الوادي الجديد أحمد عنتر

توقيع مصري على زمن الحلم

.. في الطريق من (الخارجة) إلى (الداخلة) كانت القرى تحمل أسماء ذات معانٍ ودلالات لا تغيب عن الوجدان: بورسعيد، الثورة، ناصر، عُمان، فلسطين، الجزائر، عدن، سوريا، عبدالسلام عارف. وأسماء أخرى كثيرة .. لعلها كانت محاولة نبيلة لمنح الحلم صفته القومية ووجهه العربي.. وكان مغني الثورة وشاعرها يجسدان هذا الحلم في كلمات تَعْبُر على الصحراء فتكتسي ببساط من الخضرة الزاهية.. ويحلمان ب(الوادي الجديد)..

.. ففي عام 1958 أعلن جمال عبد الناصر عن البدء في إنشاء وادٍ جديد محاذٍ لوادي النيل، يخترق واحات الصحراء الغربية ويعتمد على استصلاح الصحراء واستزراعها بالمياه الجوفية، وفي تطور لاحق، بمدِّ قناةٍ من النيل إلى هذا الوادي. كان هذا هو التصور.. وبؤرة الحلم..

وفي أكتوبر 1959 فوجئ أهالي هذه المنطقة النائية، بآلات الحفر العملاقة وطلائع مواكب التعمير والاستصلاح ممثلة في سلاح المهندسين، يقول محدثي، وهو واحد ممن شاهدوا احتضان التربة لبذرة الحلم: إن الحياة كانت بدائية تمامًا، كنا نحفر البئر يدويًا، وكان حفر بئر واحدة يستغرق من عشر إلى عشرين سنة. وفجأة جاءت الآلات العملاقة التي لم نكن نعلم عنها شيئًا. وبدأت تحفر على بعد أعماق سحيقة. ويضيف محدثي وعيناه تلمعان، في البداية بدأوا في رصف طريق بيننا وبين أسيوط (على بعد 232 كم) كانت السيارة تقطع هذا الطريق في 15 ساعة..!! وكان هناك خط سكة حديد يربطنا بسوهاج اسمه (المواصلة) وكان القطار يقطع المسافة في 24 ساعة!! بدأ رصف الطرق بتكثيف شديد.. آه.. كان النشاط جارفًا وقد بلغ أوجه في الفترة من 1960 إلى 1967.. وتلعثم محدثي.. ثم توقف!!

الطريق إلى الحلم مجرد خطوات في التصور.. وإلى الحقيقة أميالٌ من الكدِّ والعرق.. في هذه الفترة 1960-1967 تبلور الحلم وعرفه العالم باسم (الوادي الجديد)..

جنوبًا.. إلى الماضي

يكتشف الباحثون والسائحون أصالة مصر وعراقتها حين يوغلون جنوبًا إلى الماضي، حيث يطالعهم وجهها المشرق في آثارها المهيبة. وكان لا بد من الرحيل جنوبًا حيث الحاضر، أيضا، ممثلاً في تلك التجربة التي تحدَّت الطبيعة في أشرس صورها ألا وهي الجفاف الفظ والوعورة الصارمة والشظف المدقع، في ملحمة إنسانية فذة.. وعلى الرغم من أن المسافة تقطعها الطائرة في أربعين دقيقة لا غير.. إلا أن الخيار كان السفر بالقطار إلى أسيوط (550 كم) ومنها بالسيارة بلى (الخارجة) عاصمة الوادي الجديد (232 كم).. ما كان أسهل أن نرتمي في مقعدٍ وثير ونشد الأحزمة ونمتنع عن التدخين.. ولكن خيارنا كان ناجمًا عن اقتناع مؤداه أن الطائرات، وإن اخترعت لراحة الإنسان، إلا أنها اختزلت مهمة العين. فانحسرت الدهشة الإنسانية عند وقوعها على المشهد البكر. ومن هذا المنطلق بدأنا رحلتنا التي تجاوزت 1200 كم.

من نافذة القطار كان الوادي الأخضر، على جانبي النيل، مروجًا "شاسعة من الخضرة .. "هاهنا الوادي ..".. هو هبة النيل لمصر- كما قال هيرودوت - وثمَّ وادٍ جديد نحن في الطريق إليه .. ماذا يكون؟ وكيف بدأ؟ وإلى أين ينتهي ..؟ أسئلة بملامح الصقور .. انقضَّت وطارت .. بلا إجابات .. وتوقف القطار في أسيوط .. انتهت المرحلة الأولى .. في المحطة لم يكن لمندوب المحافظة أي أثر .. لا مفر من اللحاق بأوتوبيس (الوادي الجديد) .. وبدأت المرحلة الثانية من الرحلة .. إلى مدينة (الخارجة) عاصمة (الوادي الجديد)

.. قطعت الحافلة طرقات أسيوط الداخلية، وانتهبت الطريق الخارجي إلى الواحات، وبدت بعض الرءوس بلا أعناق حيث أمالها سلطان النوم إلى الأكتاف، وتلصصت نظرات مستريبة إلى وجهي. وبدأ فضول السائق يتحسس منطقة رخوة في المسافات ما بيننا لتنبثق منها كلماته المترددة. وحين اقتنص خيطًا للحديث عرف منه مهمتي الصحفية. انهمر سيل من المعلومات تطوع به كريمًا ..، وانتصبت آذانٌ مجاورة، شيئا فشيئًا شارك البعض بخدماته المعرفية، وطال الطريق.. وتشَّعب الحديث .. أثنى بعض الحاضرين على جهود المحافظ الحالي واستدلَّ على ذلك بالطريق المرصوف الذي نقطعه .. كان الطريق شاهدًا على ذلك بالفعل، وكان العمل على جانبيه يجري على قدم وساق لتشجير أجزاء منه. وتحدث البعض عن مشروعات الوادي بحماس .. صرنا على مشارف المدينة.

كان نهار كامل قد اندثر..، بعد ساعات قاربتْ الأربع كانت الحافلة الكهلة، وقد هدَّها الإعياء، قد وصلت إلى مدينة "الخارجة".

الدخول إلى الخارجة

.. لافتة بعد أخرى على جانبي الطريق تمنحك مفتاح الدخول بلى المدينة، بل إلى الوادي الجديد كله .. جميعها تؤكد على توسيع مساحات الخضرة وحصار الصحراء .. ( إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها.. فليغرسها ). حديث شريف.. الهدوء ولفحات الهواء الطازج، والشوارع المتسعة النظيفة، والخضرة في نسق هندسي بديع، أول ما يرحب بك حالما تطأ قدماك هذه المدينة القابعة في صحراء مصر الغربية. السيارات معدودة والشوارع خالية، ولكنها تقطع الطريق بتعقل واتزان واضحين.. شيء لا نعرفه نحن أبناء مدن الضجيج والغبار..!!

.. صحبني أحد رجال المحافظة إلى مكان الضيافة والإقامة. وتعجب أني لم ألتق بالسائق بمحطة أسيوط. واعتذر. متمنيًا لي إقامة طيبة.

كنت أبحث عن مدخل لحوار المدينة، حين دق الباب ودخل السائق الذي قطعت عليه عبارات الاعتذار بعدة أسئلة.. وتوالت إجاباته، اقترح عليّ أن أبدأ برنامج الزيارة صباح اليوم التالي. ولم يمر وقت طويل حتى أخبرني أنه ذاهب إلى عرس بدوي في قرية قريبة.. وأمسكت بطرف الخيط المنشود..

في الطريق إلى قرية (جناح) على بعد حوالي 20 كم من الخارجة، حيث يُقام العرس، بدأ حوار بيني وبين رفيقي السائق (عصام) علمت منه أن برنامج الزيارة، يقتصر على جولة بالخارجة العاصمة. وحين أفهمته أننيٍ أريد زيارة الوادي الجديد كاملاً. أشفق عليَّ قائلاً: إن (الداخلة) ثانية الأقاليم الإدارية للوادي تبعد مائتي كيلومتر. وأن (الفرافرة) تبعد 430 كم وتتطلب الزيارة جهدًا وعناء كبيرين. سألته عن المعتقل. أجاب: يمكن زيارته في الصباح.. ولن تجد شيئًا ذا بال.. قلت: وليكن..

كان البرد المصاحب لغسق الليل الصحراوي يلفح وجهي، أغلقت زجاج النافذة عازلاً بيني وبين الفضاء الذي تسري فيه حياةٌ بكْر... ووصلنا القرية.. استبقاني رفيقي في السيارة حتى يستأذن أصحاب العرس في حضوري.. ما هي إلا لحظات حتى عاد في ثلة من أهل العروس مرحبين في كرم وحفاوة.

لا شيء جديد.. النسوة في حجرة العروس يقمن بالتهليل وأعمال الزينة والتجميل..، والفتيات بين حالمة وحاسدة.. والرجال تحلقوا في الخارج حول المأذون الذي انهمك في إعداد أوراقه لعقد القران.. والطلقات النارية تخرق السكون المهيب. أصواتٌ تحاول أن تثبت وجودها بكلمات أغنية بدوية منغمة تتحدث عن أصالة العروس وشرفها، وشهامة العريس ونجابته. كان من الصعب إقناعهم بتصوير العروس.. ولكنهم قبلوا احترامًا وكرمًا.. جلس العروسان على مقعديهما وبدأت إجراءات عقد القران.

أخبرني أحد شيوخ القرية أن الزوجين الآن يتفقان ويشتركان معًا في تأثيث بيت الزوجية. بعكس الماضي حين كان العريس يمهر الفتاة ويقوم ذووها بتجهيزها. وأن عادات الزواج في الخارجة لا تختلف الآن عما هي عليه في صعيد مصر أو القاهرة. ولكن في الفرافرة - حيث الحياة أقرب إلى البداوة تختلف التقاليد والأعراف. فما زالت هناك رواسب وقيم اجتماعية قديمة يحرصون عليها. كانت الوجوه تفيض بشرًا وقناعة وبساطة. أحسست أن هذا العرس يشكل نوعًا من (التكافل الاجتماعي) في القرية. ذلك أنًّ المرء يحس، أن الرجال كلهم (والد) العروسين، وأن النسوة جميعهن (أم) لهما.. شيء لا يحسه أو يشعر به أبناء المدن.

صفحة في كتاب الوادي .. الجديد

.. في حجرة دافئة من مبنى استراحة المحافظة تقضي ليلتك الأولى في الوادي الجديد، وما هي إلا ساعات قلائل من ليل موشى بنجوم فضية لامعة، لم نرها أو نُعرها نظرًا منذ الصبا، وما إن تذوب أو تتحلل في صفحة نهار جامح النور، حتى تبدأ مواجهة بين ما تعرف وما تجهل .. وهو كثير !! شحذ هذا الخاطر غريزة التحدي .. وبدأت أقلب في أوراق اصطحبتها.. وذاكرة مكدودة مازالت تعي نتفًا مما تعلمت..:

*.. " الوادي الجديد محافظة تقع في الجزء الجنوبي الغربي من جمهورية مصر العربية وتمتد في الصحراء الغربية. وتشغل 67% من مساحة هذه الصحراء. وحوالي 46% من المساحة الكلية لمصر. وتنقسم إداريًا إلى: مركز الخارجة، وهي العاصمة- ومركز الداخلة وعاصمته مدينة (موط) ومركز الفرافرة. ويتميز الوادي الجديد بانخفاض الكثافة السكانية (2,. فرد/ كم) وحسب آخر إحصاء عام 1990 بلغ عدد سكان الوادي الجديد 127.000 نسمة. أي ما يزيد قليلاً على 8/1 المليون..".

[.. نص جغرافي مفرغ من صخب الحياة وجمال عنفوانها..]

*.. " في 3 أكتوبر عام 1959 وصلت إلى الوادي طلائع مواكب التعمير والاستصلاح فصار ذلك اليوم عيدًا قوميًا للمحافظة تحيي ذكراه كل عام.. وفي سنة 1961 ومع تطبيق نظام الحكم المحلي أنشئت محافظة الوادي الجديد ضمن التقسيم الإداري الجديد للجمهورية...".

[.. نص آخر- تاريخي- مرادف للنص الأول ومكمل له..]

*.. ترجع أهمية الواحات الخارجة والداخلة في العصور الفرعونية بلى كونها خط الدفاع الأول عن مصر القديمة لتعرضها لهجوم النوبيين من الجنوب والليبيين من الغرب. وعندما غزا قمبيز (الفارسي) مصر عام 525 ق. م وأهان معبودها آمون اختفى جيشه المكون من خمسين ألف مقاتل في بحر الرمال الأعظم. وجاء خلفه دارا الأول فأرضى المصريين ليرضى عنه كهنة آمون فأصلح معبد (هيبيس) العظيم بمدينة الخارجة، وعندما غضب أباطرة الرومان على أقباط مصر في القرنين الثالث والرابع الميلاديين جاء إليها- إلى الواحات- كبار القساوسة وكثير من المسيحيين فارِّين بدينهم من الاضطهاد وعاشوا بها..، وماتوا.. وكانت (جبانة البجوات) أبرز دلالة على ذلك العهد. واستغل الرومان الواحات وطهروا العيون الفرعونية الجارية، وازدهرت التجارة على طريق (درب الأربعين) الموصل بين مصر والسودان وإفريقيا. وظهرت المعابد على طول هذا الدرب الذي كانت ترتاده القوافل حاملة خيرات مصر إلى السودان وإفريقيا. راجعة بمحاصيل تلك البلاد..

[.. نص ثالث أكثر حرارة، وأبهى رونقًا..]

... على أن هناك نصًا آخر، أكثر واقعية وأشد دفئا، يُصاغ الآن في حكمة وصبر وأناة، نصَّا يعكس جدل الحلم والواقع، ويحمل ثنائية القضاء والتحدي، بين الإرادة والعقبات الكئود، والساعد والتربة.. بين الموت الذي يفغر فاه بحجم الصحراء والحياة التي تقهره بإشراقة وردة وتأود غصن أخضر..

......

تثاقلت الأهداب، وتداخلت شرائح الصور، وانبعثت موسيقى من المذياع الصغير الذي لم أكن منصتًا إليه. وحين فتحت عيني، كان صوت فتى يطرق آذاني.. ( إذاعة الوادي الجديد من الخارجة.. أيها السيدات والسادة أسعدتم صباحًا..) ثم برنامج عن الشعر والكلمات، بدأت اليوم الثاني في الوادي الجديد سعيدًا باكتشاف هذه الإذاعة الشابة التي انطلقت صوتًا جامحا في برية بلا حدود..

الجنة.. في درب السندادية

صباح شتوي مشمس

الجمعة.. الثامنة صباحًا، تتثاءب الشمس فوق حي الأمل، أحد الأحياء السكنية الجديدة، وما أكثرها، في انتظار السيارة بدأت أنقل خطواتي في شوارع الحي الهادئ..، يلفت الانتباه وجود شرطي للمرور عند مفارق الطرق. حركة السيارات تكاد تكون منعدمة في هذا التوقيت الصباحي، وفي يوم عطلة .. إلا أن الشرطي يمارس عمله بالتزام وانضباط!! بدأت أفواج من الدراجات تظهر في الشوارع. إنها إحدى وسائل الانتقال المهمة. وبدأت العين تمارس حريتها.. على امتداد حوالي عشرة كيلومترات تستطيع أن تلمح مئذنة.. لا شيء يحجب الرؤية.. كل شيء صافٍ وواضح .. عيناك تمرحان في الأفق الطليق ولا تصطدم بالحوائط الرخامية والإسمنت.. حضر السائق واقترح أن نزور سوق المدينة .. فاليوم هو الجمعة .. وللمدينة، ككل المدن، سوقها الأسبوعي .. واتجهنا بلى ميدان الشعلة.. زحام السوق ينعقد في بساطة وود.. الفلاحون من القرى المجاورة يفترشون الأرض بما حملوا من خيرات حقولهم.. حركة البيع والشراء تتم في سماح وطيبة.. اكتسب الإنسان- في الوادي الجديد - الصفاء والوضوح من الطبيعة.. طبيعة الصحراء الواضحة الواسعة. وأغلب سكان الوادي من أهالي أسيوط وسوهاج، وقلة ممن جرفتهم ظروف التهجير من الإسماعيلية والسويس وبورسعيد بعد عام 1967. لم يبق من سكان الواحات (البدو) إلا القليل، وأكثرهم في الفرافرة.

قريبًا من السوق يقع حي قديم، عبارة عن مجموعة من الشوارع الممتدة تحت الأرض. حيث توجد بيوت داخل سراديب. إنه "درب السندادية". كانت هناك أبنية فوق سطح الأرض.. وأخرى تمتد تحتها.. حين وطأت أقدامي أحد هذه السراديب أحسست بهواءٍ منعش يداعب وجهي.. إنه الفيء والظلال والمأوى من هجير الصيف. فالحرارة هنا صيفًا لا تُطاق.. وهذه البيوت البسيطة جنة الله لهؤلاء البسطاء.. السراديب تمتد تحت الأرض.. والبيوت تتلاصق في تراحم وحنو.. والسوق فوق الأرض لا تزال.. كانت الشمس قد توسطت السماء.. أو كادت.. حين قلت لمرافقي.. "هيا لزيارة المعتقل.." وانصاع متعجبًا لذلك الإصرار الذي رصده لدىَّ منذ الأمس..

المحاريق: باستيل مصري .

.. لا شيء يثير مشاعر الإشفاق في النفس البشرية مثل بقايا الأشياء، أو أطلالها، عرف الشعراء ذلك فأطالوا الوقوف أمام بقاياهم في بقايا الأشياء!!.. منازل هُجرت، أو رسائل تخلفت عن علاقةٍ قديمةٍ مهترئة، أو صورٌ لوجوهٍ غاربة ..، حتى الموجع من أحداث ووقائع حين يأفل ويصيح (ماضيًا) يكتسي وجهًا أليفًا يطل به من وراء تخوم الذكريات.

هكذا حدثت نفسي وأنا أدفع الباب الخشبي المتهالك لمعتقل (المحاريق) الذي استجاب لدفعتي البسيطة برخاوةٍ مصدِراً صوتًا أقرب إلى الأنين .. يا الله .. كان هذا الباب يومًا حائطًا صلدًا يمتدُ من الأرض إلى السماء تحفُّ به العصبةُ أولو القوة. وخلفه تُقمعُ أحلام وتُجلد رؤىً وتُحصى خفقات قلوب وأنفاس لاهثين!!

في الخمسينيات والستينيات استقبل هذا المكان، الذي تنبعث منه روائح الماشية، وتصفرُ فيه الريح الآن..، استقبل مئات من المعتقلين السياسيين من مختلف المذاهب والاتجاهات. استقبل العامل والفلاح والأستاذ الجامعي والمحامي والطبيب والصحفي، وكان شاهد إثبات على مرحلة من تاريخنا. هذه المرحلة التي رواها لنا عددّ من شهودها الأحياء في كتاباتهم الإبداعية ومذكراتهم الشخصية، وسردها لنا بعضهم، تحَّلقنا حوله بإعجاب مشوب بالأسى.

الآن يتحول هذا الشبح المخيف إلى مجرد أطلال تتناثر منها روائح غامضة .. الأبواب الخشبية الملقاة على الأرض تحمل صفحتها بقايا لوحات حائلة اللون عن الحرية والأمل القادم!!.. الجدران المتساندة في كبرياء مشوب بذل الحنين مازالت تحتفظ ببعض الخربشات الفنية والشعارات التي تتحدى النسيان وتشي بأسماء ( بعض الدفعات ) التي مرت وجوهها على ذاكرة المنفى.. ثَّم آثار لمطبخ كبير وبعض الطناجر الضخمة التي كانت تستعمل في الطهو..، وبقايا مزرعة ومسرح روماني المدرجات قام ببنائه مبدعون لم يتخلوا عن الخلق الفني تحت وطأة ظروف قاسية.. بل تحدوا بالإبداع سوط الجلاد وسطوته..

قال لي مرافقي: "لقد طُمست معالم كثيرة في هذا المكان، حيث تحول في سنواته الأخيرة إلى مكان لتربية الماشية والعجول (!!) لقد كان هذا السجن ينبض بالحياة يومًا ما.. كان نزلاؤه يملأونه حياة.. يزرعون الصحراء، وكانت الأرض حوله خضراء.. اكتسبوا احترام الناس هنا.. حتى القائمون على المعتقل لم يخفوا إعجابهم بدأبهم وقدراتهم.. " يا للمفارقة!!.. الوادي الجديد الذي أبدعته الثورة، يُنفى ويعتقل فيه من رأتهم الثورة أعداءها..!! ينفثون الحياة في الجدب.. وهم موتى الأحياء..!!

" في مثل هذا اليوم.. الجمعة - أفقت على صوت مرافقي- منذ أكثر من ثلاثين عامًا.. ربما استقبلت إدارة السجن أفواجًا من الزائرين المكدودين لذويهم المعتقلين.. كانوا يفدون بلى هذه المنطقة بالقطار، الذي طُمستْ آثاره الآن ولم تبق منه سوى محطته الأخيرة. مجرد مبنى احتواه، داخل أسواره، مبنى النادي الاجتماعي للمحافظة. ولحسن الحظ- أضاف مرافقي- أن خط القطار سيعود من جديد لا ليحمل أفواج الزائرين والمنفيين بل ليسهم في إحياء مشروع كبير.. حيث تم اكتشاف الفوسفات في منطقة (أبو طرطور) بالخارجة. وقد تم تنفيذ 50% من الخط الحديدي بين ميناء سفاجة - على البحر الأحمر- والخارجة".

[.. في زيارتي لموقع العمل في مناجم فوسفات (أبو طرطور) أخبرني المهندس المسئول أن أبحاثًا جيولوجية تمت منذ أواخر السبعينيات لاكتشاف واستخراج الفوسفات. وبالفعل بدأ الحفر والعمل في المناجم. والاستعداد لإنشاء مصنع الروكار الخام. لاختزال الفوسفات وتنقيته. وقد تم حفر 16 بئرًا كخط ربط لسيولة المصدر المائي. وعمل بحيرة صناعية لاستصلاح 160- 2000 فدان لسد احتياجات العاملين بالمشروع من الخضر والفاكهة. وفي لقائي مع الدكتور فاروق التلاوي محافظ الوادي الجديد. أكد أن المشروع اجتماعي سياسي في المقام الأول إذ يُستهدف بإنشائه التغيير في البنية الأساسية للوادي الجديد. حيث يتم استيعاب العمالة والتصنيع. مع إقامة مجتمع كامل لمدينة سكانية مستقلة ذاتيًا..].

الفطيرة .. وأملاح اليود

... قال لي الأستاذ حسن - وهو سكرتير المحافظ وأحد أبناء الوادي الجديد- إن المجال الإسكاني شهد نشاطًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة حيث تم إنشاء أحياء جديدة مثل: الأمل، والصفا، والمروة.. وغيرها.. كما أن حفر الآبار قد زاد عن ذي قبل. وتمت كهربة العديد من القرى في مراكز الوادي الثلاثة. وأمتد إرسال التليفزيون ليصل إلى الوادي بوضوح منذ عام 1983. هذا فضلاً عن العمل الدائب في رصف شبكة الطرق داخل المحافظة.. وإليها..

كان الحديث يتشعب، في انتظار حلول موعدي مع المحافظ، ولم تبرح ذهني تساؤلات وهواجس حول هذا المشروع / الحلم.. إلى أين يمضي؟.. وما هي الضمانات الكفيلة باستمرار التجربة وتطويرها؟؟

.. حملتُ هواجسي في كلمات إلى الدكتور فاروق التلاوي، كان قد فرغ لتوه - كما أخبرني- من لقاء مع بعض رجال تنمية الثروة السمكية ....[.. تنمية الثروة السمكية ؟؟!!- أين؟ في منطقة صحراوية لا نيل فيها ولا بحيرات..؟؟!!].. ما كاد يلحظ دهشتي حتى أجاب عليها بدعوتي لحضور افتتاح هذه التجربة في قرية (موط) عاصمة (الداخلة) فغدًا سيتم افتتاح بحيرة صناعية كبيرة، من مياه الآبار، وقد تم فيها استزراع السمك وتنميته. وأضاف: كان السمك يأتينا محفوظًا مجمدًا من أسوان وبحيرة السد.. آن للناس هنا أن يأكلوا سمكًا طازجًا..

الاهتمام بالإنسان- قال د. فاروق التلاوي - هو شغلي الشاغل. ونحن هنا نواجه تحديًا صعبًا.. ندرة المياه ووفرة الجدب.. وفي هذه الظروف أحمل على عاتقي مع أبناء الوادي الجديد، بحب ورضى، مسئولية 46% من مساحة مصر.. وروى لي عن تجربة بسيطة، هي على بساطتها عميقة المغزى والدلالة..

" كانت التغذية في مدارس المحافظة تتم عن طريق المتعهدين. وكانت الوجبة عبارة عن خبز وأية نوعية من الإدام، وكثيرًا ما كانت حوادث التسمم تصيب التلاميذ. فضلاً عن إهدار القيمة الإنسانية في طريقة التوزيع. وقد لاحظنا نقص أملاح اليود في بيئتنا لوجودنا في مناطق جبلية حيث لا بحار حولنا. وتم التفكير في عمل وجبة لتلاميذ المدارس تحتوي على هذه المادة الناقصة (اليود). وعنصر اليود مهم جدًا للإنسان خاصة في سنوات التكوين الأولى لتنمية القدرات العقلية والجسمية. ونقصه يؤدي إلى تضخم الغدة الدرقية. أثناء مروري بالمستشفيات لاحظت ذلك. وبعد إجراء دراسات تم تصنيع ماكينة لحشو (فطيرة) بالعجوة (من البلح المنتج في المحافظة) مع أملاح اليود. ونجحت التجربة. كان المشروع على نفقة صندوق الخدمة بالمحافظة. ثم بعنا حق استغلاله لشركة الوادي الجديد ويستفيد منه 000, 40 تلميذ يوميًا. أصبحت القيمة الغذائية عالية حيث تخلط (الفطيرة) بالزبادي وأملاح اليود وتصل إلى الطفل مغلفة ونظيفة وبطريقة تحترم آدميته "..

.. وكان مدخلاً نبيلاً إلى هموم المحافظة.. التي آثر مسئولها الأول ألا أراها إلا بعيني ولم يشأ أن يصادر على تلك الرؤية بالحديث عن الإنجازات والأرقام مهما كانت دقتها.

الوادي الجديد.. قديم

هكذا تقول معالمه السياحية والآثار المتناثرة في بقاعه المترامية .. والسياحة عنصر مهم في اقتصاديات الوادي الجديد.. حيث تفد إليه أفواج متتالية من السائحين الذين عرفوا الطريق إليه لزيارة المعالم الأثرية والاستمتاع بمناخه الدافئ شتاءً. والاستشفاء بمياه الآبار. التي من أشهرها آبار بولاق (في الخارجة) حيث تصل درجة حرارتها 39 ْ وآبار موط (في الداخلة) وتصل درجة الحرارة فيها إلى 43 ْ ويصل عمقها إلى 1224 م.

ومن أهم المعالم الأثرية في واحة الخارجة معبدهيبيس، وهو المعبد المصري الوحيد الباقي من العصر الصاوي الفارسي (660 - 330 ق. م) وقد شيد في عصر الأسرة السادسة والعشرين واستكملت نقوشه في عهد الأسرة 27 أثناء حكم الملك الفارسي دارا الأول حوالي عام 500 ق. م وأضاف إليه الفرعون المصري نختانبو الثاني عام 350 ق. م الفناء الخارجي للمعبد. وفي العصر اليوناني أضاف بطليموس الثاني البوابة العظمى- شرق المعبد- ومن أهم المناظر في المعبد صالة الأعمدة الاثني عشر. والنقوش التي نقشت حوالي عام 69 ميلادية باليونانية القديمة وتحوي العديد من التشريعات الاقتصادية والقانونية.

خلف معبدهيبيس تقع (جبانة البجوات) ويسميها البعض (مدينة الموتى) بنيت بطراز القبوات المعمارية على شكل كنائس صغيرة تبلغ بقاياها 263 مقبرة وتتوسطها أطلال كنيسة السلام وهي من الطراز البازيليكي وتعتبر إحدى أقدم الكنائس في مصر.

بنيت هذه القبوات عندما فر المسيحيون في مصر منذ القرن الثالث والرابع الميلاديين بدينهم من اضطهاد الرومان وجاء على رأسهم كبار القساوسة: نطروس وإثناسيوس ليعيشوا في سلام بعقيدتهم. وأهم هذه المقابر مقبرة (الخروج) التي تحكي رسومها قصة خروج بني إسرائيل من مصر، ثم قصص بعض الأنبياء ومنهم ( آدم وحواء ) ويونس وأيوب وإبراهيم وابنه الذبيح، ونوح والطوفان. وهذه المقبرة من القرن الثالث الميلادي وقد ظهرت الأسماء على رسومها باللغة القبطية. وتليها في الأهمية مقبرة (السلام). وعلى بعض المقابر الأخرى نقوش ملونة وكتابات قبطية عديدة. وكتابات عربية سجلها على المقابر حُجَاج الدرب المغربي الذين اتخذوها مأوى لهم في أثناء رحلاتهم للحج وفيها سطروا الشعر والنثر والتاريخ.

وعلى بعد كيلو مترين من الخارجة يقع على مرتفع كبير ( قصر الناضورة ) وبه معبد روماني قديم للإمبراطور أنطونيوس بيوس يرجع تاريخه إلى أوائل القرن الثاني الميلادي وبه بقايا لكتابات هيروغليفية بارزة للإلهة أفروديت. وترجع تسميته ب ( قصر الناضورة ) إلى استخدامه كمركز مراقبة في عهود الترك والمماليك لكشف طريق درب الأربعين من أسيوط إلى كردفان ودارفور بالسودان حيث كانت تُجبى المكوس.. ويستطيع الرائي الجالس في هذه القلعة أن يكشف هذا الطريق إلى مسافات بعيدة لارتفاعه وتوسطه لمنطقة الواحات.

وفي الطريق إلى واحة (الداخلة) تخلب النظر تلك الكثبان الرملية الناعمة والتي يسمونها (الكثبان الهلالية) حيث يتخذ كل منها شكل الهلال.. وكثير ما يمرح فوقها السائحون.. ينزلقون من مرتفعاتها في عبث طفولي مرح.. على أن هذه الكثبان لها نزواتها أيضا.. فكثيرًا ما تتحرك باتجاه الرياح لتخفي معالم الطريق الإسفلتي وتسده.. وقد لفت مرافقي السائق انتباهي إلى وجود أكثر من طريق دائرى يلتف عليها ويراوغها في مثل هذه الحالات..

ولا تقل آثار (الداخلة) أهمية عن نظيرتها في عاصمة الوادي الجديد. وقد اكتشف عالم المصريات د. أحمد فخري مقابر (بلاط الفرعونية) التي يرجع تاريخها بلى عام 2420 ق. م. كما اكتشف في أوائل السبعينيات مقابر (المزوقة) وقد أطلق عليها تلك التسمية لكثرة ألوانها ووضوحها.

وتقع شمال الداخلة مدينة (القصر) الإسلامي. وهي أولى القرى التي استقبلت القبائل الإسلامية بالواحات عام 50 هجرية. وبها بقايا مسجد من القرن الأول الهجري. وقد ازدهرت هذه المدينة في العصر الأيوبي وكانت عاصمة الواحات وبها قصر الحاكم ومدرسة من طابقين: الأول للتدريس والعلوي لسُكنى الطلبة. وتوجد بها عدة مساجد من العصرين المملوكي والتركي كما هو واضح من أعتابها المنقوشة بآيات من القرآن الكريم، وتاريخ البناء المنقوش على تلك الأعتاب الخشبية التي مازالت موجودة أعلى الباب المؤدي لداخل البيت .

.. وتكتمل هارمونية القدم، ووحشة الماضي، بتلك الأصوات المنبعثة من داخل أطلال مدينة (القصر) حيث يرى الزائر بأذنيه- نعم بأذنيه- أصوات الخفافيش مع غسق المساء ترسم في الفضاء لوحة من النشاز الصوتي.. تكتمل بها أبهة التاريخ.. المهجور..

يوم الفِصالة

بعد الجولة التاريخية في آثار الداخلة بصحبة آدم حسون الخبير السياحي للوادي الجديد وعاشق التاريخ وتلميذ الراحل أحمد فخري، كانت زيارات تقليدية لمتحف الفن الشعبي ومصانع السجاد والأكلمة والخزف. حيث خصوصية البيئة ومحليتها التي تجتذب السائحين الذين يقبلون عليها بنهم وشراهة.. بعد ذلك كله بدأت رحلتنا إلى الفرافرة.. في منتصف الصحراء الغربية..

الفرافرة مجموعة قرى تمتد مساحتها إلى 3.5 مليون فدان. يصل تعداد أكبرها إلى 3000 نسمة. وتضم مركز شباب وبيت ثقافة ومكتبة. في كل قرية مدرسة ابتدائية. وفي القرية الأم وحدة محلية وأخرى صحية ووحدة اجتماعية ومدرسة إعدادية وأخرى ثانوية. قال لي الأستاذ عبدالعظيم- مدير الوحدة المحلية وهو من شمال مصر انتقل هو وزوجته السيدة رشيدة مديرة الوحدة الاجتماعية للعملٍ بالفرافرة منذ 4 سنوات- قال: إن البيئة هنا أقل تلوثاً وبالتالي فالأمراض قليلة. وأضاف: إن اقتصاد الفرافرة يقوم على زراعة الزيتون أولاً ثم المشمش ثم البلح ثالثًا. وقام باصطحابي إلى مجموعة من (الحطايا) ومفردها (الحطية) وهي مزرعة المشمش أو الزيتون أو البلح، أو كلها معًا إضافة إلى بعض الخضراوات التي تزرع حول عين ماء. يشترك فيها مجموعة من المزارعين غالبًا ما تربطهم صلة رحم أو إصهار. كانت هناك 27 حطية. لم يبق منها سوى 15 فقط. بسبب ندرة الماء!!. يُجمع محصول المشمش في شهر مايو (آيار) ويجفف فوق أسطح المنازل، وكذلك الزيتون، لا يستطيع الفلاح هنا أن يشكل المزرعة كما يريد. تحكمه طبوغرافية الأرض وانحدار مياه الري بعد استخراجها من الآبار. المساحات المنزرعة تتحكم فيها كمية المياه المتاحة. والحطية تتراوح مساحتها بين ثلاثة وخمسة أفدنة.

في الفرافرة تتجلى قسوة الطبيعة وتجهم البيئة. البداوة تسفر عن نفسها من خلال التعامل ومظهر الزي والملبس وبساطة البناء. في موسم جمع المحصول تتميز النساء بدورهن الكبير. وتقول السيدة رشيدة - مسئولة الوحدة الاجتماعية - إن الفرافرة تتميز بالامتداد الأسري حيث تقيم الأسرة كلها بأجيالها المختلفة في بيت عائلي كبير يتوارثونه. والزواج يتم في سن مبكرة - وهو بحكم مجتمع الفرافرة المحدود والمغلق يكون بين الأقارب - والبنت تتلقى تعليمها حتى الإعدادية. ولا بد من التعليم.. وأفراح الزواج تستمر أسبوعًا كاملاً. الغناء فيها بدوي خالص وبصحبة التصفيق (الكف) مع المزمار. قبل أن يقترن العريس بعروسه بثلاثة أيام هناك يوم اسمه (يوم الفصالة) وفيه يتحرك موكب نسائي من أقارب الزوج تتحلى فيه النساء ويرتدين ملابسهن الزاهية وهن يحملن (الكسوة) إلى أهل العروس وذويها من النساء. وبالتالي يستقبلهن أهل العروس بالذبائح والأغاريد.

هيروهيتو.. في الفرافرة

.. بعد رحيل (هيروهيتو) إمبراطور اليابان لا يوجد حاكم على وجه البسيطة أقدم من الشيخ صالح عبد الله الذي تسلم منصب (العمدية) عام 1940. ومازال يمارس مهام منصبه في حيوية ورشاقة رغم إشرافه على التسعين من سنوات عمره. المديد..!!

حدثني عن فقر الفرافرة قبل الثورة.. كان بها حوالي سبعة موظفين.. الآن يبلغ العدد أكثر من مائة.. كان موظف الحكومة يأتي كل شهر لتسليم المرتبات والمعاشات في عربة لا نراها إلا كل شهر. تنقل المسافر والموظف المنقول وتقطع الطريق في أربعة أيام.. تحدث عن تقسيم المياه بين أهل الفرافرة وتنقل بين أحاديث شتى برشاقة وذهن صافٍ طليق.. وطلبت إليه أن يصحبني لتقديم واجب العزاء لأسرة المتوفى من أهل البلدة.. كنت قد- بدأت رحلتي بلى الوادي الجديد بحضور زفاف!! في الفرافرة كانت خاتمة المطاف.. وكأنما الدائرة قد اكتملت.. بتلك الوفاة.. رحلة الحياة أشرفت على النهاية.. ماذا عن عادات هؤلاء القوم.. في حالة الموت.. ومواجهته؟

حين دلفت إلى حجرة بسيطة عارية من الأثاث افترش أرضها المعزون.. حانت التفاتة إلى باحة الدار، وراعني أن أرى النسوة في أزهى ملابسهن أسندن ظهورهن غلى الجدران، تعكس ألوانهن البهجة والحبور. وتضفي على جو المأتم ظلاً زاهيًا بألوان قوس قزح على عكس المألوف والمعروف في مثل هذه المناسبات القاتمة.

كانت آيات من القرآن تنبعث من شريط تسجيل يدور في (كاسيت) متهالك.. وكنت أختلس النظرات إلى وجوه النسوة وقد تغضنت.. إلا أن ألوانهن رفضت الموت.. وتشبثت بالحياة.. من الغريب أن يختفي (الأسود) من قائمة الألوان.. وهكذا يواجهون الموت.

... وبدأ العد التنازلي لرحلة العودة..

قطع حاد.. أخير!!

في طريق العودة، وكانت هذه المرة بالطائرة بعد أن التهمت عيناي المرائي المختلفة. وقنعت بما رأت، أخذتُ أجيل الطرف في سطور الصحف... حسب تقارير الصحافة العالمية.. ( سيشهد الشرق الأوسط صراعًا مريرًا على مصادر المياه.. وهناك تأكيد على أن هناك ( سيناريو ) معدًا لما يسمى ( حرب المياه ).. وكانت الصحافة المحلية تتحدث عن كارثة ألمت بمنطقة ( العامرية ) وفي معرض الدفاع عن الاتهام صرح وزير الري لمجلة المصور أنه تخفيفا عن كاهل الصرف يتم إهدار كمية هائلة من مياه النيل.. تصب في البحر المتوسط..!!

كانت هناك آمال وأحلام.. وخطة طموح لنقل هذه المياه.. مياه النيل من بحيرة ناصر في شرق العوينات - جنوب الوادي الجديد - عبر قناة صناعية تحفر بسواعد من حفروا قناة السويس.. ورئي أن القناة المحفورة، وبدائلها، ستتعرض مياهها للبخر والتسرب لطول المسافة!!

وطال الانتظار ولم تسطع شمس البديل!!

وبقي الوادي الجديد ينتظر شرايين الحياة.. وماء النيل..

تتشقق الأرض شوقًا وظمأ.. ويمتد نداؤها.. ويطول..

ولم أستطع أن أبعد عن وجداني صوتًا لشاعر قديم قال- ولعله يعكس وضع هذا الوادي المطروح في الصحراء:

ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له:

إيَّاك إياك أن تبتل بالماء!!

وكان (اليم) رمال الصحراء.. وليته كان الماء.. !!