تخطي الجسر

تخطي الجسر
        

          دفعت غطاء السرير الأحمر عني, كانت همومي ووحدتي تستلقي بجانبي, كما هي دائمًا متجددة حية محدقة في وجهي بعيون باردة. حاولت النهوض, تعلقت بقميصي, غرزت أظفارها في رئتي فأحسست بدمي ينزف, حتى خشيت أن يمتص القميص الدم النازف فيراه الناس. هرعت إلى النافذة, الأبواب حديدية متشابهة في زخارفها والشرفات صغيرة ومغبرة, النوافذ موصدة بالحديد فلا وجه على زجاجها ولا ألفة تتوارى خلفها.

          غادرت غرفتي, وجدت أمي تقبل القرآن قبلات سريعة ومتلاحقة وطفلتي جالسة عند قدميها تضع غطاء الصلاة لدميتها, في الوقت الذي كان أخي يقلب فيه الجريدة الرسمية منتبهًا لأبي وهو يسعل لحظة مغادرته البيت.

          أدرت المذياع, كان أحدهم يتحدث عن الهجرة, وفي محطة أخرى أغنية عن الوطن, ثم صوت مذيعة تقرأ خبرًا: حصيلة اليوم, سبعة شهداء, وخمسون جريحًا.

          بحثت عن ثوبي الوحيد فوجدته وقد نصبته جدتي فزّاعة للعصافير. ارتديته, تناولت حقيبتي وقطعت الدرج بقفزتين. صفقت الباب خلفي فاستغرقني مشهد أنين النواعير.

          على أطراف الأرصفة بقايا أكياس نايلون يطيرها الهواء وشعاع الشمس ينتشر بحَيرة على أرض الشارع. في الظل أصابع وأظفار أقدام رجال الحارة في صنادلهم المنزلية المتشابهة التي تعلوها ثنيات جلابيبهم البيضاء, على الكراسي الواطئة يتحدثون بهمس خافضي الرءوس, حتى إذا تناهى إليهم وقع حذاء نسائي حركوا رقابهم على إيقاع مشيتها إلى أن تتوارى.

          داهمني صوت المؤذن مختنقًا: صلاة العصر جماعة, لطمت أنفي رائحة الكبريت, شعرت بالعطش. واجهات الأبنية أعلى من الناعورة, وكلها مغطاة بستائر مرقعة ملونة, لابد أن النساء في المطبخ.

          لاحظت أقاربي من بعيد, حاولت التملص, لم أستطع, ابتسمت لهم بإعياء واعتذرت أني لا أزورهم وقد ألصقت حقيبتي إلى صدري.

          مثقلة تتسكع على الجسر الضيق القائم على القناطر. عمال المطاعم يحشدون الكراسي الفارغة حول الطاولات, آملين بقدوم الزبائن والبقشيش.

          - في الأمس دفنت والد طفلتي, طويت أوراق الزواج والصور التي جمعتنا, قدمت استقالتي من الوظيفة. أصبحت دون مال دون عمل دون ظل رجل أو ظل حائط.

          كنت شاردة أجمع هموم الماضي حين اصطدمت بسور الجسر وهويت إلى النهر ذي المياه النتنة. ضربت رأسي الحافة الصخرية المغمورة بالطحالب, حاولت الوقوف, تأرجحت إلى الجهتين وسقطت.

          - كانت أختي تخاف القطط كثيرًا, فحين وضعت هرة صغيرة في علبة كرتونية مع أوعية طعامها على ناصية الدرج العلوي, ماءت في غيابي, وجدتها حين عدت من المدرسة مشنوقة بين أيدي أولاد يتراكضون ضاحكين.

          أجهد كي أعلم طفلتي رسم القلب والزهرة وأرجوحة العيد, لكنها تعلمني رسم المدفع. قلت لها لنضع لونًا أصفر وأخضر, لكنها قطبت: ألا تعرفين أن لونه أسود?

          - كنت أحب أن ألعب فأختبئ في تلك الزاوية من خزانتي. أما اليوم فقد نسج العنكبوت شبكة معقدة لم أستطع اختراقها, ولم أستطع إقناع طفلتي باللعب فيها.

          حاولت رفع جذعي مستندة إلى حافة النهر متمنية أن أتشبث بدولاب الناعورة الكبيرة. فتشت عن درجات تقودني إلى الجسر مرة أخرى.. لكني سقطت أيضًا.

          أطل من وراء دغلة كهل في قارب خشبي قديم يحمل عصا طويلة, كان مرتديًا لونًا أخضر, مفتوح الصدر حتى البطن, ملوحًا بشمس عنيدة.

          - وقعت شجرتي الضخمة, تمددت كجثة هائلة ملأت أرض الشارع من الرصيف إلى الرصيف, أشفقت عليها. بكيت وتوسلتهم إمكان غرسها مرة أخرى فمسحوا على شعري وضحكوا متواطئين. اعتبر الجميع أن ذنب سائق الرافعة الذي قطعها مغفور, فقد كانت تغطي السيارات التي تصطف تحتها بالظل وبفضلات العصافير.

          اقترب الكهل مني بهدوء ثم تجاوزني, كان كضباب كثيف لفني أربكني وغادرني, ناديته: ألا تراني? استدار عائدًا, بصمت رصين انتشلني.

          - كان أبو طفلتي يرفع سبابته: أريدك امرأة مطيعة, ثم يرمي بثيابه كي أكويها. يرطب وجهه بعطر الحلاقة, ويمضي مستعجلاً إلى موعده.

          زفرت من ثوبي المبلل شددت أطرافه أغطي, ركبتي وأنا أراقب الكهل, متوقعة أن أجده متلبسًا يحدق في ساقي. لكنه كان يتأمل الأفق البعيد.

          استسلمت لحركة القارب فيما نفسي تغسل عكرها برضا. أصبحت مياه النهر عذبة والضفتان خضراوين.

          - من أنت?

          أعطاني ثمرة صبار:

          - حاولي الاختراق.

          - من شرفة البيت ومن خلال أوراق الكرمة المتكاثفة التقطت عيناي عدة نجوم مضيئة محتجبة خلف أقفاص الهوائيات, طفلتي نائمة وجبينها ساخن, لكن شفتيها جميلتان. وحارس المؤسسة التي كنت أعمل فيها يتأبط سلاحًا ويضع وردة بيضاء في عروة سترته, غافلته وسرقتها.

          انصرف الكهل إلى ربط حبل القارب بين الأعشاب العالية, كان الشفق يتكاثف خلف الجبال البعيدة بينما نسمات تعبق برائحة التراب الرطب وأنين النواعير.

          بقدمين ثابتتين عبّد طريقًا ملتويًا في نهايته كوخ بسقف قرميدي تحتضنه أشجار داكنة, تجاوز بقايا سور متآكل, دفع باب الكوخ وأشار إلي أن ألحق به.

          - كنت عائدة من عملي عندما رأيت طفلتي مع أولاد الحارة يمدون أصابعهم الصغيرة تحت باب مخزن أطعمة الأطفال كي يلتقطوا قطع البسكويت الملوثة بالسم والموضوعة فخًا للفأر.

          رأيت جدران الكوخ مزدحمة بسيوف وصور فرسان وقناديل نحاسية وأوسمة منقوشة, فيما غطيت الأرض بسجاد يدوي أحمر موشى ببعض البقع الضوئية العابرة لزجاج نافذةعلوية.

          - كانت النوافذ الضيقة لأقبية مدرستي تلتصق بالأرض وأنا أظلل عيني بيدي الصغيرتين وأفتش عن الزيت والفأر والآذان فلا أرى.

          طرزت ثوبي المبلل بزهور برية وفتحت الصرة وضعت الصبارة وشفتي طفلتي, الوردة البيضاء والنجوم. فرحة القدمين صعدت السيارة, لقنت السائق عنوان الحديقة النائية متجاهلة نظرته, أوشكت أن أخبره أن أحدًا لا ينتظره, لكني أمسكت حين أدركت أنه لن يصدقني.

          كنت أتلمس القماش المخملي براحة كفي وأنا أستمع لكلمات الكهل عن النواعير والنهر والشهادة والهدير الذي لن يتوقف.

          وضعت حقيبتي, كتابي وقهوتي على المقعد الأكثر انزواء, عببت نفسًا عميقًا ثم شرعت في قراءة ديوان شاعري الذي أفضله.

          فجأة شعرت بهيكل يحجب عني مشهد النواعير, بحدة مرتجفة سألته: ماذا تريد? أجابني بابتسامة رخوة جعلت معدتي تستلم للغثيان: أريد أن نتسلى.

          - عندما قرصني صاحب البقالة من فخذي كنت في السادسة من عمري, انتقمت لنفسي بأن سكبت الحليب الذي اشتريته أمام دكانه وبكيت لأنني لم أفهم, وعندما عدت إلى البيت بوعاء الحليب فارغًا أمسكتني أمي من شعري وهزتني بعنف, كبرت بسرعة وكبر فيّ ذنب هائل.

          رميت أشيائي وأخذت أركض, أغضبني صوت لهاثي, عدت إليه فوجدته واقفًا بابتسامته نفسها.

          يقول أبي: أريدكن رجالاً.

          جمعت أشيائي وبحقد شديد ضربت الهيكل بحقيبتي. دخلت البيت, اختطفت طفلتي من حجر أبي, أمسكت بيدها وركضنا, وصلنا النهر, أطعمتها الصبارة فنظرت إليّ بعينين كبيرتين, ثم نهضت بهدوء ومشت باتجاه الناعورة, كانت كلما ابتعدت تستطيل وتكبر حتى وقفت أمام الناعورة منتصبة, وبيد قوية زادت سرعة دورانها, بينما راحت تستجيب بغناء جديد.

          في هذه اللحظة كان عليّ أن أغادر, وبقدمين غريبتين كنت قد وصلت وسط خراب المدينة.

 

منهل السراج   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات