي ـ الذي تولى شئون جنازة توت عنخ آمون ـ كان قد وصل
إلى عرش مصر, ولذلك دبر أمر اغتيال الأمير الحيثي بمجرد وصوله البلاد. كانت هذه
الجريمة خطأ فادحًا, أغضب الإمبراطور الحيثي, فأغار على ممتلكات مصر في سورية,
واستشرى الشر بين الزعيمين, ونمت شجرة الشحناء بين مملكتيهما, وتواتر الشد والجذب
في بسط النفوذ على سورية بين المصريين والحيثيين. وقد استمر ذلك العداء 75 عامًا,
فلم ينتهِ سوى في عهد الملك رمسيس الثاني.
كانت لمسة رمسيس الثاني سحرية, فما أن يبدأ التنقيب في الصحراء
النوبية حتى يجد الذهب, وما أن يحس رجاله العطش حتى يعثر مندوبوه على الماء في
الصحارى القاحلة, يحالفه النجاح في كل أعماله, فيصفه المؤرخون بما يشبه المعجزات:
معطي الوظائف العليا لمن يستحقونها, قامع الثورات الصغرى بأسلوب متمكن, موجد الماء
لعمال تعدين الذهب, باني المعابد العظيمة, مرمم الآثار الناجح, ولذلك حين أتى على
فكرة العودة إلى (قادش) التي فقدها إخناتون وأتباعه, توقع أن تمتد لمسته السحرية
إلى أرض إمبراطورية الحيثيين, وبدأ في استعادة المواقع السليبة واحدا بعد الآخر.
وفي المقابل شرع الملك الحيثي مواتالليس في استعادة أمورو, وحماية (قادش) وما
حولها, وتوجيه ضربة قاسية للفرعون الشاب الطموح, وتوجه مواتالليس إلى الآلهة في
خيتا يطلب عونهم, مقسمًا بأنه سوف يغدق عليهم بأثمن العطايا, إذا يسروا له
مهمته.
الحصن والمعركة
وصلنا بعد 33 قرنا من هذا المشهد المحتدم إلى مدينة (قادش), المطلة
على ربوة عالية, فوق لسان أرضي بين نهر العاصي ـ الذي يجري شمالا, ويخترق الجزء
الشرقي من المدينة ـ وبين رافد آخر يجري من الغرب ويصب في نهر العاصي نفسه شمال
غربي المدينة, كان أهالي المدينة في ذلك الزمن البعيد, قد شقوا قناة صناعية عرضية
من ذلك الرافد لتصب في النهر جنوبي المدينة, ولتتحول (قادش) إلى جزيرة محمية يصعب
اقتحامها. وكانت المدينة تستمد أهميتها السياسية والاستراتيجية أيضا لكونها متاخمة
لإقليم البقاع, لذلك كانت المعبر بين الشمال والجنوب, إلا إذا فضلت الجيوش عبور
الساحل الضيق والصعب.
نجلس عند الرافد الغربي, في المكان الذي نصب فيه رمسيس الثاني
وحاشيته, وفرقة آمون المصاحبة له معسكرهم. لقد تصور القائد الشاب آنذاك أن
باستطاعته حصار(قادش), خاصة أن رجلين جاءاه زاعمين أنهما انسلخا عن الحيثيين, وأن
الإمبراطور قابع في الشمال بمدينة حلب, أي على بعد 120 ميلا من معسكر الفرعون. كان
الاطمئنان الخادع قد لف مخيلة الشاب, فاطمأن وجلس على العرش الذهبي, ولكن دورية
للكشافين المصريين قبضت على جاسوسين حيثيين اعترفا بأن جيوش أعدائه على بعد ميلين
فقط. ولم يكد الملك الشاب يبدأ في وضع خطة للطوارئ حتى ظهرت عربات الحيثيين الحربية
عابرة سهل (قادش) نحوه.
أتأمل مشهد السهل المنبسط; لا شك أن العربات كانت تترى في ذلك الأمس
البعيد كالطوفان, وأنها جاءت خلف المشاة الهاربين من فرقة رع الحامية الأمامية,
المذعورين أمام عجلات الحيثيين, وسهامهم وعرباتهم, فإذا بهم ينتشرون في السهل مثل
الحاصدات اللائى يتفرقن اليوم في هذه السهول الخضراء.
يجد رمسيس الثاني نفسه وحيدًا وسط فلول جيش مذعور, وخائف, فينادي حامل
درعه: قف مكانك واثبت يا حامل درعي; سأواجههم مثل منقار الصقر! وما هي إلا ساعات
حتى تنقلب الحال, بعد أن هبت لنجدته جماعة منسية من ساحل أمورو. وتهدد بضراوة عربات
الحيثيين والمحاربين الأعداء في خط الهجوم, ويذهل الإمبراطور الحيثي الرابض من مشهد
عرباته الفارة, وحين تنضم فرقة بتاح إلى جيش رمسيس الثاني تبدأ فلول فرقة رع تستجمع
نفسها أيضا, ويبدأ الجانبان يحسبان خسائرهما.
في وقت مبكر من صباح اليوم التالي يبادر رمسيس الثاني بالإغارة
العنيفة, لكن الحيثيين كان لهم التفوق العددي, وهكذا كان الهجوم غير معزز بما يكفي
من عربات, وظل الدفاع يئن بسبب جروحه, ويدرك الفريقان أن الحرب إن استمرت لن تكون
نتيجتها سوى المزيد من الخسائر, فينفصل الجيشان, ويكفان عن القتال ترقبا لما
يحدث.
ويرى مواتالليس الحكيم, الذي أفنى أموال خزائنه في التجييش
لمعركة(قادش), أن الطرق الدبلوماسية هي خير وسيلة لحل العقدة, وكان هو نفسه قد جرب
قبل خمسة عشر عامًا من ذلك التاريخ, فائدة السلام, بعد أن حققه مع الملك سيتي
الأول, فيبادر بإرسال وفد للفرعون حاملا مقترحات الصلح, بعد تهنئة رمسيس الثاني على
بسالته, ومختتما الرسالة بقوله: إن السلام أفضل من الحرب! ويجمع رمسيس الثاني
مستشاريه, ليأخذ رأيهم, فيؤيدونه على إيقاف القتال, دون أن يعطي عهدا بأن يترك
(قادش) للأبد.
وفي العام الحادي والعشرين من حكم رمسيس الثاني (1259 قبل الميلاد),
تم إبرام معاهدة سلام بين غريمي (قادش) ليوضع حد لصراع دام قرنا كاملا حول المدينة,
تعهدا فيه بوقف القتال نهائيا, وعدم اعتداء طرف على أراضي الآخر, وترسيم الحدود,
ولتظل (قادش) مركز الحد الفاصل بين المملكتين. ثم تبني المعاهدة جيلا من الصداقات
بين المملكتين تبادل خلالها الزعماء الرسائل والهدايا والسفارات, ومن أشهر الرسائل
طلب ملك الحيثيين من رمسيس الثاني أن يرسل له بعض الأطباء المصريين المهرة, مشجعا
إياهم بالعطايا حتى يقبلوا السفر إلى طقس مغاير (من مصر إلى الأناضول).
ذهب تاريخ الحرب, وبقيت صور السلام. فعلى مقربة من (قادش), وفي مدينة
القصير تعيش اليوم هذه الثنائية الحية, حيث يصبح المختلفون متآلفين, ويتجسد ذلك
السكون الروحي بين المسلمين والمسيحيين, ليس فقط في الجيرة أثناء الحياة, بل وفي
الممات أيضا, ويمتد التشابه إلى أسلوب الحياة, والملبس, والعادات, والمجالس, حتى أن
الأسماء تتشابه, فأحيانا يسمي المسيحيون أحمد ومحمد, ونادرا ما تجد أسماء تفصح عن
هوية دينية, بعد أن تضافرت المعتقدات في محيط متسامح, وقد غسل العاصي ذنوبها.
تاريخ وذاكرة
وهكذا لم يكن لي أن أميز وأنا في بيت مضيفنا الشيخ مكرم جروس بين
المسيحي والمسلم, بعد أن تسابق ضيوفه جميعهم إلى رواية ما تجود به الذاكرة من قصص
التآلف والتآخي بينهم, كأن مدينة القصير ليس بجسدها سوى شريان واحد هو العاصي, الذي
تسبح في دمه كريات العيش المشترك والسلام. عادت (قادش) رمز الحرب والسلام إلى واجهة
الحديث, حين تمنينا أن تجد الحكومة السورية ـ ضمن مشروع مشترك مع البعثات
الاستكشافية المتخصصة ـ ما يفي بطموح الأهل هنا في إعادة اكتشاف التاريخ وإحياء
الذاكرة, أنهم يحلمون بيوم يجدون فيه السياح يتدفقون على منطقة تعتبر بنظرهم الأكثر
جمالاً, والأكثر إهمالاً. هكذا يرون العاصي وشجر الحور والصفصاف وحكايات آلاف
السنين التي لا ينصت لها أحد.
شعور ما بالغبن يرافق الناس هنا, المعتزين بماضي المدينة الحر التي لم
تعرف الإقطاع. ربما يصادفك بها مزارع لا يملك سوى الحصير لكنه يتصرف كأمير وهو
يتجول في الكرمة وبساتين المشمش والتفاح والجوز والتين, أو بحقل القمح والبطاطا,
وهو يرضي نزعته إلى الكرم بإهداء القاصي والداني من خير أرضه, عادة أصيلة لا تؤثر
فيها سنوات القحط.
الكل مولع بتاريخ الأبطال الذين أنجبهم الوطن, يتمنون أن يجد أبطال
مدينتهم من الذين شاركوا في الثورة السورية الكبرى, ومن ثم في مناهضة الانتداب
الفرنسي, الطريق إلى دفاتر الطلاب, وصفحات الجرائد, وشاشات الإعلام. وحين أنتقل إلى
مكتبة المهندس محمد محب الدين (أبو حسن) تستقبلنا فرمانات ومخطوطات, ونشاهد أوائل
أعداد الصحف وأندر نسخ المجلات, ونكاد نتوه بين الكتب والمجلدات, والوثائق التي
تبدأ بشجرة نسب طولها مثل طول الحارة التي ولد بها, لكن عمرها أربعة قرون كاملة,
يجعلنا أبو حسن نمسك بطرفها, ويسحب الطرف الآخر, الذي يمتد ـ ربما ـ حتى مسقط رأس
أجداده المولودين في (قادش) أو حولها. كان الولع بالوثيقة قد نشأ في بيت الجد الذي
عمل بقسمة الأراضي في القصير, وتولى تسلُّم البريد الوارد للمنطقة في جوسيه على
الحدود اللبنانية. يقول لي أبو حسن: عندي وثيقة بخط جد الشاعر محمد وليد المصري,
فقد كان الوحيد الذي يعرف الكتابة هنا قبل 150 عامًا. وقد جاء البلاد ضمن القوات
العثمانية فلم يغادرها, ومثله كثيرون.
يستطرد أبو حسن: من أندر الوثائق التي عرضتها في أحد معارض التوثيق
على مستوى القطر ما كتبه أهالي مدينة حماة, مطالبين بأن يكون نهر العاصي لهم وحدهم,
وأنه لا يجوز لأهالي مدينة حمص حق الاستسقاء منه! من المعتاد أن ترى أبا حسن, وهو
يقود سيارته جاعلا صندوقها مكتبة متحركة, تنقل إلى منزله ومكتبه ما يجده من أوراق
ضمها كتاب, أو صحيفة. وآخر غزواته الورقية كانت في لبنان, حيث يستعد لشراء مكتبة
كاملة لشيخ في الثمانين, تبلغ ثروته خمسمائة ألف كتاب.
ومن بين 100 ألف مادة, بين المخطوطة والمطبوعة, تحتل (العربي) مكانة
خاصة ضمن مقتنيات (أبو حسن), فلديه 8 آلاف نسخة من المجلة, منذ عددها الأول, وتراه
حريصا على شراء أي عدد متاح للبيع حتى لو وجده لديه متكررا, بل لقد خصص أحد الأعوام
ليكون عام معرض (العربي).
مغارة ونبع
أما الوثيقة الأحب إلى قلب أبي حسن فهي مغارة القصير, والتي ناضل مع
أهل بلدته كثيرا حتى ينقذوها من التدمير والهدم, الذي كاد يصيبها بفعل ديناميت
المحاجر. على عتبة المغارة جلس أبو حسن فوق تلة من الرماد: تحت هذا التراب يرقد باب
بيتي! لقد أردت أن أحافظ على المغارة بعد اكتشافها, فأحضرت باب بيتي لأحمي مدخلها,
وجعلته بابا للمغارة, لكن التفجيرات لم تبقه, والحمد لله أن ذلك توقف, وبقي أن
ننتقل بالمغارة إلى مشروع يحافظ عليها, ويؤمن رحلات استكشافية آمنة إلى قلبها.بدأنا
الهبوط الحذر, الصبيان يسبقان المجموعة ويجمعان من الصخور الدقيقة ما تيسر, ومعهم
أبو حسن, الذي يحفظها مثلما يستذكر مهابطها ومصاعدها, كما كنا نتذكر جدول الضرب قبل
اختراع الآلة الحاسبة, ويتبع الثلاثة الشقيقان المضيفان يشجعانني ويحملان آلة
التصوير حينا, والشاعر محمد وليد المصري يقول لي مستحثا: لا تدعهم يتهموننا
بالجُبن, نحن أحفاد رمسيس الذي لم يهرب في (قادش)! هبطنا الأحجار الضخمة, الجافة,
وتخطينا الصخور المبتلة, نمسك الهواء حينا, وحينا نستند إلى الصواعد الباردة التي
كونتها قطرات المياه على مدار ملايين السنين.
لدى خروجنا تأملت الجبل الذي خرجنا منه, وكأننا ولدنا من جديد. جبل
يفصل الحدود السورية عن اللبنانية, وهناك على الطرف الآخر مغارة جعيتا, ترى هل هناك
رابط بين المغارتين? سؤال قد يحتاج إلى أعمار أخرى للإجابة عنه!
حدود وتهريب
في أحد المطاعم تجلس أمامنا على طاولتين متقاربتين مجموعتان, يشير
مرافقي: هؤلاء نجوم التهريب, وخاصة تهريب المازوت! والحكاية تخص القصير, مثلها كأي
منطقة حدودية, تعايش تفاوت الأسعار المدعومة يمينا, والملتهبة شمالا, مما يدعو
شبابا وفتيات كثيرين للتكسب من عمليات التهريب الحدودية, والتي يضيع أغلب عائدها في
مكالمات الهاتف الخلوي والدولي, الأولى طلبا للحب الآجل, والثانية أملا في الكسب
العاجل, الذي تعرضه الفضائيات عبر برامج الملايين, ومن لا يُهرِّب يغامر بسرقة
الخطوط الدولية, كمتنفس للكلام المباح وسواه.
أقرأ تقريرا عن المنطقة, وكيف ساهم الموقع الجغرافي لها على الحدود
بتكوين مجتمع له سماته التي تميزه عن باقي المجتمعات الريفية في المدن السورية
الداخلية أو الساحلية, فمجرد وجود إمكان لتحصيل الكسب السريع ـ في منطقة زراعية
راحت تعاني في العقد الأخير من شح المياه وتراجع واردات الزراعة بشكل مخيف بالرغم
من موقعها المميز على ضفاف العاصي قريباً من منابعه في الهرمل اللبنانية ـ تجعل
الكثير من سكان تلك المناطق يتوجهون نحو العمل في التهريب.في الساعة الخامسة صباحًا
حين تمر على محطات تزويد الوقود, ستشاهد بعض الشباب والفتيان المصطفين بالدور لشراء
المازوت, والذهاب به إلى خلف الحدود ليربحوا قروشا معدودات, وجميعهم ضمن المجموعات
السكانية التي تقطن المناطق الحدودية المحاذية للحدود الشمالية الشرقية للبنان,
سواء في مدينة القصير (50 ألف نسمة), أو القرى التابعة لها مثل زيتا والقرنية
والناعم و العقربية وعرجون والنزارية وربله, وقرى أخرى كثيرة يتجاوز عدد سكانها
مجتمعة (150 ألف نسمة).ولا يبدو واقع المتعلمين والمعلمين أفضل حالاً من واقع
الطلبة, فهناك معلمون يعملون في القرى ضمن الشريط الحدودي يحملون معهم بعض المهربات
إلى مدنهم, معتمدين على الطلبة في التبضع لهم من القرى اللبنانية. وتحت تأثير
الفاقة والخوف من الجوع في ظل بطالة قاتلة, بعدما شهدت المدينة تزايداً كبير في عدد
السكان في العقود الأخيرة, يبدأ الصغار البؤساء الهاربون من المدارس باللعب برءوس
أموال بخسة جداً تبدأ بتهريب 50 ليترا من المازوت أو أسطوانة غاز بواسطة دراجة
عادية من سورية إلى لبنان, مقابل جلب أدوات منزلية وأواني زجاجية أو سلع استهلاكية.
عمل تجاري مغر حين تنسد السبل, عمل سهل لكنه خطير يستمر جولات تنتهي غالبا في السجن
مهما طالت, ومن ثم الجنوح إلى الجريمة. ولا يتجاوز دخل الأولاد والمراهقين من
عمليات التهريب البسيطة يومياً الـ 300 ليرة سورية (6 دولارات), تزيد شيئا فشيئا مع
تقدم السن والخبرة. إنها المأساة التي تهدد المجتمع الحدودي, ويتململ منها من عرف
القصير قبل شيوع ظاهرة المهربين الأطفال, وهي ظاهرة تنتظر حلا ينقذ مستقبل الفقراء,
وتعيد الاعتبار للتعليم والعمل الخلاق. لا شك أن تحول المنطقة إلى السياحة, سواء
عبر استكشاف آثار مدينة (قادش), أو إعداد مغارة القصير للزيارة, أو تزويد الطواحين
الحجرية على نهر العاصي بمرافق مناسبة, قد يكون له أثر اقتصادي واجتماعي, يخفف من
وطأة الدافع إلى اجتياز العتبات الخطرة. وربما أيضا يفكر منظمو مهرجانات طريق
الحرير أن يضيفوا القصير إلى خريطتهم, فآمال الآلاف هنا معلقة بثوب التاريخ
والطبيعة, مثلما هو البصر المرهون بنفاذ البصيرة.
غزل ووداع
يأخذنا الطريق إلى منحنى أخير; حيث منزل الفنان رضوان طعمة الذي ظل
يرسم منذ وعى الحياة, فلم تترك الفرشاة يده, رغم التحامل الطويل للمرض والإعاقة
عليه. تأملت عشرات اللوحات المدلاة من السقف مثل ثريات ملونة, والمعلقة على الجدران
كالقناديل المزينة, تحمل آيات محبة لهذه المدينة وعاداتها, بعد أن اختار الفنان أن
يسجل يوميات مدينته ومعالمها بريشته: الجسر, الطواحين, الحصاد, عازف الربابة,
الطيور, العاصي, صانعات العجين والخبز, المسحراتي, طاحنة الحبوب, ومخضة اللبن, حتى
أنه أيضا لم ينس الوجوه. ويضحك مضيفانا فادي وفارس حين تسرح ابتسامة ذات مغزى على
شفتي أبي حسن, عندما سألته عن مليحة تبتسم في إحدى اللوحات, ويداعبه الفنان فيعترف
لي: لقد طلب مني عمل عدة نسخ من هذه اللوحة بالذات!
تمتد الخطوات والقصائد, شعر أخضر سخي بلون السهول الممتدة, وخطوات
نزقة, بفرح طفولي, وهي ترى العاصي مرة إلى اليمين وأخرى إلى اليسار, نرتاح قليلا
حيث تختلط معالم المكان ما بين المدينة والريف والبداوة, فما من حدود فاصلة, وإنما
موجات كمياه العاصي, تحف بالنهر وتترطب بمائه العذب وتطل على تخوم بادية الشام
وتتعطر بالأعشاب السهبية; كالشنان والشيح, لنستنشق من أجوائها عبوق الهيل والقهوة
المرة, كما عند الشاعر الشعبي قبيس الشدادي الذي يسامرنا, وهو يجهز قهوته في
المضافة التي تربت على رباعياته:
يا فََرَحْ ويا السلامة, يا حزن دربُه مديد/ يا نخل وين اليمامة, يا
عمر, منا إيش تريد?
جمر الموقد يغلي القهوة و يشعل الجو والقريحة, ليجد الشاعر وليد
المصري نفسه في مرفأ الرد, فيصدح هو الآخر:
نَهْر الحَلا سِكْرَان كاسُه قصيدِةْ غزَلْ عَ شْفَافِي/ طل المَدَى
والفَجْر لبس هْدُوم, خيوطها مسابحْ ورْد وزر نفنافِ/ بَكَّرْت, صباحك ندِي بَيي يا
بُو فَطوم/ قالْ النهر ماحلاك عَ ضفافي/ كفك مواسم بوَّسِتْ أدُّوم, هزَّتْ سَرير
النَّدى عَ مخدِّة العافي/ وصن بلادي من رافق العنزات, دَوْزن صَدَى أُوْفك عَلى
أوفَي/ خبى أسرار الأرض للوردات, شكلة شعر خدوفك ونوفي/ ونيسان يكرج يوشوش الميات,
يشلح للنهر قلادة دهب صافي/ ومن جيرة الشلال والعاصي, تكركش لها النجمات, تسولف لها
الوردات, أحلى عتابا وشعر طافي/ ريقك حلو, إيدك دلو, تسقي الدني وتوشح التفاح/ صوتك
سوالف كارة التنور/ ومجردو يحرك الصوان/ بين الحكايا ورفة العصفور/ صارت صبية حلوة
الغمزات, تزرزر ندي فوق حقل البور, ما أحلى الصبية وريحة الخبزات..
لم تكن رائحة الخبز وحدها هي التي ترافق النسيم, بل عبير الزهور التي
توزعت ألوانها على باليتة التاريخ والحاضر معًا, يرويها العاصي من دمعه ودمه,
فيشربها النظر بين (قادش) والقصير, نغادرها سالكين طريقا تتوزعها كروم اللوز
الخضراء, حيث تصطف قرى الدمينة والحمراء والضبعة, تودعنا قبل الوصول إلى شنشار
مفترق الطرق الواصلة بين دمشق وحمص, ما بين الجنوب والشمال, وهي المسافة التي
تناهبتها الحرب تارة وتوسدها الحب مرات, لكنها كانت دائما طريق السلام وربما
الحرير.