نحو غد أكثر شيخوخة

نحو غد أكثر شيخوخة
        

هل هو أمر يدعو إلى التفاؤل? أم إلى القلق? ما تشير إليه الدراسات السكانية من ارتفاع متوسط الأعمار واستطالة فترة الحياة.

          من الحقائق التي ينبغي تقبّلها بالرغم  مما قد تثيره لدى البعض من تشاؤم, أن العالم سوف يشهد في العقود التالية ارتفاعًا متواصلاً في أعداد كبار السن من شيوخ وعجائز, مما قد يؤدي إلى اختلال التوازن التقليدي في التوزيع السكاني الذي يعبّر عنه في الشكل الهرمي المعروف الذي يحتل الأطفال فيه القاعدة العريضة المتسعة, ويشغل المسنون القمة الضيقة, بينما تملأ شرائح العمر الأخرى بقية جسم الهرم المتضائلة حسب ارتفاع متوسطات أعمار تلك الشرائح. فثمة احتمال إذن - في رأي بعض العلماء - أن يأتي اليوم في الغد غير البعيد الذي يؤلف فيه المسنون من الجنسين نسبة عالية - إن لم تكن غالبة - من السكان على المستوى العالمي, وبذلك ينقلب هذا الهرم السكاني رأسًا على عقب. وسوف ينجم عن هذا (الانقلاب) تغيرات اجتماعية واقتصادية خطيرة يحاول الباحثون والعلماء رسم حدودها لتعرف ملامح الصورة التي يحتمل أن يكون عليها ذلك المستقبل, ونوع العلاقات التي سوف تقوم حينذاك بين الناس. وتشير معظم الدراسات السكانية إلى أن الاتجاه العام السائد والقوي في كل مناطق العالم, هو ارتفاع متوسط الأعمار واستطالة فترة الحياة, وأن ذلك سوف يضع المجتمع الإنساني ككل, والحكومات المختلفة أمام واقع جديد له متطلباته, ليس فقط فيما يتعلق بنوعية الحياة التي يجب توفيرها لهذه الزيادة المطردة في أعداد المسنين, أو نوع الخدمات الصحية, والرعاية الاجتماعية والنفسية التي ينبغي تقديمها لهم, والتي يجب أن تتلاءم مع ظروفهم وأوضاعهم الفيزيقية, وقدراتهم الذهنية أو حتى تلك التي تتصل باتباع أفضل الطرق والأساليب للتعامل معهم, واحتمالات الإفادة من وجودهم كأعضاء في المجتمع بالرغم من تقدمهم في السن, ولكن أيضًا المشكلات المعقدة المتعلقة بنظام التقاعد والمعاشات التي سوف تؤلف عبئًا ثقيلاً بالنسبة لتلك الحكومات نتيجة لاستمرار الزيادة في أعداد الأشخاص الذين يمتد بهم الأجل طويلاً بعد سن التقاعد (ما بين 60و70 سنة في معظم الدول), وطول الفترة التي تفصل بين هذه الإحالة إلى التقاعد, والوفاة, وهي فترة سوف تزداد اتساعا وامتدادًا بمرور الزمن, نتيجة لتقدم أساليب الرعاية الصحية بوجه خاص, والتمكن من التحكم في أمراض الشيخوخة, وهذا يصدق على كل المجتمعات بغير استثناء. ولكن المفارقة هنا هي أن ازدياد معدلات متوسط السن ستكون أكثر وضوحًا وتسارعًا في الدول النامية عنها في الدول المتقدمة نتيجة لتوفير الخدمات الاجتماعية والصحية في المجتمعات النامية الفقيرة, التي كانت محرومة منها لأزمان طويلة جدًا.

          ويمكن الاستشهاد للتدليل على ذلك بحالة فرنسا التي احتاجت إلى قرن كامل من الرعاية والعناية وتقديم مختلف الخدمات لمواطنيها كي ترتفع نسبة المسنين فيها من 7% إلى 14% من مجموع سكانها, بينما تشير بعض التوقعات إلى أن عددًا كبيرًا من دول العالم الثالث سوف تفلح في تحقيق مثل هذه الزيادة في خمس وعشرين سنة فقط مع وجود فارق جوهري بين الحالتين, وهو أن فرنسا الدولة المتقدمة كان أمامها فسحة من الوقت (قرن كامل) لكي تستوعب هذه الزيادة, وتعمل على تأهيل المسنين من أبنائها وتوجيههم وإعدادهم للحياة الجديدة والتفاعل مع المتغيرات التي كان عليهم أن يواجهوها ويتكيّفوا معها, وهو ما لا ينطبق على مجتمعات العالم الثالث, ليس فقط لقصر المدة (ربع قرن فقط), ولكن أيضًا لحالة التخلف الاقتصادي والاجتماعي والعلمي والتكنولوجي التي ترزح تحتها والتي تضع قيودًا قاسية على قدرتها على التحرك والتكيّف مع الأوضاع المستجدة.

الزيادة في كل العالم

          كذلك قد يمكن الاستدلال على الاتجاه العام السائد في معظم - إن لم يكن في كل - دول العالم نحو الزيادة المطردة في أعداد المسنين من الوضع الحالي في الصين, حيث يبلغ عدد كبار السن هناك حوالي 130 مليون نسمة, وهو ضعف مجموع سكان بريطانيا, وأن المتوقع أن يرتفع هذا العدد إلى 230 مليون نسمة في عام 2020, وأن هذا هو الشأن أيضًا في الولايات المتحدة الأمريكية, حيث كان عدد الذين وصلوا عام 2000 إلى سن الخامسة والستين وما فوقها حوالي 34.8 مليون نسمة, وهو ما يمثل  12.7% من مجموع السكان, وأن المتوقع أنه بحلول عام 2030 سوف يرتفع العدد إلى سبعين مليون نسمة, أي أكثر من الضعف خلال ثلاثين سنة فقط, وهذا معناه أن شخصًا واحدًا من كل خمسة أشخاص تقريبًا سيكون في هذه السن أو ما بعدها. وقد يكون من الطريف أن نذكر في هذا الصدد أنه في القرن التاسع عشر أرسلت الملكة فيكتوريا ملكة بريطانيا برقيات تهنئة إلى عشرين شخصًا في الإمبراطورية لبلوغهم سن المائة عام, ولكن منذ أعوام قليلة أرسلت حفيدتها الملكة إليزابيث الثانية أكثر من ثلاثة آلاف برقية مماثلة - أي ما يعادل مائة وخمسين ضعفًا - إلى أشخاص بلغوا تلك السن. وثمة بعض التقديرات غير المؤكدة عن أن عدد المعمّرين (المئويين) في الدول المتقدمة قد تجاوز مائة ألف شخص مع بداية هذا القرن. ولسنا نعرف شيئًا دقيقًا عن أعداد هؤلاء المعمرين المئويين في العالم الثالث. والظاهر من التوقعات المتوافرة حاليًا أن هذه الزيادة لن تتوقف عند سن معينة مادامت هناك إنجازات علمية وخدمات صحية واجتماعية تقدم بسخاء للمسنين, وتساعد في التغلب على أخطار الحياة, وأنه لن تكون هناك فوارق شاسعة بين المجتمعات والثقافات المختلفة نظرًا لامتداد وانتشار هذه الخدمات إلى كل أنحاء العالم في المستقبل غير البعيد.

          والواقع أن العقود الأخيرة من القرن العشرين, شهدت تعاونًا وثيقًا بين علم الشيخوخة السياسية الاجتماعية والتقدم الاقتصادي والإنجازات العلمية والتكنولوجية في مجال الصحة والمرض, مما كان له آثاره الإيجابية في تحسن أوضاع المسنين, وبخاصة في المرحلة العمرية التي يطلق عليها في بعض الكتابات مصطلح (العمر الثالث) وهي المرحلة التالية لمرحلتي الطفولة والرجولة الكاملة الناضجة. ويمثل العمر الثالث حال الشيخوخة الأولى أو الشيخوخة الشابة - إن صح التعبير - وهي الفترة التي ترتبط من الناحية الرسمية بالتقاعد عن العمل, وإن كان من الصعب تقدير طول هذا (العمر) بعدد معين من السنين. فالمسألة هنا نسبية إلى حد كبير, وترتبط بعوامل فيزيقية واجتماعية متشابكة, ولكن الأغلب أن تمتد هذه المرحلة حتى سن الثمانين حيث يبدأ (العمر الرابع), وهو مرحلة الشيخوخة المتقدمة, أو الشيخوخة الشائخة التي تنتهي بالوفاة, وهذه مرحلة معاناة وضعف وتدهور في القوى الذهنية, وتراجع من الحياة العامة, وتقلص في العلاقات الاجتماعية, بل وأحيانًا فقدان الهوية والاستقلال النفسي, بحيث يصفها بعض العلماء بأنها مرحلة (وفاة سيكولوجية). والمتوقع أن تتزايد أعداد هؤلاء المسنين الشائخين بشكل ملموس بمرور الزمن على ما رأينا من الأمثلة القليلة السابقة الخاصة بالمعمّرين المئويين.

نتائج لا مفر منها

          هذه التغيرات التي تخضع لها التركيبة السكانية في العالم كنتيجة مباشرة لتزايد أعداد كبار السن, وتراجع معدلات الخصوبة, وانتشار دعاوى التحكم في النسل وفقًا لما تقضي به سياسة الصحة الإنجابية, تفرض على المجتمع الإنساني التفكير في أساليب وطرق مواجهة (المستقبل الشائخ), حسب التعبير المستخدم في كثير من الدراسات المستقبلية التي تعالج هذه المشكلة. ويشهد عدد من المجتمعات الآن بالفعل - وبخاصة في الغرب - تراجعًا ملموسًا في حجمه السكاني, نظرًا لأن عدد المواليد الجدد لا يعوض (الفاقد) في السكان نتيجة للوفاة. وقد ارتفع عدد هذه الدول من 19 دولة عام 1970 إلى 51 دولة عام 1995 - أي بعد ربع قرن فقط - ثم ارتفع مرة أخرى إلى 75 دولة عام 2000 أي بعد خمس سنوات فحسب, وهي زيادة لها دلالتها فيما يتعلق بشيخوخة الجنس البشري في المستقبل, والمسئول عن هذا طبعًا هو التحوّل في التوجه الذهني نحو الإنجاب نتيجة للحملات الإعلامية بدعوى التحديث, وتغيير القيم والتوعية في مجالات الصحة الإنجابية, إلى جانب عدد من الأوضاع والمشكلات الاجتماعية والاقتصادية والإقبال على تعليم الإناث وخروج المرأة للعمل, وأخطار الحروب وغير ذلك من العوامل التي لا داعي للدخول في تفاصيلها هنا, ولكن آثارها سوف تنعكس بوضوح في إعادة تشكيل البناء السكاني في مجتمع المستقبل. وبعض الدول في الغرب مثل إيطاليا واليونان والبرتغال وإسبانيا تتعرض الآن بالفعل لهذه التغييرات السكانية الخطيرة, وترتكب بذلك ما يطلق عليه بيتر دروكر تعبير (الانتحار الوطني), إذ يبلغ معدل المواليد طفلاً واحدًا فقط للمرأة خلال فترة الخصوبة والإنجاب. وهذا الاتجاه لا يؤدي فقط إلى شيخوخة المجتمع, ولكنه يهدد الشعوب ذاتها باحتمال انقراضها تدريجيًا, ولا يستبعد بعض الكتاب أن يأتي اليوم الذي نجد أنفسنا نعيش في عالم دون إيطاليين على سبيل المثال.

          ويبدو أن ظاهرة طوال العمر وتحوّل المجتمع الإنساني إلى مجتمع (شائخ) هي أحد منتجات الحضارة الحديثة. فالعالم المعاصر يتعرض منذ القرن العشرين لثورتين مهمتين هما الثورة التكنولوجية والثورة الديموجرافية أو السكانية, وهما تمثلان نوعين من التحديات التي ينبغي مواجهتها والتفاعل معها وذلك من منطلق الاعتراف والتسليم بأن التكنولوجيا هي المستقبل, وأن المستقبل هو الشيخوخة, مما يفرض على المجتمع الإنساني ضرورة التوصل إلى صيغة للتوفيق بين هذين النوعين من التحديات, وإمكان تسخير التقدم التكنولوجي لخدمة الشيخوخة المتزايدة, وتطويع وإعداد وتأهيل شيوخ وعجائز المستقبل للتعايش مع التكنولوجيات الجديدة والمستجدة والإفادة منها في تسيير عجلة الحياة بما يضمن استمرار المجتمع الإنساني في الوجود, بالرغم من التناقص المطرد في التوالد والإنجاب, والتراجع في حجم الشباب القادرين على العمل والإنتاج. وصحيح أن بعض الكتّاب والباحثين ينظرون إلى الشيخوخة على أنها (مجرد امتداد بائس وتعس لمرحلة النضج والرجولة المكتملة) التي تتميز بالقدرة على العطاء, وأن التقدم في السن يمثل مرحلة من التراجع والتدهور والاضمحلال والهبوط عن المستويات والمعايير التي يحققها الإنسان في أواسط العمر, ولكن هذه النظرة لا تأخذ في الاعتبار سوى الجوانب السلبية للشيخوخة, وتغفل الإمكانات المكتسبة من طول التجربة, وتنوّع الخبرات لدى كبار السن, وبخاصة من أبناء (العمر الثالث) وأوائل (العمر الرابع), وهي إمكانات وتجارب وخبرات يمكن الإفادة منها في مواجهة تحديات المستقبل بالرغم من افتقاده الجزئي إلى عنصر الشباب, وانكماش حجم الطفولة. ولن يعدم مجتمع المستقبل أن يستحدث مجالات جديدة للعمل تتلاءم مع قدرات كبار السن, وتتفق مع مطالب (نهاية الحياة), خاصة أن المتوقع هو أن يختفي عدد كبير من الأنشطة والأعمال التي كان يمارسها هؤلاء المسنون في الماضي أيام حياتهم العملية المنتجة, وظهور أعمال وأنشطة ومجالات أخرى ليس لهم دراية أو معرفة بها. والواقع أن عددًا كبيرًا من الجامعات الأمريكية بالذات تهتم بتدريس برامج ومقررات عن الشيخوخة وحياة المسنين وإعدادهم للمستقبل, واعتبار الشيخوخة (قيمة مضافة) نظرًا للخبرات الهائلة التي اكتسبها هؤلاء المسنون أثناء مراحل حياتهم المختلفة.

خطوات على طريق المواجهة

          وبطبيعة الحال فإن مشكلة التقدم في السن ليست جديدة تمامًا, وإن كانت المتغيرات والمستجدات الحديثة وتضخم الظاهرة تثير كثيرًا من القلق لدى الحكومات حتى في الدول الغنية المتقدمة فيما يتعلق بالتكلفة التي سوف تتحملها الدولة, نظير تقديم الخدمات لهذا العدد المتزايد من كبار السن ودفع المعاشات لهم لسنوات طويلة على ما تقول جريدة الفاينانشيال تايمز بتاريخ 7/1/2004, ولكن الجريدة لا تنسى أن تقول إن هذه النظرة إلى الشيخوخة, على أنها عبء على الدولة, هي أمر يدعو إلى الأسى لأن المفروض أن الدولة الحديثة حلت محل العائلة القديمة في رعاية كبار السن من أبنائهم وتقديم المساعدة والعون والدعم المالي والاجتماعي والسيكولوجي وهي الأمور التي اختفت الآن تمامًا أو كادت تختفي في معظم دول العالم بعد التغيرات الجذرية التي طرأت على بناء العائلة والعلاقات بين أعضائها, وبخاصة بين الأجيال المتتالية. فالشعور الذي يسيطر على الكثيرين من المسنين هو الإحساس بالوحدة والعزلة وتراجع دورهم في المجتمع بل وأحيانًا عدم جدوى أو معنى الحياة ذاتها, كما أن التقاعد عن العمل بحكم القوانين المعمول بها في الدولة كثيرًا ما يكون بمنزلة حكم على الفرد بالانسحاب من الحياة الاجتماعية وهو نوع من الموت الاجتماعي في مجتمع يحتاج دائمًا وبشكل مستمر إلى الفئات الشابة القادرة على العمل والإنتاج واستيعاب المستجدات والتطورات السريعة المتلاحقة بل والمشاركة في صنعها وتسارعها.

          وقد يكون للدولة بعض الحق فيما تذهب إليه من الشعور بالقلق حول مستقبل الخدمات التي يمكن تقديمها لهذا العدد المتزايد من المسنين, مع التناقص المتزايد أيضًا في حجم الشرائح العمرية الأصغر والأقدر على العمل والإنتاج من ناحية والإحساس المتزايد في الوقت نفسه بأن ما تقدمه الدولة من (معاشات) للمسنين بعد انتهاء خدمتهم العملية لا يكفي لسد احتياجاتهم المتزايدة كذلك, نظرًا لاحتياجهم إلى توفير نظام معيشي خاص, فضلاً عن تكاليف العلاج من أمراض الشيخوخة المزمنة. وثمة تفكير جدي في بعض الأوساط في المجتمعات الأكثر تقدمًا حول إمكان استحداث نظام آخر غير نظام المعاشات التقليدي المعمول به حاليا والذي تضطلع الدولة وحدها - في الأغلب - بتغطية نفقاته. كما أن هناك نوعًا من (المراجعة) لنوع وحجم الخدمات التي يمكن للدولة أن تقدمها للمسنين من أبنائها والتي ترتفع تكاليفها طيلة الوقت, بحيث قد تعجز معظم الحكومات عن الوفاء بها في المستقبل أو قد تضع قيودًا على الإنفاق على أمور أخرى حيوية, قد تتعلق بسلامة الدولة وأمنها. ويذهب الكثيرون في بعض تلك الدول المتقدمة ذاتها إلى أن المسنين ينالون من الخدمات والمساعدات والمعونات أكثر بكثير مما ينبغي, بل ويذهب البعض إلى تشبيه الوضع هنا بالمساعدات والمعونات والمنح, التي تقدمها الدول الغنية إلى دول العالم الثالث, والتي يرون أنها هي أيضًا أكبر مما ينبغي. وعلى الرغم من أن مفهوم التكافل الاجتماعي مبدأ معترف به ويجد دائمًا من يؤيده ويدعو إليه ويشجع عليه نظرًا لما ينطوي عليه من معان إنسانية رفيعة, فإن هذه الزيادة المطردة في أعداد المسنين, وبخاصة حين يقعدهم المرض عن المشاركة في حياة المجتمع أصبح أمرًا يؤرق بال الكثيرين من المسئولين ويتطلب البحث عن أسلوب بديل يوفر للدولة جانبًا كبيرًا من أموالها ويوفر في الوقت ذاته مستوى معقولاً من الحياة الكريمة للمسنين.

          والبديل الذي يقترحه بعض الباحثين هو ما يطلق عليه اسم (المعاش الخاص), الذي يقوم في أساسه على مبدأ الادخار من جانب الأفراد أنفسهم خلال فترة عملهم الإنتاجي مما يعني أن المسنين يتحملون مسئولية رعاية أنفسهم بجهودهم الخاصة السابقة على بلوغهم مرحلة الشيخوخة والعجز عن العمل والكسب وذلك بدلاً من الركون إلى سياسة المعاشات العامة, التي تلتزم بها الدولة التزامًا كليًا ومطلقًا. ويلقى هذا الاقتراح كثيرًا من المعارضة ليس رفضًا لمبدأ مسئولية الفرد عن نفسه ولكن لبعض الاعتبارات الأخرى, مثل ارتفاع تكاليف المعيشة بشكل مستمر قد يجعل من الصعب تنفيذ الفكرة إلا في حدود ضيقة, بحيث لا تكفي الادخارات لتغطية نفقات سن الشيخوخة ومتطلبات ما أصبح يطلق عليه في بعض الكتابات (فترة ما قبل الموت), وهو تعبير لا يخلو من الغلظة والفجاجة, ولكنه يعبر بصدق عن الحقيقة والواقع. وحتى إذا نجح هذا المشروع المقترح في الدول المتقدمة الغنية فإن فرص نجاحه في الدول الأكثر تخلفًا والأقل ثراءً أمر مشكوك فيه, ومع ذلك فهناك شعور متزايد بأن نظام المعاشات الخاصة سوف يفرض نفسه في المستقبل بعد إدخال التعديلات اللازمة التي تجعله مقبولاً من المسنين أنفسهم. ولكن الموقف الآن يسترجع إلى الذهن الصورة الساخرة التي يقدمها الكاتب البريطاني الشهيرجوناثان سويفت في كتابه الرائع (رحلات جاليفر) وهو يتكلم عن تلك الخلائق التي يسميها (سترولدبرجز) الذين يعيشون في مملكة متخيلة هي (مملكة لجناج), وقد قضي عليهم بأن يعيشوا أبدًا لا يعرف الموت إليهم سبيلاً, وبذلك تراكمت عليهم العلل والأمراض بتراكم السنين, وضعفت قواهم الذهنية ولم يجدوا من غيرهم سوى المهانة والاحتقار والسخرية, بل إن (الدولة) اعتبرتهم (أمواتًا) من الناحية القانونية وكانت تكتفي بأن تقدم لهم (معاشًا) ضئيلاً لا يكاد يكفي لتوفير مجرد العيش.

          وهذا كله لا ينفي على أي حال أن المجتمعات المتقدمة - على الأقل - تحمل هموم مواطنيها المسنين, وسوف تعمل ما وسعها للتغلب على الآثار السلبية المصاحبة للتقدم في السن ومساعدتهم على الاحتفاظ - قدر الإمكان - ببعض المقومات والقدرات التي تهيئ لهم إمكانات الحياة والعيش في هدوء وراحة, مع تمكينهم من المشاركة في الحياة اليومية بقدر ما تسمح لهم قواهم الفيزيقية والذهنية. ومن أجل تحقيق هذا الهدف تلقى صناعة الأدوية والعقاقير الخاصة بالشيوخ والعجائز تشجيعًا من الدولة من ناحية, وسوقًا رائجة من المسنين من الناحية الأخرى, تمامًا, مثلما توجد في المجتمعات التقليدية (وصفات) شعبية تراثية هي أقرب إلى السحر وتدخل في نطاق الطب الشعبي لتحقيق الهدف نفسه. وقد يكون من الصعب الحكم الآن على مدى استمرار هذه الصناعة في النجاح وفي تحقيق الهدف منها دون أن تخلف وراءها أي آثار جانبية ضارة ولكن المؤكد هو أن الإقبال على هذه المنتجات الطبية - بما فيها الوصفات الشعبية - سوف يزداد مع الزمن ومع تزايد أعداد المسنين ومع استمرار الزيادة والارتفاع في متوسط الأعمار واتساع نطاق (العمر الرابع), وإن كان هناك من يرى أنه ليس من الحكمة محاربة الطبيعة والوقوف ضد زحف الشيخوخة الطبيعية وذلك تمكينًا للمجتمع من الاحتفاظ بالتوازن السكاني (الطبيعي). فالاعتداء على الطبيعة وعلى ما هو (طبيعي) ينتج عنه دائمًا مشكلات ومتاعب اجتماعية واقتصادية شديدة التعقيد. ولكن يبدو أن حرص الإنسان على الحياة والتمسك بأهدابها بالرغم من إدراكه أن الموت هو النهاية (الطبيعية) المحتومة لكل حياة تدفعه إلى البحث عن وسائل لتأجيل هذه النهاية حتى وإن تحمل في سبيل ذلك كثيرًا من العنت والمشاق والأهوال.

          وهذا معناه استمرار الصدام بين الطبيعة وأحكامها وقوانينها, وبين العقل ومقتضياته وتجاربه وتطلعاته إلى المستقبل. ومن الصعب التكهن الآن بما ستكون عليه نتيجة هذا الصدام.

 

أحمد أبوزيد   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات