فاروق خورشيد.. ذكريات حميمة

فاروق خورشيد.. ذكريات حميمة
        

          برحيل فاروق خورشيد غاب  واحد من المثقفين الموسوعيين العرب الذين كانت لهم بصمة واضحة على ثقافتنا المعاصرة. لقد كان أديبًا وفنانًا وحافظًا للتراث الشعبي ومثقفًا شاملاً.

          ذهبت إلى الجمعية الأدبية المصرية في مقرها القديم بالدور الأرضي من بيت عتيق في شارع ضيق من شوارع حيّ عابدين, هو شارع قولة, وسرعان ما عرفت أن الذي اهتدى إلى هذا المقر فاروق خورشيد الذي كان يسكن في البيت المقابل, وظللت أذهب إلى الجمعية التي لايزال لها تأثير عميق في تكويني الثقافي, وكنت مصحوبًا في المرة الأولى - على ما أذكر - بزميل فصلي الشاعر حسن توفيق الذي سبقني في التعرف على أغلب أعضاء الجمعية, فقد كان من أبناء القاهرة, ودفعته محبته للشعر إلى المعرفة المبكرة بصلاح عبدالصبور الذي قاده إلى معرفة بقية أعضاء الجمعية الأدبية المصرية. ولم أتوقف عن الذهاب إلى ندوات الجمعية منذ أن ذهبت إليها للمرة الأولى سنة 1964 على وجه التحديد. وكانت الجمعية في ذروة نشاطها الناجح الذي جمع إليه رجال الفكر والثقافة في مصر, خصوصًا أن الموسم الثقافي كان يشمل محاضرات لأعلام الثقافة, ومناقشات حول كتاب, فضلاً عن الأمسيات الشعرية التي كنا نسمع فيها من قصائد أعلام الشعر في ذلك الوقت.

          ولن أنسى الأمسية التي ناقشت فيها الجمعية كتاب فؤاد زكريا عن سبينوزا, وكان الكتاب قد فاز بإحدى جوائز الدولة التشجيعية, وبعده - أو قبله لا أذكر - مناقشة عاصفة لكتاب المرحوم محمد النويهي عن الشعر الجديد, أما الأمسية التي قرأ لنا فيها المرحوم صلاح عبدالصبور القسم الأول من مسرحيته الأولى (مأساة الحلاج) فكانت حدثًا نادر الحدوث والتأثير في الوعي: ولاأزال أذكر (الصالة) الطويلة الضيقة التي كنا نجلس فيها, والازدحام اللافت بأجيال أكثرها في مثل عمري, ويتصدر الحضور عبدالرحمن فهمي وعبدالمنعم شميس وعوني عبدالرءوف وأحمد كمال زكي ومحمود الحنفي ذهني وعبدالعزيز الدالي ومحمد النويهي, وعبدالقادر القط وعبدالغفار مكاوي. أما في مواجهة الجمهور, فقد جلس فاروق خورشيد الذي كان يدير اللقاء, ويقدم المتحدثين ويعقّب عليهم بصوته الإذاعي الجميل, وكان نجمًا ساطعًا من نجوم الإذاعة المصرية في ذلك الوقت, إلى جانب كونه كاتبًا مرموقًا من كتّاب الخمسينيات, شأن أقرانه من أعضاء الجمعية. وإلى جانب فاروق كان يجلس صلاح عبدالصبور أقرب أعضاء الجمعية إلى نفسه, وإلى جانب صلاح كان يجلس شاب خجول قدموه لنا باسم بهاء طاهر الذي كان يعمل في الإذاعة المصرية بدوره في هذا الزمان, لكن في البرنامج الثقافي, الذي كان يخرج له بعض المسرحيات. وقد أخذ على عاتقه إخراج مسرحية (مأساة الحلاج) للإذاعة.

          ولا أعرف ماذا قال فاروق خورشيد في تلك الأمسية البعيدة التي تحتل في ذاكرتي موقعًا من أحب المواقع إلى النفس, ولكنه شد سمعي وكل انتباهي إليه بكلماته المتدفقة الحماسية, فقد كان يمتلك قدرة غريبة على الحديث المسترسل الذي يمس شغاف القلب, والمتدفق بلا توقف, كما لو كان صاحبه يمتح في يسر من نبع لا ينضب. هل كان ذلك يرجع إلى عمله الإذاعي الذي كان بمنزلة تدريب مستمر على الإلقاء الجميل? أم كان يرجع إلى ثقافته الواسعة? أم يرجع إلى موهبة درامية على الأداء تسندها ثقافة عريضة شاملة, كأنها المجلى العصري للمعنى القديم للأدب من حيث هو الأخذ من كل شيء بطرف? أغلب الظن أن هذه العوامل مجتمعة, ومعها غيرها, كانت وراء الحضور المتميز لفاروق خورشيد في أحاديثه الكثيرة التي فتنت بها في أمسيات الجمعية الأدبية الكثيرة.

نفس جميلة

          ولم يكن فاروق خورشيد في كل أمسية يتركني دون أن يسألني عن أحوالي, ولا يتوقف عن تشجيعي, خصوصًا مع اقتراب أيام الامتحان الأخير لليسانس, ولاأزال أذكر فرحته عندما تخرجت, وكنت أول دفعتي, وأصبحت معيدًا في القسم الذي تخرج فيه قبلي مع أقرانه من زملاء الجمعية الأدبية المصرية, التي ضمّت بالدرجة الأولى, المبرزين فكريًا وإبداعيًا من خريجي قسم اللغة العربية بكلية الآداب - جامعة القاهرة. ولذلك كنت أشعر بافتخاري بهذا القسم وأنا أرى الأجيال السابقة على تخرجي, تملأ الحياة الثقافية المصرية إبداعًا وفكرًا وتأليفًا: صلاح عبدالصبور وعز الدين إسماعيل وعوني عبدالرءوف الذين تخرجوا سنة 1951, وفاروق خوشيد الذي تخرج سنة 1950, وقبله عبدالرحمن فهمي وأحمد كمال زكي ومحمود الحنفي ذهني الذين تخرجوا سنة 1948, وقبلهم حسين نصار الذي تخرج سنة 1947 قبل سنتين من تخرج عبدالعزيز الدالي ومحمود علي مكي سنة 1949.

          واستمرت ندوات الجمعية الأدبية المصرية طوال الستينيات في شارع قولة, وعبر ندواتها المتتابعة, تعرفت على الأعضاء المؤسسين, ومعهم فاروق خورشيد الذي كان الدينامو المحرك للجمعية الأدبية المصرية, والمحافظ على استمرار نشاطها, منذ بدايتها إلى نهايتها.

          ولولا فاروق خورشيد ما قامت هذه الجمعية التي تحمس لها أكثر من غيره, وظل يرعاها ويخصص لها من وقته ما أعانها على الاستمرار, والاتساع لتقبّل أجيال جديدة من المشمولين بالرعاية من أمثالي وحسن توفيق ونصار عبدالله ومحمد مستجاب وأمل دنقل وغيرهم من الأسماء التي لاتزال بعض حياتي الثقافية. وكان فاروق - بين بقية الأعضاء - هو الأكثر رعاية للأجيال الجديدة, وكنا نسعى إليه أكثر من غيره لشهامته وأبوته واستعداده الحماسي للمساعدة في أي مجال. وهو - قبل غيره - الذي شجعنا على إبداء الرأي, وأشركنا في الندوات, وأقام للشعراء منا أمسيات قدمهم فيها بصوته الساحر المتميز, فقد كنا نعدّه واحدًا من (كروانات) الإذاعة المصرية في سنوات المد الناصري والقومي.

          وقد انتقلت ندوات الجمعية الأدبية ولقاءاتها من المقر القديم في عابدين إلى المقر الأخير في شارع الجمهورية, خصوصًا بعد أن تهدم المنزل الذي يضم المقر القديم وتقررت إزالته.

          ونجح فاروق خورشيد في إقناع صديقه محمد الطوخي في أن يتقاسم والجمعية الشقة الواسعة التي أقام فيها الطوخي استوديو خاصًا للتسجيلات. وكنا دخلنا زمن السادات الذي فتح الأبواب للمشروعات التجارية, والانفتاح, وذلك بعد أن مررنا بمحنة الهزيمة التي تركت آثارًا غائرة في الوعي, والموت الفاجع لجمال عبدالناصر الذي كان رمزًا واعدًا لزمن قومي, ظلت شعاراته عن الحرية والوحدة والعدل الاجتماعي تصنع المبادئ غير المعلنة, التي يلتقي حولها أعضاء الجمعية الأدبية المصرية. وبالرغم من انكسارات الهزيمة ومرارة موت عبدالناصر, ظلت الجمعية الأدبية المستمرة قائمة, فقدت الكثير جدًا من تفاؤلها القومي أيام الخمسينيات ومطالع الستينيات, ودخلت مرحلة الدفاع عن الحلم القديم, والتمسك به في مواجهة متغيرات كنا نراها بشعة, خصوصًا في تهديدها لكل ما كنا نحلم به من قيم الحرية والعدالة والوحدة.

          وكان فاروق خورشيد أكثرزملائه إحساسًا بالانكسار الذي انعكس عليه وظيفيًا, فقد كان زميلاً للمجموعة التي ضمت جلال معوض وصلاح زكي, والتي انتمت إلى الأفكار القومية التي تجاوبوا معها في عملهم بالإذاعة المصرية التي كانت الصوت القومي المجلجل في سنوات الصعود القومي مع إنشاء إذاعة صوت العرب, وبدأ التضييق على فاروق مع نظرة العهد الساداتي المستريبة بمن رأت فيهم الرموز اللامعة للعهد الناصري, فبدأت المضايقات التي وصلت إلى ذروتها مع التصفية, وكان ذلك بعد ما سمّي بالقضاء على مراكز القوى عقب أحداث الخامس عشر من مايو الشهيرة وانفراد السادات بالحكم محتميًا بالديمقراطية التي أبرز أنيابها للمعارضين, وطالت بعض هذه الأنياب فاروق خورشيد فصدر قرار بنقله من الإذاعة إلى وزارة الشئون الاجتماعية التي استقال منها - بعد سنوات من المرارة - سنة 1983. لكنه - طوال السبيعينيات, وقبل نقله من الإذاعة - ظل يوقد من جمرة نشاط الجمعية الأدبية في مقرها الجديد بشارع الجمهورية. وأذكر من أمسياتها في هذه المرحلة مناقشة مسرحية عبدالرحمن الشرقاوي الجديدة في ذلك الوقت (وطني عكا) التي شاركتُ في مناقشتها مع صلاح عبدالصبور الذي لم يترك المناسبة للحديث عن دين الشرقاوي على شعره ومسرحه بوجه عام, وكذلك ندوة لمناقشة كتاب عبدالغفار مكاوي عن الشعر الحديث, وقد أسرفت في نقده, فظل متأثرًا من حدة نقدي لسنوات. وأضيف إلى ذلك أمسية شعرية, استمعنا فيها إلى قصيدة أمل دنقل (رسوم في بهو عربي) التي يصل فيها بين هزائم الماضي وهزائم الحاضر.

رحلة مع الإذاعة

          ولا أنسى حماسة فاروق خورشيد حين كان يشرف على إذاعة (مع الشعب) عندما أخبرنا - ذات مساء - عن ضرورة الاحتفاء بطه حسين, وكان ذلك قبل حوالي عام من وفاة طه حسين في شهر أكتوبر سنة 1973, واقترح علينا أن يشترك أعضاء الجمعية الأدبية المصرية ومحبّوها في إقامة موسم كامل من النشاط عن طه حسين, ويتم تسجيل كل الندوات بواسطة إذاعة (مع الشعب) على أن تذاع كل التسجيلات في موسم إذاعي كامل, يذهب عائده المالي إلى طه حسين تحية وتقديرًا له من تلامذته وتلامذة تلامذته الذين مضوا في دربه الفكري, واشترك في هذا الموسم محمد النويهي وصلاح عبدالصبور وحسين نصار وعبدالغفار مكاوي وشكري عياد وعوني عبدالرءوف وعبدالرحمن فهمي وأحمد كمال زكي ومحمود الحنفي ذهني وعز الدين إسماعيل وغيرهم من الأسماء. وكعادة فاروق اقترح اشتراك الأجيال الجديدة, دافعًا بي إلى الإسهام, فكتبت بحثًا عن موقف طه حسين من الشعر الجديد.

          وكان هذا البحث نواة كتابي (المرايا المتجاورة) الذي ظهر بعد ذلك بسنوات سنة 1980. وقد كان لمحاضرات هذا الموسم وندواته أثر كبير على الشباب من المنتسبين إلى الجمعية الأدبية, فقد تعلمنا - عبر أشهر - من معالجة موضوع واحد العديد من المناهج والتيارات التي تحاورت في حرية كاملة واحترام لا ينكر.

          وكان مشهدًا مؤثرًا - نقله إلينا فاروق خورشيد - حين ذهب لمقابلة طه حسين بوصفه مدير إذاعة مع الشعب ليسلمه المبلغ الكبير الذي دفعته إذاعة (الشعب) للساعات الطويلة التي ملأناها بأبحاثنا ومناقشاتنا. وبالرغم من أن الكثير من أعضاء الجمعية المؤسسين كانوا من تلامذة أمين الخولي, والمتأثرين به, لكنهم لم يفعلوا مع أمين الخولي ما فعلوه مع طه حسين الذي كان رمزًا وقيمة, خصوصًا بمواقفه الجسورة وتعدد إنجازاته الإيجابية وكثرة كتاباته وتعددها, فضلاً عن دفاعه اللاهب عن قضيتي الحرية والعدل اللتين ظلتا بمنزلة الرابط الفكري بين أعضاء الجمعية. وبالقطع, لم يكن واحد من أعضاء الجمعية الأدبية المصرية يميل إلى الشيوعية, فظلوا جميعًا بعيدًا عن تنظيماتها السرية, وعن تجمعاتها العلنية, وفي الوقت نفسه, كانوا بعيدين عن الليبرالية الرأسمالية في تطرفها, خصوصًا بعد أن تأثروا بدعوات طه حسين إلى العدل, ودفاعه عن (المعذبين في الأرض) فكانوا استمرارًا للذين أحرقهم الشوق إلى العدل, ولذلك اتخذوا موقفًا وسطًا ما بين أقصى اليمين وأقصى اليسار. أخذوا من الليبرالية الإيمان بالحرية وأخذوا من الاشتراكية دعوة العدل, وامتزجت في وعيهم مبادئ الحرية والعدل الاجتماعي مع نزعة قومية لم تخل من وعي بدور مصر المتميز داخل الدعوة القومية, سواء بحكم عبقرية المكان أو ميراث التاريخ. ولذلك اكتسبت كتابات صبحي وحيدة في أصول المسألة المصرية, وكتابات جمال حمدان عن عبقرية المكان في جغرافية مصر, مكانة تضيف إلى المكانة المتأصلة لفكر طه حسين, وامتزجت التركيبة الفكرية التي انطوت على مبادئ الحرية والعدل والنزعة القومية بالانفتاح على الثقافة العالمية, وبخاصة الوجودية التي توسطت ما بين النقائض, سواء في فهمها للحرية أو في تحديدها لمعاني العدل الاجتماعي, وذلك مع تأكيد ضرورة الموقف الإبداعي والفكري الذي يجاوز بالحياة شروط الضرورة, وينفتح بها على آفاق الحرية اللانهائية. وكان الإبداع عند أعضاء الجمعية الأدبية المصرية بلا استثناء تجسيدًا لذلك كله. أعني بحثًا دائمًا عن كل ما يضيء نجمتي الحرية والعدل ويشعلهما في النفوس والقلوب, وتحديًا لكل نقائض الحرية والعدل ومواجهة لها بالكلمة الجسورة التي لا تكف عن توسيع دوائر المتلقين لها. وفي الوقت نفسه, إيمانًا بالقومية العربية في معانيها المنفتحة التي لا ينغلق فيها الوعي على نفسه, بل ينفتح على غيره, مستفيدًا من كل ما يدعم حضوره في التاريخ وبالتاريخ, ويبرز أصالته الفريدة المتجددة.

          وكان من الطبيعي - والأمر كذلك - أن يبحث أعضاء الجمعية الأدبية عمّا يمايزهم, ويستجيب إلى وسطيتهم, منذ النصف الثاني من الأربعينيات, حين كانوا طلابًا في قسم اللغة العربية في آداب القاهرة, ويجذبون إليهم بعض طلاب الأقسام الأخرى في الكلية, من مثل قسم الفلسفة الذي تخرج فيه عبدالغفار مكاوي, فظلوا بعيدين عن تجمعات الإخوان المسلمين التي اقترنت في أنظار الكثيرين منهم بالجمود والتطرف, ونافرين من التجمعات الشيوعية بسريّتها وكهنوتيتها في الوقت نفسه. وقد تعارفوا - وهم طلاب - في النشاط الأدبي الذي كانت تقيمه جمعية اللغة العربية, التي كان يشرف عليها بعض أساتذة اللغة العربية بمساعدة طالب من السنة الرابعة, يترك مكانه لغيره بعد التخرج, وعندما تخرج فاروق خورشيد (المولود في مارس 1928) سنة 1950, جذبه مع أقرانه المرحوم محمد كامل حسين الذي فتح لطلابه بيته كي يلتقوا وإياه في حوار ونقاش متصل. وكان محمد كامل حسين علما من أعلام دراسة الأدب المصري, وأهم دارسي العصر الفاطمي والفكر الإسماعيلي إلى اليوم, وانتقلت المجموعة من رعاية محمد كامل حسين الذي أدركته الوفاة إلى رعاية محمد فريد أبو حديد الذي كان يشرف على نقابة المعلمين.

مطبوعات الجمعية

          ولكن يبدو أن اندفاعة الشباب الإبداعية لم ترح محمد فريد أبو حديد, ولا لجنة التأليف والترجمة والنشر التي كانت ترعى المجلة تحت رئاسة أحمد أمين, فتوقفت الأعداد التي أشرفوا عليها, وكان عليهم الانتقال من مقر (نادي المعلمين) إلى شقة أرضية خالية, في مواجهة منزل فاروق خورشيد في عابدين, فانتقلت الجمعية إلى شارع قولة, وشيئًا فشيئًا. أخذت تفرض إبداعاتها على الحياة الثقافية, خصوصًا بعد أن نجحت قصائد صلاح عبدالصبور, وقصص عبدالرحمن فهمي, وفاروق خورشيد, جنبًا إلى جنب كتابات أحمد كمال زكي وعزالدين إسماعيل, كما فرضت ندوات الجمعية نفسها على الكثيرين. فانجذب إلى الطلاب أساتذتهم والمتعاطفون معهم من الذين تخرجوا قبلهم من أمثال عبدالقادر القط وشكري عياد ومحمد النويهي وحسين نصار وغيرهم كثر, كما جذبت الجمعية الذين تخرجوا من بعدهم, مثل عبدالمحسن طه بدر, وذلك في السياق الذي شمل أمثالي من الذين تخرجوا في منتصف الستينيات, وقد قامت الجمعية الأدبية - نتيجة حماسة فاروق خورشيد وحركيته - بإصدار سلسلة من المطبوعات الخاصة بها, فنشرت عددًا من قصص كتابها والمتعاطفين معها تحت عنوان (قصص من مصر) في الخمسينيات. كما نشر فاروق خورشيد نفسه كتابه الذي أثار ضجيجًا كبيرًا فور إصداره, أعني كتابه (في الرواية العربية: عصر التجميع). وهو الكتاب الذي دفع محمد مندور للرد على فرضيته الأساسية في جريدة (الجمهورية) في الثاني من شهر أبريل سنة 1960تحت عنوان (فن القصة), وكان رد مندور نموذجًا للردود المضادة التي دفعت فاروق خورشد إلى أن يكتب مقالا بعنوان (دفاع عن الرواية العربية) في (الجمهورية) نفسها في السادس من مايو سنة 1960. ولاأزال أحتفظ في مكتبتي الخاصة بنسخة من الطبعة الأولى من كتاب فاروق خورشيد. منزوعة الغلاف, تحمل على غلافها الداخلي الباقي جملة (مطبوعات الجمعية الأدبية المصرية), وفي أسفلها عنوان الطابع والناشر (الدار المصرية للطباعة والنشر, 59 ش صفية زغلول الإسكندرية).

          وقد سبق أن أشرت إلى طبيعة الأداء الدرامي الذي كان يكتسبه خطاب فاروق خورشيد, سواء في عرض أفكاره أو تقديم غيره ممن يتحمس لهم. وهو أداء ظل يكشف عن كاتب مسرحي انطوت عليه شخصيته, كاتب مسرحي ظل يبحث عن أشكال يتجسد بها, إلى أن نجح في دفع فاروق خورشيد إلى حيث شاء, فكتب للمسرح (أيوب) و(المسألة) و(حبظلم بظاظا), و(ثالثا وأخيرًا), و(حديقة المر), وغيرها من المسرحيات التي لم تخل من إظهار اهتمامه بالتراث الشعبي, وذلك على نحو ما ظهر في (أيوب) و(حبظلم بظاظا) التي أراد بها أن يصوغ قناعًا يخفي من ورائه نقده للأوضاع السياسية المعاصرة. وقد شاهدت بدعوة منه - مع أعضاء الجمعية الأدبية - مسرحية (حبظلم بظاظا), وألهانا عن بطء إيقاعها تأمل الدلالات السياسية المراوغة, والنظرات المتبادلة بين بطلة العرض وفاروق خورشيد الذي لم يكن يكف عن تشجيع الموهوبين في كل مجال, ابتداء من ميكروفون الإذاعة, وانتهاء بخشبة المسرح. ولذلك تعدد تلامذة فاروق خورشيد في هذه المجالات, وأنتجوا من الأعمال ما يشير إلى البصمة الخاصة التي تركها في تشكيلهم الفني.

اللقاء الأسبوعي

          وكنت أرى هؤلاء في مكتب فاروق في منطقة باب اللوق, حيث تعودنا على اللقاء الأسبوعي, خصوصًا بعد أن أصبح مسموحًا لي بالسهر مع الكبار إلى الصباح, فنعمت بليال من المتعة الفنية والمعرفية, لم أحظ بها في حياتي. ففي غرف هذا المكتب الذي كان يقع بالدور الأرضي من إحدى العمارات العالية, استمعت إلى كثير من قصائد صلاح عبدالصبور بصوته, وشاهدته حين كان يثقله الحزن, فيحني جذعه قرب شمعة تحترق مثله, ويندفع مسترجعًا قصائده الحزينة, وما أكثرها, في زمن قاس وضنين, استولى معه الشر في ملكوت الله, وقد أدركت في هذه الليالي عمق العلاقة التي جمعت بين فاروق وصلاح, والأول أكبر من الثاني بثلاث سنوات, لكن الثاني سبقه إلى عالم الشهرة حين أصدر ديوانه (الناس في بلادي) سنة 1957, فأصبح واحدًا من فرسان قصيدة الشعر الحر على امتداد العالم العربي كله.

          وأشهد أن فاروق خورشيد لم يكن يشعر بالغيرة من واحد من زملائه في الجمعية الأدبية المصرية, بل كان يفرح لإنجازاتهم, ويحتفي بها كأنها إنجازاته هو, ويقيم الدنيا ولا يقعدها إلا بعد مناقشة هذه الإنجازات وتقديمها, سواء في أمسيات الجمعية أو في الإذاعة التي وصل فيها إلى درجة كبير مذيعين. وكنت أشعر أحيانًا بتوتر يحاول كتمانه من تجاهل النقد الأدبي له, والتركيز على يوسف إدريس وحده من بين كتاب الخمسينيات. لكنه سرعان ما كان ينسى هذا التوتر, ويكتفي بالإعجاب الذي كنا نبخل به عليه مع أنه كان من حقه, وربما كان هو المسئول عن بخلنا ذلك, فقد عوّدنا على أن يحتفي بغيره, وأن يقدم أقرانه على نفسه, فظل يحمل على عاتقه عبء توسيع دوائر قرائهم وعبء الأعباء الإدارية والمالية لمقر الجمعية الأدبية المصرية. ولذلك عندما انتهى الأمر إلى الصدام مع الطوخي, وترك مقر شارع الجمهورية, لم يكن سواه قادرًا على استضافة الجمعية في مكتبه, ومواصلة ما انقطع إلى أن شغله اتحاد الكتاب بمشاكله التي لا تنقطع.

          ومن المؤكد أن فاروق خورشيد كان يمكن أن ينال شهرة أكثر اتساعًا, ويترك تأثيرًا أكثر عمقًا, لو قام بالتركيز على جانب واحد, القصة والرواية كما فعل صديقه عبدالرحمن فهمي الذي سبقه إلى الكتابة, أو الشعر الذي انفرد بإبداعه صلاح عبدالصبور, فأصبح فيه قمة لم يستطع أحد من أعضاء الجمعية الأدبية الوصول إليها. وكان عزالدين إسماعيل ذكيًا مثل أحمد كمال زكي, فأهملا الشعر, وانصرفا إلى الكتابة النقدية التي برزا فيها. أما عبدالغفار مكاوي, فظل شبيهًا بفاروق خورشيد موزعًا بين الشاعر الذي انطوى عليه مع كاتب القصة والمسرح, فأصبح أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء مثل أبي حيان التوحيدي, لكن الأضواء لم تتسلط إلا على دراساته النقدية, الأمر الذي لايزال يوجعه نفسيًا, خصوصًا حين يتمرّد المبدع في داخله على الدارس الذي قمعه, والنقاد الذين تجاهلوه.

 

جابر عصفور   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات