ذلك العنف الأعمى.. محاولة لتحديد المفهوم

ذلك العنف الأعمى.. محاولة لتحديد المفهوم
        

  • إرهاب الدولة الذي تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين يجب ألا يوقعنا في التغاضي عن الإرهاب الآخر
  • فرانز فانون دافع عن العنف وطالب به لمواجهة الاستعمار, لكن العنف الآن اتخذ أشكالاً وتوجهات غير مقبولة, ويصعب الدفاع عنها
  • بالرغم من عاطفية القارئ والمشاهد العربي ونفوره من التنظير فإن خطر العنف في مجتمعاتنا يوجب أن نستخدم العقل ونحكمه في تحليل الظاهرة ونقدم منطق البحث والتحليل

          تكاثرت أعمال العنف الدامية التي وصلت في معظم الأحوال إلى حدود اللامنطق واللامعقول, وباتت تشكل ظاهرة خطيرة تلتهم أمن وطمأنينة الناس العاديين, وتعطل أي استثمار عقلاني لجهود النماء الإنساني, كما أنها تمنح كثيرًا من الذرائع للمتربصين الراغبين في التدخل والقهر, وبالرغم من أن الظاهرة أبعد ما تكون عن الثقافة ببنيتها المتطلعة إلى الإرهاف والجمال, فإن النظر إلى هذه الظاهرة بأدوات الثقافة, بات مما لا بد منه. 

          رهائن عُزل تحت تهديد السلاح يناشدون الضمائر للإفراج عنهم,, وركاب قطار مسالمون تتطاير أشلاؤهم إثر انفجار مباغت, وموكب شخصية عامة لم يؤذ صاحبه أحدًا - فضلا عما قدمه للناس ولبلاده من خير مشهود - يتفجّر مشتعلاً حتى يتعذر التعرف على جثث ضحايا التفجير, الذي لم يسلم منه عشرات المارة, رءوس تُقطع وبشر يُذبحون على شاشات التلفاز, ومفارق شبكة الإنترنت, أطفال يؤخذون رهائن تحت تهديد السلاح, ومصلون يدخل عليهم من يفجر نفسه وينسفهم داخل بيت من بيوت الله, سيارات مفخخة تنفجر بعشوائية فتقتل بشرًا مسالمين لم يذنبوا في حق أحد. صور مريرة كثيرة, فضلاً عما هو معروف على الجانب الآخر من بيوت تهدم فوق رءوس ساكنيها, وصواريخ تتصيد سيارة بها أطفال بصحبة آبائهم. ماذا نسمي هذا كله? إنه شر لا شك فيه, ونوع من الانحطاط البشري الذي يولغ في دم البشرية العزلاء. مستنقع يخوض فيه فرقاء تختلف مزاعمهم, وبالرغم من الاتفاق على أسن هذا المستنقع ورائحته الزاكمة, فإن تعريف ما يدور فيه من عنف أعمى لايزال يستعصي على التحديد الثقافي, ويختلف فيه كثير من المثقفين, الذين يترددون بين مفهومي (المقاومة) و(الإرهاب), وهي حيرة ترجع إلى جدل قديم, كانت ذروته كتابًا شهيرًا صدر إبان مرحلة التحرر الوطني من الاستعمار, وهو كتاب (معذبو الأرض) لفرانز فانون, والذي نقله إلى العربية الدكتوران سامي الدروبي وجمال الأتاسي منذ ما يزيد عن ثلاثين عامًا. إنه جدل قديم, ومع ذلك لا بأس من تجدده, فالمتابع للكتابات العربية المعاصرة يلاحظ عزوفًا عن وضع تمييز حاسم بين مفهوم (الإرهاب) ومفهوم (المقاومة). فأغلب الكتاب العرب المعاصرين يستخدمون هذين المفهومين كما لو كانا يعنيان الشيء نفسه. وهذا يعكس الحيرة بين ما يُمارس على العرب والمسلمين من إرهاب دول وأنظمة - أبرزه ما تقترفه إسرائيل في حق المدنيين الفلسطينيين وبيوتهم وحقولهم وأشجارهم - وبين ردود الفعل الفلسطينية على هذه الجرائم الإسرائيلية.

بحثًا عن الموضوعية

          من الممكن بالطبع أن نترك الأمور تمضي على هذه الحال. فالقارئ العربي غير مغرم بالتحديد الدقيق للمفاهيم والمصطلحات, وهو بشكل عام ينفر من التنظير, فهو يفضل اللغة الخطابية التي تتسلل إلى القلب, على اللغة الموضوعية, التي تخاطب العقل.

          إلا أن مجريات الأمور الحالية في الساحة الدولية قد وصلت بنا - كتابًا وقراءً - إلى منعطف خطير يحتم علينا مراجعة المفاهيم وتدقيق المصطلحات التي نستخدمها, وبخاصة مفهوما (الإرهاب) و(المقاومة). فكثيرًا ما يستغلق علينا فهم مستجدات وأخبار الصراعات العنيفة التي تتناقلها وسائل الاتصال وتقذف بها في أعين وأسماع أبنائنا وإخواننا فلا نعرف أنفسرها لهم تحت بند (مقاومة)? أم (إرهاب)?!.

          ما نقصد التركيز عليه هنا هو أن نسهم في تقديم اجتهادات ثقافية نقدية تساعد في تمييز الفرق بين (الإرهاب) و(المقاومة). ولا بد لنا من الاعتراف بنقيصة تعتري المحاولات التي تدعي لنفسها درجة من الموضوعية - كمحاولتنا الحالية. فأغلب المفاهيم والمصطلحات التي تقدم على أنها موضوعية تحمل كثيرًا من التحيزات الذاتية لأصحابها, ولا ينجو من ذلك أكثر المفاهيم صدقًا وصحة. فقد عرفنا أن أحد الأسرار وراء تبني (جاليليو) لمفهوم مركزية الشمس - في عصر فرضت فيه الكنيسة على الجميع مفهوم مركزية الأرض - هو تأثره بمخطوطات علماء قدامى لا يدينون بالكاثوليكية, ممن كانت تحيزاتهم تدفعهم لتبني مركزية الشمس بدلاً من الأرض. لذا فالتحيز موجود حتى في أكثر المحاولات علمية وموضوعية.

          لكن حتمية التحيز هذه يجب ألا تدفعنا إلى قبول تشوش المفاهيم والركون إلى استغلاقها, فلا يصح أن نصر على تحيزاتنا بدعوى أنه مادام لا بد من التحيز, فلنختر تحيزاتنا بدلاً من أن ننصت لتحيزات الآخرين. فلولا الإنصات لتحيزات الآخرين ما تحاورت الحضارات وما أفادت من التلاقح والمثاقفة. بل إن هذا الحوار هو الشرط الأول لتقليص التحيزات إلى حدها الأدنى, وتحقيق فهم أعمق للأمور.

          بالمثل تم تحميل مفهومي (الإرهاب) و(المقاومة) بكثير من التحيزات تبعًا لقناعات وأيديولوجية من يستخدمها, فما يطلق عليه البعض (إرهابًا) قد يطلق عليه البعض الآخر (مقاومة), والعكس بالعكس. لكن ذلك لا يعني استحالة الحوار بين الفرقاء في هذا المجال.

          فلنحاول على أي حال, إلقاء مزيد من الأضواء على التفرقة بين مفهومي (المقاومة) و(الإرهاب).

          إن بلورة المفاهيم وصياغتها لاكتساب رؤية أعمق لمجريات أمور الحياة التطبيقية هو مجال الفلسفة التطبيقية. فقد ظهر هذا المجال الفلسفي الجديد في الخمسينيات من القرن العشرين, وقصد إلى التعامل مع القضايا الحياتية التي درجت العادة الأكاديمية على تجاهلها بصفتها مجريات واقعية متعينة أكثر من اللازم, بما يند عن التنظير, ويبعد عن التجريد اللائق بالأكاديميين.

          ومن أمثلة القضايا التي تتعامل معها الفلسفة التطبيقية: أخلاقيات المال والأعمال - أخلاقيات السياسة والملكية - أخلاقيات الحروب والمجاعات - أخلاقيات التلوث والبيئة - الحرية القانونية - صراعات المصالح - نظرية المباريات - التفرقة العنصرية - العدالة والمساواة الاجتماعية - حقوق الجنين والإجهاض - التكاثر الاصطناعي والهندسة الوراثية. وطبيعي أن ينضم إلى هذه الحزمة من القضايا الحياتية, أخيرًا, موضوع العنف كمفصل بين مفهومي المقاومة والإرهاب.

          ومن هنا نجد لزامًا علينا أن نعود إلى فترة سابقة من التاريخ المعاصر شهدت جدلاً بين المفهومين.

          لقد تصاعدت موجات (التحرر) الوطني والقومي من نير القوى الاستعمارية مع بداية النصف الثاني من القرن السابق. وقد وجدت القوى الوطنية في البقاع المحتلة من إفريقيا وآسيا في العنف أداة فعالة لدفع المحتل (المستعمر) إلى الجلاء عن المستعمرات. وقد وصلت أيديولوجيات مكافحة الاستعمار إلى أوج ذروتها مع صدور كتاب (فرانز فانون) الزنجي المارتينيكي عام 1961 بعنوان (معذبو الأرض), وفيه دافع عن ضرورة استخدام العنف ضد المحتل, حيث يقول: (القيمة الأساسية هي الأرض. ويصبح المستعمَر (بفتح الميم) إنسانًا بقدر ما يحطم العالم الاستعماري من على أرضه. وتحطيم العالم الاستعماري ليس معركة عقلية, بل هو حركة توكيد عنيف لأصالة مطلقة).

          فالعنف هنا تصبح له وظيفة (تحررية) على المستوى النفسي والعملياتي. ويذكر فانون حالات كثيرة لمرضى نفسيين يرزحون تحت الاحتلال, حيث لا علاج لهم سوى ممارسة العنف ضد الاستعمار.

          تصدرت كتاب (فانون) مقدمة رائعة لجان بول سارتر تؤذن بأن العصر الحالي هو عصر (مقاومة) المستعمرات في الشرق للاستعمار الغربي. وكان الاستقبال المهيب الذي استقبل به الكتاب في أوساط المثقفين في الشرق والغرب شاهدًا على صدق تفسيره لتنامي تأييد حركة (المقاومة) في هذا الوقت.

          يعتبر (فانون) من أقوى المنظرين لمفهوم (المقاومة), وبخاصة نتيجة أن كتاباته قد اقترنت بممارسة عملية واقعية بانضمامه للمقاومة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي.

          كان (فانون) شابًا يمتلئ حماسًا, وكان قلمه ينفث نار حماسته في تشجيع الأهالي الأصليين بالعالم الثالث على العنف والثورة في وجه الاستعمار. لكن القدر لم يمهله طويلاً, فقد توفى (فانون) في ريعان شبابه ولم يترك لنا مؤلفًا واحدًا يراجع فيه أفكاره أو يحذرنا من المرحلة التي يمكن أن تنقلب فيها المقاومة لتصبح (إرهابًا).

          فكثيرون من قارئي (فانون) كانوا يتوقعون أن يصحح بعض أفكاره الحماسية, إذا ما امتد به العمر.

          فقد فعل ذلك أغلب المفكرين من أفلاطون إلى هيجل إلى ماركس إلى سارتر. فلدى كل المفكرين توجد مراجعات وتصحيحات ما بين كتاباتهم المبكرة وكتاباتهم المتأخرة, إلا أن ذلك لم يحدث في حالة (فانون). فالفترة التاريخية القصيرة التي عاشها (فانون) لم تكن لحظة مراجعة, بل كانت لحظة انطلاق للمقاومة. أما اللحظة التاريخية التي نحياها نحن فتشهد مراجعة كبيرة للمفاهيم المؤسِّسة لحركات التحرر والمقاومة, لكي تتوافق مع المراجعة الجذرية لأشكال الاستعمار الجديدة.

نشوء مفهوم (الإرهاب)

          بعد عقد من موت (فانون), وفي منتصف السبعينيات كانت أغلب المستعمرات قد حصلت على استقلالها. وبدأت الحكومات الوطنية الجديدة في العالم الثالث, تعيد صياغة علاقتها بدول الشمال والغرب. فبعد رحيل المستعمر عن أراضيها, وجدت حكومات العالم الثالث نفسها أمام مهمة جديدة لا تصلح معها البندقية, وهي مهمة بناء الدولة وتنمية المجتمع.

          وهكذا انحسرت الميول القتالية لدى حكومات دول العالم الثالث وانسحبت من مجال الحروب مع الاستعمار الذي تغيرت مواقعه ومواقفه, لتركز على مهمة البناء الداخلي - فذلك أصبح مجال القتال الجديد.

          إلا أن الأثر الذي تركه (فانون) وغيره من منظري وممارسي المقاومة ظل باقيًا ومتناميًا لدى بعض الحركات الشعبية التحررية, ولم ينحسر بالطريقة نفسها التي حدثت لدى الحكومات. ففي الوقت الذي تراجعت فيه الصراعات المسلحة بين الدول, من حيث العدد والاتساع, تفاقمت الصراعات المسلحة بين المجموعات ذات الاختلافات العرقية والدينية والأيديولوجية بشكل غير متوقع. ففي داخل كل دولة, وجهت بعض الحركات سلاحها إلى إخوانها في الكفاح القديم مطالبة بالاستقلال. وأصدق مثال على ذلك ما حدث في شبه القارة الهندية بعد رحيل الاستعمار الإنجليزي من انفصال باكستان وظهور مشكلة كشمير.

          بهذه الطريقة ظهر مفهوم (الإرهاب).

          ففي عصر (فانون) كانت المقاومة هي الإستراتيجية التي تنتهجها شعوب العالم الثالث, للكفاح ضد الاستعمار الأوربي والحصول على الاستقلال.

          أما في العصر التالي على الاستقلال فقد أصبح (الإرهاب) فيه هو الإستراتيجية التي تنتهجها الجماعات المسلحة المنشقة, التي لم تشارك في الحكومة الجديدة بالعالم الثالث, والتي لا تجد هدفًا توجه إليه طاقتها بعد الفراغ من عملية المقاومة والتحرير إلا المطالبة بالانفصال عن الدولة الناشئة, أو السعي لقلب نظام الحكم بالقوة.

          وفيما يلي بعض ما يمكن رصده من فروقات بين الإرهاب والمقاومة: 

          (1) المقاومة مجالها تحرير الأرض.. الإرهاب مجاله السياسة:

          قال (فانون): (القيمة الأساسية هي الأرض). فالمقاومة تركز على استعادة الأرض من المحتل. ويتضح ذلك بجلاء في تكتيكات المقاومة وتخطيطها لمعاركها وقياسها لمكاسبها. أما في حالة الإرهاب, فإن الأرض ليست هي الأساس, بل السياسة. فبينما ترتبط تنظيمات المقاومة بالأرض والجغرافيا المكانية, يصعب تحديد نطاق أرضي أو جغرافي للتنظيمات الإرهابية. فالتنظيمات الإرهابية لا تسعى لكسب الأرض, بل تسعى لإلحاق ضرر سياسي بالعدو تبعًا لتحديدها هي لذلك العدو, أو ابتزاز الأموال منه. وقد يكون ذلك بشكل رمزي, وليس بشكل فعلي. فإذا ما وجدت أحد تنظيمات العنف يركز على ابتزاز الأموال, أو اكتساب مكانة رمزية من الصراع, بما يعجزك عن تمييز نجاحه من فشله, فاعلم أنه يميل إلى الإرهاب. أما التنظيمات التي تميل إلى المقاومة, فتركّز على تحرير الأرض, بحيث يمكن قياس إنجازاتها وإخفاقاتها بالكيلومتر المربع من أرض الوطن, وبشكل لا لبس فيه.

          (2) المقاومة تركز على الإستراتيجية...بينما يركز الإرهاب على التكتيك:

          تؤدي تكتيكات المقاومة العنيفة إلى تحقيق إستراتيجية عليا هي تقليص مساحات الأرض التي يسيطر عليها المحتل. أما تكتيكات الإرهاب, فتؤدي إلى نتائج غير متوقعة, وهكذا يتميز الإرهاب دائمًا بالغرق في التفصيلات التكتيكية لدرجة تخرج به عن الإستراتيجية المعلنة له. بل تغيب الإستراتيجية بشكل واضح عن التنظيمات الإرهابية, وهذا هو السر في انغماسها في تفصيلات تكتيكية تؤدي إلى نتائج غير متوقعة وغير مدروسة. فقد يسعى أحد التنظيمات إلى كسب تأييد الجماهير ضد الحكومة, ولكنه عند قيامه بإحدى عملياته يتسبب في مقتل أطفال ونساء بما ينفر الجماهير منه, ويدفعهم للتحالف مع الحكومة ضده. وأحد أسباب فشل إستراتيجيات التنظيمات الإرهابية يتلخص في إسناد العمليات التكتيكية إلى أفراد غير ملتزمين بالإستراتيجية الشاملة المعلنة للتنظيم, وبذلك تزيد احتمالات الانحراف عن الإستراتيجية - إن كانت هناك إستراتيجية - لصالح التركيز على التكتيك. وهذا يعطي الجماهير مؤشرًا على غياب الرؤية, بل العمى وربما التعامي. وليس أدل على ذلك من إحدى العمليات التي استهدفت احتفالاً دينيًا حاشدًا بسيارة ملغومة بمئات الكيلوجرامات من المواد المتفجرة, وكان مَن اندفع بها وسط الحشود متخلفًا عقليًا من النوع المنغولي - لا يعرف ما يراد به, ولا ما يراد منه!

          (3) المقاومة حل وحيد...لكن الإرهاب بديل متطرف من بدائل متعددة:

          غالبًا ما تكون المقاومة هي الحل الوحيد, والذي من دونه تضيع الأرض والحق, ولا يتبقى شيء للمقاوم. فالمقاوم يكافح ليكسب أي شيء, لأن بقاءه على حاله يعني خسران كل شيء.

          أما الإرهاب, فعلى العكس مما نظن, لا يتولد نتيجة توقع خسارة كل شيء, ولا نتيجة السخط على الأوضاع. بل يعتقد علماء النفس أن قرار الانضمام لتنظيم إرهابي, أو القيام بعمل إرهابي ينبع من ميل شخصي لممارسة العنف, ورغبة عارمة في استبدال الوضع الراهن.

          هناك أشكال كثيرة للتعبير عن السخط على الأوضاع القائمة, وهي كما يلي:

          1- انسحاب من المجتمع, مثل الهجرة إلى بلد آخر.

          2- النسيان, فالشره الاستهلاكي وإدمان المكيفات والمخدرات تعتبر بدائل للاحتجاج.

          3- قمع الذات ومعارضة الأوضاع بالقلب فقط.

          4- الاغتراب.

          5- الانتحار.

          6- التكيف مع الأوضاع.

          7- المعارضة الفكرية.

          8- المعارضة السياسية.

          9- المعارضة المسلحة.

          فاللجوء للمعارضة المسلحة للوضع القائم يأتي في نهاية قائمة طويلة من أشكال السخط. ولذلك يسمى تطرفًا.

          ولقد وجدت دراسة ذكرها (بيتر سيدربرج) في كتابه (أساطير إرهابية) أنه كلما انتمى الأشخاص إلى مستويات اجتماعية واقتصادية راقية, زادت ميولهم نحو تبني أشكال أكثر نشاطًا من أشكال السخط, فالأشخاص من المستويات الاجتماعية العالية يتمتعون بمستويات طاقة عالية, وقدرة على إظهار الغضب, وإحساس بالحصانة من بطش الأنظمة, ورغبة في هجر روتين الحياة المعتادة. وتلك كلها سمات أساسية للانضمام للتنظيمات الإرهابية. فالإرهابي يقوم بأعماله رغبة في إتيان عمل جديد, أما المقاوم, فإنه يقوم بالمقاومة لأنها البديل الوحيد أمامه. لكن ملاحظة (سيدربرج) يمكن أن تنطبق على القيادات في التنظيمات الإرهابية, أما أدوات التنفيذ, فغالبًا ما تكون من ذوي الأصول المتواضعة, والخلفيات المتدنية اجتماعيًا وثقافيًا.

          (4) المقاومة ترتبط بهدف تزول بتحقيقه...بينما الإرهاب هدف في حد ذاته:

          للإرهاب مشكلة أساسية, تكمن في طبيعته, فالتنظيمات الإرهابية تسعى دومًا لإيجاد مجالات وقضايا لتفريغ شحنات العنف المسلح الذي أصبح أسلوب حياة بالنسبة لها. فقد نشأت هذه التنظيمات في البداية لكفاح المحتل. وبعد أن رحل المحتل, وجّهت أسلحتها نحو الحكومات الناشئة, وبعد ذلك, دخلت في صراع مع أقطاب الرأسمالية العالمية, ولا يدري أحد مع مَن ستشتبك بعد ذلك. ولهذا لا تثق بها الحكومات, حتى لو كانت تؤيد بعض أعمالها. فقد أصبحت التنظيمات الإرهابية المعاصرة على درجة عالية من الكفاءة والاستقلال والاكتفاء الذاتي, وهذا يجعلها بمنزلة الألغام المتحركة التي تنفجر بمجرد الاصطدام بأي شيء في مجالها, حتى لو كان هذا الشيء ساكنًا لا يتحرك أو محايدًا لا ذنب له. ولعل تطور مسارات من يُطلق عليهم (الأفغان العرب) تكون تطبيقًا واضحًا لهذا المسار الانقلابي من المقاومة للغازي السوفييتي في أفغانستان إلى الإرهاب داخل أوطانهم العربية.

القوانين مبهمة والتحيّزات تتكاثر

          إن محاولات التفريق بين المقاومة والإرهاب شغلت الكثيرين من المنظرين السياسيين والقانونيين, ولايزال الأمر بين شد وجذب. ففي (قانون منع الإرهاب) البريطاني, يأتي تحديد الإرهاب بأنه: (استخدام العنف لأهداف سياسية, ويشمل أي استخدام للعنف بهدف ترويع الشعب أو أي قطاع منه), وينتقد سيدربرج هذا التحديد بقوله: (يظهر في هذا التعريف السمة التي تسبب التباس الأمور, أي الغموض والحشو الذي لا يزيد التعريف إلا إبهامًا).

          أما قانون الولايات المتحدة, ففيه أن العمل الإرهابي يعني (النشاط الذي:

          أ) ينطوي على فعل عنيف, أو أي فعل ينطوي على خطر على الحياة الإنسانية, مما يمثل انتهاكًا للقوانين الجنائية للولايات المتحدة, أو لأي دولة, أو ما يكون انتهاكًا جنائيًا إذا ما اقترف داخل نطاق السلطة القضائية للولايات المتحدة, أو نطاق سلطة أي دولة.

          ب) يتضح أنه عاقد النية على: 1- تخويف أو إكراه المجتمع المدني 2- التأثير على سياسة الحكومة بالتخويف والإكراه أو 3- التأثير على سلوك الحكومة بالاغتيال أو الاختطاف).

          وهذا التحديد القانوني الأمريكي اعترض عليه المفكر الأمريكي الحر ناعوم تشومسكي, بروفيسور اللغات في جامعة ماسا شوستس, وقام بتشريح هذا القانون في كتابه (إرهاب القراصنة وإرهاب الأباطرة), مبينًا ما فيه من انتقائية وإسقاط متعمّد, ومن ثم عدم صلاحيته ليكون محدّدًا للإرهاب, فضلاً عن الاحتكام إليه.

          ومن المفارقات التي تدعو إلى السخرية أن بنيامين نيتانياهو, رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق, وأحد الغلاة في صناعة الكراهية والعنف الأعمى تجاه الفلسطينيين, قد أدلى بدلوه هو الآخر معرفًا (الإرهابي) بأنه: (يمثل صنفًا جديدًا من البشر يرجع بالإنسانية إلى عصور ما قبل التاريخ, إلى وقت لم تكن الفضيلة فيه قد ولدت بعد. ولأن الإرهابي مجرد من أي مبدأ أخلاقي, تراه لا يتمتع بأي حسّ أو ضوابط أخلاقية, لذلك فهو قادر على الإتيان بأي جريمة, كما لو كان ماكينة قتل دون شعور بخزي أو ندم).

          إلى هنا, ويبدو أن الأوراق اختلطت, فكل ما ذكره نيتانياهو, قاصدًا بعض ردود الفعل الفلسطينية العنيفة على معاناتهم المريرة تحت الاحتلال, إنما يدمغ بالإرهاب ممارسات الجيش الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين, ابتداء من مصادرة وهدم البيوت, وتجريف الأرض, وتصيّد المدنيين بالصواريخ وهم في بيوتهم, وصولاً إلى تكسير العظام وقتل الأطفال بالرصاص وهم في أحضان آبائهم, وهي ممارسات مجردة من أي مبدأ أخلاقي, باستخدام الكلمات نفسها!

          إن المفاهيم تتضارب, والقوانين تنحاز, والعنف الأعمى يواصل ضرباته, وثمة من يريد لمفهوم الإرهاب أن يكون وقفًا على العرب والمسلمين لأسباب ليست خافية على أحد, لكن الإرهاب ظاهرة عامة باتت تشكّل وباء دوليًا يتطلب التجرّد في البحث والنزاهة في التفكير من الجميع, والعودة إلى الجذور التاريخية لفهم ما يجري في الحاضر. وبالرغم من أن ذلك كله ملتبس, ومرهون بزاوية النظر التي يطل منها الباحث, فإن المحاولة واجبة

 

سليمان إبراهيم العسكري   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات