صفحات مشرقة من التاريخ العربي الرازي... طبيبًا

صفحات مشرقة من التاريخ العربي الرازي... طبيبًا
        

يعد الرازي نموذجًا لحياة الأفذاذ متعددي المواهب, فهو فيلسوف, وطبيب, وعالم طبيعي وعقلية تركيبية وموسوعية.

          ولد أبو بكر محمد بن زكريا الرازي الملقب بجالينوس العرب حوالي عام 250هـ/864م في الري بالقرب من طهران, امتاز بعقلية تركيبية, عكف على الدراسة والتحصيل والتجريب في مختلف العلوم الطبيعية ابتداء من الكيمياء والصنعة, وانتهاء بعلوم الطب والملاحظات الإكلينيكية (السريرية) الدقيقة. وقد وصف البيروني هذا النشاط العلمي خير وصف في كتاب له عن مؤلفاته عندما قال عنه: (كان دائم الدرس, شديدًا لأتباعه, يضع سراجه في مشكاة على حائط يواجهه, مسندا كتابه إليه كيما إذا غلبه النعاس سقط الكتاب من يده, فأيقظه ليعود إلى ما هو عليه).

          ويقول ابن أبي أصيبعة ناقلاً عن أحد معاصريه: (ولم يكن يفارق المدارج, وما دخلت عليه قط إلا ورأيته ينسخ إما يسود أو يبيض). وقد بلغ من صبره واجتهاده في ميدان المعرفة أنه كتب بخط مثل خط التعاويذ في سنة واحدة أكثر من عشرين ألف ورقة, واستمر في تأليف (الجامع الصغير) خمس عشرة سنة ليلاً ونهارًا, وهو دليل على التأني والجودة, وهو يصرح بما ترتب على هذا قائلاً: (حتى ضعف بصري, وحدث علي فسخ في عضل يدي يمنعاني في وقتي هذا عن القراءة والكتابة, وأنا على حالي لا أدعهما بمقدار جهدي, وأستعين دائمًا بمن يقرأ ويكتب لي).

          ولكثرة انكبابه على الكتب والقراءة على أنوار القناديل ضعف بصره, واختتم أمره بالعمى ونزول الماء في آخر عمره على عينيه. ولم تطل أيامه بعد مرضه, وتوفي بالري عام 313هـ/925م. وفي أوج نشاطه, أصبح كبير أطباء مستشفى الري, حيث مارس مهنة التطبيب محاطًا بتلاميذه وتلاميذ تلاميذه. وكان إذا قدم مريض فحصه التلاميذ, وإذا استعصى عليهم تشخيص المرض قدموا إليه المريض, وكان الرازي أيضًا رئيس أطباء مستشفى بغداد. ولكثرة ممارسته للطب ومباشرته لعلاج المرضى في مختلف التخصصات, تراكمت عنده معرفة علمية, إضافة إلى قراءته النظرية للتراث الطبي اليوناني, لذلك صار الرازي أول مَن أظهر أهمية الطب الإكلينيكي أو السريري في الحضارة العربية الإسلامية, ولم يغفل الطب النفساني, فقد كتب عنهما في مؤلفاته باستفاضة غير مسبوقة, كما صنّف في الكيمياء وأسرارها والعقاقير وتحضيرها, بل ويعتبر واضع أصول فلسفة النظريات الطبية في الإسلام, على الرغم من أنه ساعد على تطوّر أدب الطب وأخلاقيات ممارسة مهنة الطب والعمل في البيمارستانات.

          وقد حارب الشعوذة في هذه المهنة وهاجم الجهلاء والمبتزين من الأطباء, ففي كتاب (المرشد) كان شارحًا ومفنّدًا فصول أبقراط, مبديًا آراء أصيلة في تجارب الطبيب وأهمية علاقته مع مرضاه, واعتباره كل مريض كفرد مستقل عن سواه, له شخصيته وتدبيره الخاص الذي ينفرد به بالنسبة لتاريخه وعاداته وبيئته, وما يناسبه من علاج ودواء.

          وكان الرازي معاصرًا للفارابي (299هـ), وقد اطلعا معًا على كتب أرسطو في (التحليلات الثانية), وتنقّل الرازي كثيرًا, وكان لهذا أثره في اكتساب المعارف, فقد كان كثير الترحال حتى طاف بمصر وسورية والأندلس, وتنقّل من بلاط إلى بلاط, وقد مارس الطب وجرّبه في كل مستشفى طرقها أو عمل فيها, وهو يشبه في هذا الترحال فيثاغورس وجالينوس وأفلاطون.

          وقد قدّره الدارسون من الأوربيين حق قدره, فيقول عنه (كوربان) إنه (طبيب شهير وشخصية إيرانية فذّة). وشهد له (ستابلتون) الإنجليزي بعد أن درس كتبه الكيميائية بأنه (قد بقي بلا ندّ حتى بزوغ فجر العلم الحديث في أوربا). وقد علقت مدرسة الطب بباريس صورة ملوّنة للرازي إلى جانب ابن سينا وابن رشد, وخصصت جامعة برنستون الأمريكية أفخم ناحية في أجمل مبانيها لعرض أثره).

التراكم العلمي

          كتب الرازي كثيرًا من المؤلفات, ذات أسلوب رصين, يجمع بين الإيجاز والعمق في دقة تحليل لكل ما يعرض له, من كتب ومؤلفات السابقين, فهو يشرح ويفسّر ما في هذه الكتب, ويجعلها أقرب إلى الطلاب وأيسر فهمًا, في وقت كانت فيه علوم الطب والكيمياء غريبة على العرب والمسلمين, وتعد عندهم من علوم الأوائل, وكان عليه أن يبيّن لطلابه - كي يتقنوا هذه الصناعة الشريفة والمهمة - رأيه في محنة الطب (امتحانهم). وأن يهديهم إلى ما يعينهم في ممارستهم العلاج.

          ولذلك يقول في أول كتاب (الفصول): (دعاني ما وجدت عليه فصول أبقراط من الاختلاط وعدم النظام والغموض, والتقصير عن ذكر جوامع الصناعة كلها أو جلها, وما أعلمه من سهولة حفظ الفصول وعلقها بالنفوس, إلى أن أذكر جوامع الصناعة الطبية ومجملها عن طريق الفصول, ليكون مدخلاً إلى الصناعة وطريقة للمتعلمين).

          وله مثل هذا القول عن مؤلفات جالينوس, الذي كان يجلّه مع أبقراط أعظم إجلال, ولم يجد حرجًا في أن يستعين بمؤلفات السابقين من اليونان وبخبراتهم المدوّنة في تطوير مختلف العلوم الطبية, فقد كان الرازي يؤمن بخاصية التراكم العلمي, وكيف ينبغي أن تتواصل الحضارات وتتلاقح الثقافات مما يؤدي إلى تراكم العلوم والمعارف, ولذلك يقول في علم الطب: (هذه صناعة لا يمكن الإنسان وحده إذا لم يحتذ فيها على مثال من تقدمه أن يلحق فيها كثير شيء, ولو أفنى جميع عمره فيها, لأن مقدارها أطول من مقدار عمر الإنسان بكثير. وليست هذه الصناعة فقط, بل جل الصناعات كذلك, وإنما أدرك مَن أدرك من هذه الصناعة إلى هذه الغاية, في ألوف من السنين, ألوف من الرجال, فإذا اقتدى المقتدي, صار كمن أدركهم كلهم في زمان قصير, وصار كمن قد عمّر تلك السنين).

          وكان الرازي يؤمن بقوة اجتماع القراءة والمعرفة النظرية, إلى جانب الخبرة واكتساب التجارب العملية, ويقول: (إن قليل المشاهدة المطلع على الكتب, خير ممن لم يعرف الكتب, على ألا يكون عديم المشاهدة)). ويقول: (مَن قرأ كتب أبقراط ولم يخدم, أفضل ممن خدم ولم يقرأ كتب أبقراط). ولذلك يقول د.محمد كامل حسين في بحث علمي دقيق له عن طب الرازي: (لا تقاس عظمة الأستاذ بابتكاره, على الأقل في العصور الوسطى, ولكن باستقراء مذهبه في التعليم ووضوح آرائه وأسلوبه, وحسن شرحه وتفسيره, وله فضل كبير في الدعوة إلى تدبير المشاهدات, والتدوين أول المعرفة الحقّة بالطب, ومثل هذا التدوين عمل تحضيري لابد منه قبل أن تكتب الكتب الطبية المستقرة. أما الروّاد المبتكرون, فليس لهم أن يقطعوا برأي في العلل والعلاج مالم يسبق ذلك تدوين كثير, واختيار لما هو حق وما هو باطل).

          وبالرغم من كل ذلك, فقد أضاف الرازي إلى المعرفة الطبية كثيرًا من المعارف والحقائق والنظريات والتجارب, وهو يهتم بتدريب الطبيب وامتحانه, ويقول: (فأول ما تسأل عنه التشريح, ومنافع الأعضاء, وهل عنده علم بالقياس, وحسن الفهم, ودراية في معرفة كتب القدماء, فإن لم يكن عنده ذلك, فليس لك حاجة إلى امتحانه في المرض).

          ولم يمنعه اعتماده على كتب السابقين وشرحه وتفسيره, لها, من اعتراضه على كثير مما جاء بها, خاصة عندما تتعارض مع ملاحظات طبية صحيحة, أملتها التجربة وأثبتها الواقع العملي, ومن هنا لم يقصر في تدوين كل ما سمع وقرأ ورأى, وهذا سر كثرة تآليفه ورسائله العلمية, التي دفعت البيروني إلى تصنيف رسالة لإحصاء عناوين هذه المؤلفات مع تبويبها في دراسة ببليوجرافية مبكّرة هي (فهرست كتب الرازي), ويحتوي هذا الثبت على كثير من المؤلفات في الطب, وفي الطبيعيات والمنطق, والرياضيات والنجوم, والتفاسير والتلاخيص, والفلسفة وما وراء الطبيعة والإلهيات, والكيمياء, وفي مواضيع شتى متنوعة.

          ومن أهم مؤلفاته (السيرة الفلسفية), و(البرهان) و(شكل العالم) و(الطب الروحاني) و(الجامع) و(الحاوي), ومؤلفات في مختلف الأمراض كالحصبة والجدري, ولذلك عدّ من كبار العلماء الذين كتبوا بالعربية في العهد الساماني, بل وأتقنوا التأليف بها, ولذا كان لمؤلفاته أثرها الكبير في الحضارة, مما دفع الكثيرين إلى الاهتمام بترجمتها من العربية إلى غيرها من لغات عدة.

          ويعتبر كتابه في (الحصبة والجدري) من أشهر مؤلفاته المبتكرة, وهو أول كتاب من نوعه في هذا الموضوع, ميّز الرازي فيه بين المرضين, ووصف بدقة مميزاتهما وتشخيصهما, وهو يلمح في الإشارة إلى أهمية الفحص الدقيق للقلب والنبض والتنفس والبراز عند مراقبة المريض, ولاحظ أن ارتفاع الحرارة يساعد على انتشار الطفوح, وأشار إلى وسائل وقاية الوجه والفم والعين, وتجنّب الندوب الكبيرة.

          وقد امتاز الرازي بمواهبه الإكلينيكية (السريرية) الممتازة, وظهر هذا في أكبر مؤلفاته الطبية وأشهرها الحاوي, وهو موسوعة طبية تقع في أربعة وعشرين جزءًا, حشد فيها معارف السابقين, سواء كانوا يونانًا أم فرسًا أم هنودًا أم عربًا مع النص بأمانة على صاحب الفكرة, مما يدل على غزارة اطلاعه, وأمانته العلمية, كما ضمنه أهم أفكاره التجريبية والإكلينيكية في الطب, وخاصة تلك الممارسات السريرية التي كان أول مَن نبّه عليها. ولم يبق من هذا الكتاب سوى اثني عشر جزءًا مبعثرة في مكتبات أوربا.

          أما كتاب (المنصوري), فإنه كان أقل حجمًا من (الحاوي), إلا أنه في نفس مستواه من الأهمية العلمية, وظفر بشهرة واسعة في القرون الوسطى. وهناك كتابه (منافع الأغذية) الذي يعتبر من رسائل أطباء العرب في حفظ الصحة, حيث اعتبر مبدأ (الوقاية خير من العلاج) مبدأ أساسيًا في عالم الطب. وبالرغم من اهتمام الرازي بالجانب العملي من الممارسة الطبية, فإنه ينصح المعنيين بالطب بالتدوين, وله في ذلك رأي مستقر سار عليه هو نفسه فيقول: (إن كنت معنيًا بالصناعة, وأحببت ألا يفوتك ولا يشذ عليك منها شيء - ما أمكن - فأكثر جمع كتب الطب جهدك, ثم اعمل لنفسك كتابًا تذكر فيه كل علة, ما قصر الكتاب الآخر وأغفله في كل نوع من العلل وحفظ الصحة الرتبة, من تعريف أو سبب أو تقسيم أو علامة أو علاج أو استعداد أو إنذار أو اعتراض, فيكون ذلك كنزًا عظيمًا, وخزانة عامرة). ومن هنا لم يكن عجيبًا أن يصاب الرازي في آخر أيامه - من كثرة تدوينه - بمرض منعه الكتابة يسميه الأطباء Witere Camp.

الطبيب الممارس

          على أن خير ما في تأليف الرازي وموضع فخره هو من غير شك مشاهداته الإكلينيكية وحسن إدراكه للدلالات, وصواب حكمه, ولا نزاع - كما يقول د.محمد كامل حسين - أن ذلك لم يكن كله من ابتكاره, فكثير من علمه في هذا الباب يرجع إلى سابقيه, وعندي أنه ليس لنا أن نسأل الطبيب المعالج حين يصدق علاجه في مرض خطير من أين أتى بنصيحته أهي يونانية أم مبتكرة? إنما الذي يعنينا أن يكون علاجه صوابًا وعلمه بالمرض دقيقا, إضافة إلى أن تاريخ الطب بل تاريخ كل علم هو تراكم علمي متنام لمعارف الإنسان في هذا المجال يضيف فيه اللاحق إلى السابق, الصحيح من المعارف والأفكار والنظريات.

          على أن تفوق الرازي يظهر جليًا في التشخيص, وخاصة فيما يسمى بالتشخيص المقارن, وهو نوعان, والرازي متفوق في كلا النوعين. النوع الأول: يتناول علامة من العلامات المرضية, ثم يبحث في أسبابها وكيفية التفريق بين الأسباب المختلفة. ومثال ذلك قوله في احتباس البول. والنوع الثاني أن يتناول أمراضًا متشابهة ويقارن بين علامات كل منها مقارنة توضح ما يجب الأخذ به عند التشخيص, وهذا واضح في كثير من رسائله التي حققها بول كراواس. وقد تمكن الرازي في التشخيص المقارن من التفريق بين القولنج وحصاة الكلى. والقولنج مرض يرد ذكره كثيرًا في كتب القدماء, وهو مرض غير محدد الأعراض, وليس من السهل أن نضع له اسمًا حديثًا - كما يقول أحد الباحثين - يوافق ما جاء عنه في تلك الكتب, ولكنه من غير شك مجموعة من الأمراض تتصل بالقولون. ومنها التهاب الزائدة الدودية, وهو مرض ظلت أعراضه تختلط وأعراض التهابات القولون إلى عهد حديث جدًا. ويرجح ذلك قول الرازي أنه يصيب الجهة اليمنى من البطن أكثر, وبعض حالاته كان على الأرجح حالات انسداد معوي, وإن لم يبلغ حد الاختناق المعوي. وتتضح أهمية هذا الأمر أن التمييز بين التهاب الزائدة والمغص الكلوي أمر لايزال الأطباء في حاجة إليه حتى اليوم, والخلط بينهما كثير الوقوع.

          وهناك كثير من الدلالات الطبية في رسائل الرازي ومؤلفاته, وكلها مفيدة لا غنى للطبيب الممارس عن تقصيها,وفيها دقة يقدرها كل طبيب غاية التقدير. على أننا لا نجد في التشخيص المقارن بين الحميات هذا الوضوح في تحديد العلامات ودلالاتها, ولا غرابة في ذلك, فلم يكن لهم أن يفرقوا بين الحميات المتشابهة بما يعمله الأطباء المحدثون من تحاليل, خاصة بعد تقدم الأدوات والأجهزة العلمية, بل كان اعتمادهم كليًا على أشياء يصعب تحديد الحميات على أساسها, فكانوا ينظرون في الزمان, والسن, والمزاج, والنبض, والبول, والنافض, والعرق, وكيفية الحرارة, ومقدار النوائب, والعطش, وحال الأحشاء, والقيء, والبراز, والسهر, والنفس, والصداع, والتشنج.

          وحار الأطباء القدماء - ولهم العذر في ذلك - في تقسيم الحميات. وكان جالينوس على حد قول الرازي يقسمها إلى حمى ورمية وحمى غير ورمية. والرازي يقسمها أصلاً إلى حمى عرض وحمى مرض, وهو تقسيم جيد, وهو ما يفضله المؤلفون المحدثون, يقول الرازي: (حمى العرض: تكون من ورم أو طحال أو الرئة أو الحجاب أو معي الصائم أو الجراحات أو الديبلات أو في الدماغ, كالحال في قراينطش وليثرغس. ويقول عن حمى المرض إنها تكون بعفن أو بغير عفن, ثم يأخذ في تحليل أنواعها المختلفة.

          ومن الحالات الجديرة بالذكر قوله: (رأيت رجلاً تقيأ قطعة لحم أعظم من الجوزة, ولم يمت, فحدست أنه كان في معدته باصور كبير دقيق الأصل, انقطع ودفعته الطبيعة بالقيء), وهذه - كما يقول طبيب معاصر - حالة (Polypus) في المعدة وهي حالة نادرة, ولكن الرازي فهمها فهمًا جيدًا. وله في وصف داء الكلب: (كان عندنا في المارستان منهم من يهيج بالليل. وكان رجل لا يشرب, وإذا قرب إليه الماء لم يخفه, لكن يقول: هو منتن, وفيه بطون الكلاب والنسانيس. ورجل كان إذا رأى الماء ارتعد واقشعر وانتفض حتى ينحى عنه).

          وله وصف جيد للكلب الكلب فيقول: (لا يعرف صاحبه, ويشد على كل ما وجد, وهو مفتوح الفم, ملذوع اللسان, قد أرخى أذنيه, وأدخل ذنبه بين رجليه, وطأطأ رأسه, واحمرت عيناه, وتهرب منه الكلاب, ويسيل من فمه الزبد). وهناك كثير من الحالات التي نشرها د.ماكس مايرهوف في مجلة (إيزيس), وهي مجموعة فريدة, وصف فيها الرازي ثلاثًا وثلاثين حالة, وليس لها نظام واضح, وسبب ذلك أن الرازي اختارها من غير شك لتكون موضوع محاضرات إكلينيكية, وهي وإن يكن منها ما هو مذكور لغرابته وندرته, فإن أكثرها يصلح, بصفة خاصة, لشرح المبادئ العامة للتشخيص والعلاج. وهي مدروسة درسًا وافيًا في مقالة د.مايرهوف, ويمكن الرجوع إليها, ومنها يتبين أن قدرة الرازي في الطب الإكلينيكي أمر لاشك فيه, فيه دقة مشاهدة, وقوة المقارنة, وصدق الحكم, والقدرة على تمييز الدلائل وتقويمها, بالرغم من تقيده بالنظريات اليونانية, ويكون في أحسن حالاته عندما يفزع للمشاهدة والمقارنة والاستنتاج, حين يكون بعيدًا عن الشروح القائمة على الأخلاط والأمزجة.

          وللرازي في علاج مرضاه مبادئ طبية مهمة وناجعة, بدأ الطب الحديث في العودة إليها واعتمادها مثل قوله: (ما قدرت أن تعالجه بدواء مفرد فلا تعالجه بدواء مركب), وقوله (الطبيب الحاذق من يبرئ بالأدوية الأدواء التي تعالج بالحديد مثل الخراجات, والعظام التي تتعرى من اللحم, ولا يحتاج في شيء منها إلى البط والقطع إلا أن يدعو إلى ذلك ضرورة ملحة, والذي يبرئ كثيرًا من الأدواء بالأدوية والتدبير, والذي يقدر أن يعالج بدواء واحد عللاً كثيرة). أليس في ذلك شبه كبير بقول الجراح موينهان: (إن الجراحة هي بلوغ غاية ما بالقوة لعجزنا عن بلوغها باللين).

 

بركات محمد مراد   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات