ثورات الطبيعة.. بين الاعتدال والطغيان

ثورات الطبيعة.. بين الاعتدال والطغيان
        

          لا يكاد الإنسان يلتقط الأنفاس فيما بين ثورات الطبيعة, إلا ويباغته فيض جديد. وهذه المرة لم تأته ثورة بمفردها, وإنما تعاضدت عليه رجات مزلزِلة بقاع محيط سحيق, تلاها طوفان هائل اكتسح الزرع والضرع والمأوى.

          عرف الإنسان الزلازل, ذلك العدو المدمر, وما تتعرض له الأرض سنويا من أعدادها العظيمة, لا يشعر بمعظمها, إما لضعفها أو لحدوثها في مناطق غير مأهولة, فهو لا يحس بها عادة إلا حين تشتد إلى نحو أربع درجات على سلمها العلمي ريختر. ويعرف جيدا خطورتها إذا ما زادت عن سبع درجات.

          وفي المحاولات المضنية لتفسيرها, تبلورت في العام 1968 نظرية جامعة لكل التفسيرات العديدة التي امتدت لقرابة نصف قرن, وانتظمت تلك النظرية مع معظم النظريات السابقة وخاصة نظرية الانجراف القاري, بل وأقامت الدليل على صحتها, وأُطلق على تلك النظرية: الصفائح أو الألواح التكتونية, التي تفسر أن القشرة الأرضية ليست متصلة, بل مقسمة بشبكة من الصدوع إلى عدد من الألواح أو الصفائح التي تتحرك دوما, كل صفيحة منفردة, كوحدة مستقلة متماسكة, تسبح فوق غلالة من الصخور شبه المنصهرة من الطبقة التالية للقشرة الأرضية. وتتعرض حدود تلك الألواح دوما للإجهاد والشدّ, مما ينتج طيات بفعل الإجهاد المستمر وتصدعات بفعل الإجهاد العنيف المفاجئ.

أحزمة مهلكة

          بمراقبته لمواقع الزلزال على اليابسة, وجد الإنسان أنها لا تنتشر عشوائيا, بل يتركز معظمها في أحزمة رئيسية تمتد مسافات طويلة عبر البحار والقارات, أشهرها وأقواها تلك الممتدة بطول الساحل الشرقي للمحيط الهادئ, والتي تكوِّن شريطا طويلا يحاذي غرب الأمريكتين واليابان والفلبين ويصل إلى استراليا ونيوزيلندا, مشكلا نحو 68% من زلازل العالم, ومنها تلك التي حدثت في ألاسكا العام 1964, وبيرو العام 1970, وشيلي العام 1985, واليابان عامي 1923 و1995. ويعرف هذا الحزام بـ (حلقة النار) لأن الزلازل فيه تتصاحب غالبا مع انبثاق بركاني, كان من أشدها ما حدث في كولومبيا في 14 نوفمبر العام 1992, حين انبثق في اليوم التالي للزلزال حمم بركانية هائلة على جبال الأنديز.

          وَوَجد الإنسان أيضًا أن الحزام الثاني يقع على طول الساحل الغربي للمحيط الهادئ, بدءا بجزر اليابان شمالا حتى إندونيسيا جنوبا, مرورا بقوس جزر تايوان. والحزام الثالث يمتد عبر إفريقيا وأوربا وآسيا, من جبال أطلس شمال إفريقيا, عبر البحر الأبيض المتوسط وإيطاليا واليونان وتركيا حتى الصين, ويعرف بحزام جبال الألب, وفيه يقع نحو 21 في المائة من زلازل العالم.

          وكان أن أطلَق كلمة (تسونامي Tsunami) ذلك التعبير الياباني الذي يعني (أمواج الميناء), على التيارات البحرية الزلزالية العنيفة, فاصلا بينه وبين المد البحري المألوف, مؤمنا بأن الزلازل ليست وحدها هي السبب الوحيد لحدوث تسونامي, لكنها الأغلب, يضاف إليها تأثيرات أخرى كالثورات البركانية وسقوط الأجسام الفضائية الهائلة.

سجل حافل بالمدّ

          حين يستعرض التاريخ بعضا من ظاهرة تسونامي, يجد أن أقدمها ربما ذاك الذي ضرب الطرف الشمالي من بحر إيجة عام 479 قبل الميلاد. كما شهد القرنان الماضيان أعدادا كبيرة منها - تركت مظاهر عديدة من الإهلاك والدمار - لعل أهمها, تلك التي ضربت الساحل الشرقي من جزيرة هونشو اليابانية, نتيجة زلزال بحري ضخم انطلق في 5 يونيو 1896 في منطقة الصدع تحت البحري بأخدود اليابان. فقد اندفعت أمواج البحر الزلزالية نحو اليابسة بارتفاع نحو 30 مترا وغمرت قرى بأكملها, وجرفت أكثر من عشرة آلاف منزل, وأغرقت نحو 26 ألف شخص, وانتشرت أمواجها شرقا عبر المحيط الهادئ, لتصل إلى جزيرة هيلو في هاواي, ثم توجهت إلى الساحل الأمريكي وانعكست مرتدة تجاه نيوزيلندا وأستراليا.

          كما شهد القرن العشرون عدة كوارث من التسونامي, فقد انطلق القرن مع زلزال ومد بحري ضاربين جزيرة صقلية الإيطالية العام 1908 وأسفرا عن مقتل ما يناهز 100 ألف شخص, خصوصا في مدن مسينا وريدجيو دي كالابريا وبالمي.

          وفي العام 1960 تعرضت اليابان أيضا لمد بحري زلزالي, بلغت سرعته 750 كيلو مترا في الساعة, وكان نتيجة للزلزال الذي شهدته شيلي, مؤديا إلى ارتفاع سطح الأرض بتسعة أمتار. وقد تولدت موجة التيارات البحرية الزلزالية عن التصدع التكتوني داخل المحيط والتي يصل عرضها إلى مئات الأمتار, والتي ترتفع طاقتها كلما اصطدمت بصفيحة في عمق البحر.

          وفي شهر سبتمبر العام 1992, دمر مد بحري زلزالي آخر مساكن حوالي 13 ألف شخص على سواحل نيكاراغوا. شهران بعد ذلك أدت سلسلة من الأمواج المحيطية الضخمة إلى محو عدة قرى في منطقة بالي بإندونيسيا, وكانت مسئولة عن مقتل آلاف الأشخاص.

          وفي 17 يوليو العام 1998, وبعد حدوث هزتين أرضيتين بقوة 7 درجات على سلم ريختر, ضرب مد بحري زلزالي, مصحوبًا بثلاث موجات ضخمة بارتفاع عشرة أمتار, ثلاثين كيلومترا من سواحل شمال منطقة بابوازيا في غينيا الجديدة, مما أدى إلى إزالة سبع قرى من الخريطة وإلى مقتل 2123 شخصا على الأقل.

          ولم يشهد العالم منذ نحو أربعة عقود, زلزالا يضاهي قوة الزلزال العنيف الأخير - خامس أشد زلزال عرفه على اليابسة منذ مائة عام - الذي ضرب دول جنوبي شرقي آسيا في نهاية العام المنصرم, فيما بين إندونيسيا وسيريلانكا والهند وتايلاند وماليزيا وجزر المالديف, بل وامتدت آثاره حتى الصومال, والذي أودى بحياة أعداد هائلة من البشر, إضافة إلى ما يزيد على نصف مليون جريح وملايين المشردين والمهددين بالأمراض والأوبئة, وخسائر تقدر بمليارات الدولارات.

          وكان مركز الزلزال, إلى الغرب من القسم الشمالي من جزيرة سومطرة الإندونيسية, ببعد 250 كيلومترًا من الساحل الجنوبي الشرقي لإقليم (باندا أتشيه) و320 كيلومترا, إلى الغرب من مدينة ميدان, مسببا موجات مد طوفانية بارتفاع عشرات الأمتار. وقد بلغت قوته بحسب (المعهد الجيولوجي الأمريكي) قرابة 9 درجات على مقياس ريختر. وبالرغم من ذلك, يظل زلزال تشيلي للعام 1960 الأعنف الذي تم تسجيله منذ مطلع العام 1900 حيث بلغت قوته 9.5 درجة.

          وقد أوضح مدير المعهد الوطني الإيطالي للجيوفيزياء أنزو بوش, أن قوة ذلك الزلزال (حدث نادر جدا), مضيفا (إن هذه الزلازل تنتج عن تغييرات بقشرة الأرض بسبب تجمع طاقة هائلة, وعندما تبلغ الطاقة المتجمعة والتغير مستوى خطيرا يحدث انكسار, وتكون شدة الزلزال بقدر ما يكون الانكسار قويا), وتابع (في الحالة التي وقعت في جنوبي شرقي آسيا تفاقم الوضع, لأن الانكسار حدث في عرض البحر, مما تسبب في ارتفاع عنيف في الموج انتقل بسرعة هائلة).

آسيا: تاريخ مع الفيضانات والزلازل

          حصدت الكوارث الطبيعية في آسيا, خاصة الفيضانات والزلازل, أكبر عدد من الأرواح, لذا فهي تعد الأسوأ في العالم على مر السنين.

          وتعد الصين, البلد الأكبر سكانا في العالم, الهدف الرئيسي لتلك الكوارث. ففي العام 1920, ضربت هزة أرضية مقاطعة نينجزيا في شمال غرب البلاد, وأسفرت عن مقتل نحو مائتي ألف شخص. وفي السنين الإثنتي عشرة التي تلت, شهدت الصين, سلسلة من الكوارث الطبيعية, وعاش هذا البلد أسوأ الكوارث التي حلت بالعالم في تلك الحقبة. ففي مايو العام 1927, قتل 200 ألف شخص في زلزال ضرب مدينة ناشان جنوب البلاد. وبعد خمس سنوات فقط, أودى زلزال آخر ضرب مقاطعة جانسو شمال غرب الصين بحياة 70 ألفا. واستمرت الكوارث الطبيعية باستهداف هذا البلد الذي بات معتادا عليها, وأسفرت السيول والفياضانات سنويا عن مقتل الآلاف, لكن الفيضانات الأسوأ حدثت العام 1931 عندما فاض نهر يانجتسي وأغرق نحو ثلاثة ملايين شخص.

          أيضا, الزلزال الذي وقع فجر 28 يوليو العام 1976, حيث هز زلزال عنيف مدينة تانجشان بشمال الصين, ما أسفر عن مقتل ما يناهز 700 ألف شخص. وشأنهم شأن سكان سواحل جنوب شرق آسيا في نكبتهم الأخيرة, لم يتلق سكان تانجشان أي إنذار لحدوث هذه الكارثة التي حلت بهم وهم نيام, وقد دمر الزلزال الذي استمر 15 ثانية 93% من المباني السكنية.

          وفي بنجلاديش, حصدت الفيضانات أعدادا هائلة من الضحايا, كتلك التي ضربت جنوب البلاد العام 1942 وقتلت 61 ألف شخص, والعام 1970 حيث أودت بحياة 300 ألف شخص. وفي العام 1991, شهدت بنجلاديش كارثة من أسوأ الكوارث الأخيرة بمقتل 139 ألف شخص في فيضانات ضخمة. لذا فقد اعتبر الخبراء أن الفيضانات هي الأكثر حصدا للأرواح بين الكوارث الطبيعية التي تضرب الأرض, بالرغم من أن الزلازل تسفر عادة عن أعداد كبيرة من القتلى.

نحن والتسونامي

          عن أقرب النقاط لمنطقتنا العربية, البحر الأبيض المتوسط, يوضح ميشال فيلنوف عالم الجيولوجيا الفرنسي بجامعة بروفانس, أنه (عندما يكون هناك نشاط زلزالي ومسطح مائي, فإن خطر وقوع حركة مد بحري كبيرة قائم ولا يمكن الاستهانة به). ويضيف (إن محرك النشاط الزلزالي هو منطقة اندساس اللوح الإفريقي تحت اللوح الأورو آسيوي, الواقع تحت منطقة الأطلس في شمال إفريقيا من المغرب حتى تونس, وتمتد أيضا في البحر حتى شمال صقلية).

          (وعلى مدى ألفي سنة, سُجّل نحو عشرين مدا عاليا في البحر المتوسط, كان بعضها قاتلا, كما حدث في العام 551م على طول الشاطئ اللبناني السوري. وفي مصر, في القرنين الرابع والرابع عشر, وفي مسينيا (إيطاليا) العام 1908). وليس هذا بالكثير, على ما يقول بول تابونييه عالم الجيولوجيا في معهد فيزياء الكرة الأرضية في باريس.

          وتنتشر الصدوع في البحر المتوسط, حيث يوجد صدع, شبيه بصدع سومطرة, يمتد من البحر الأيوني حتى رودوس, تسبب في العام 365م بمد بحري امتد حتى صقلية ومصر, وأدى إلى مقتل عشرات الآلاف من الأشخاص على ما يوضح ذلك العالِم.

          ويرى الخبراء أن 80% من موجات المد البحري الهائل تسجَّل في المحيط الهادئ, و10% في المحيط الهندي, وبين 5 إلى 10% في البحر المتوسط حيث قوتها أضعف بشكل وسطي - على ما يطمئن فيليب لونيونيه مدير قسم الجيوفيزياء الفضائية والكونية في معهد فيزياء الكرة الأرضية بباريس. وثمة سببان وراء ذلك: انخفاض القوة الوسطية للزلازل في البحر المتوسط, وصغر مسطح المياه, الأمر الذي لا يسمح للموجة بأن تجمع الكثير من القوة كما حدث في آسيا.

          بالرغم من ذلك, فإن خطر وقوع حركة مد بحري هائل, قائم أيضا في البحر المتوسط, حيث سُجلت هذه الظاهرة في الماضي كما ذُكر, ويأسف العلماء لعدم وجود نظام إنذار مبكر في تلك المنطقة يُدَّق به ناقوس الخطر لمواجهة مباغتات الطبيعة المحتملة.

          ونظريا, لا يمكن استبعاد سيناريو أن تضرب موجة تسونامي السواحل الفرنسية عند مستوى سهل الكامارغ, ويصل المد حتى مدينة آرل على بعد 25 كيلومترا من الساحل, كما يحذر فيلنوف. وقد طالت آخر موجة تسونامي صغيرة خلفها زلزال بومرداس (الجزائر) في شهر مايو العام 2003 - من دون أن تسفر عن ضحايا - جزر البالييار, والسواحل الفرنسية, حيث انحسر مستوى المياه مؤقتا 1.5 متر في بعض الأماكن.

          ويتوقع تابونييه أن بحر مرمرة في تركيا, قد يكون على الأرجح المسرح المقبل لموجة تسونامي, أصغر من تلك التي شهدتها آسيا أخيرًا, لكن الكثافة السكانية الكبيرة قد تجعل منها موجة قاتلة. ويقول لونيونيه (إن هذه الظواهر تتكرر فقط كل عشر أو خمسين سنة, مما يخفف من وطأة الخطر في أذهان السلطات والسكان. وفي حين يتمتع المحيط الهادئ بنظام إنذار تشارك فيه 26 دولة, فإن البحر المتوسط والمحيط الهندي يفتقران إلى نظام كهذا). ويقول تابونييه (إن ما حدث في آسيا سيدفعنا ربما إلى التفكير, حتى لو كان ذلك لا يشكل أولوية بالنسبة للدول, وهذا الأمر مؤسف جدا).

          باتريك سيمون, مدير مكتب المخاطر الطبيعية في وزارة البيئة الفرنسية, يوضح أن الأمر الذي يعقد الإنذار هو أن عرض المتوسط يبلغ نحو ألف كيلومتر فقط, مما يعني أن موجة تسونامي يمكن أن تعبره في ساعة أو أكثر بقليل. وشدد على أن فرنسا بدأت دراسة لتحديد تواتر حدوث موجة من هذا النوع.

          عالم آخر, جيراسيموس بابادوبولوس, من معهد الجيوديناميك في مرصد أثينا, يؤكد أن في اليونان التي تشهد أكبر نشاط زلزالي في أوربا, يقوم خبراء الزلازل بأول إجراءات لمسح مخاطر التسونامي ووضع نظام إنذار بعد فترة.

          وقد قال الرئيس الأمريكي جورج بوش, بعد أيام من كارثة آسيا الأخيرة, أنه يؤيد إقامة نظام عالمي للإنذار المبكر من حركات المد البحري الهائلة, موضحا: (إن أحد جوانب الاستراتيجية الطويلة المدى لمواجهة الكوارث الطبيعية هي التأكد من أننا والعالم لدينا نظام إنذار يمكن الاعتماد عليه حول المد البحري الضخم).

 

سيد عاشور أحمد   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الأرض من سفينة الفضاء أبوللو





 





مركز الزلزال سبب المد الآسيوي الأخير





مواضع الزلازل في العالم: الدوائر الصفراء: زلازل حدثت في المد الآسيوي الأخير. الدوائر البرتقالية: زلازل حدثت بعد أيام من المد الآسيوي الأخير. الدوائر البنفسجية: زلازل حدثت خلال السنوات الخمس الماضية. (توقيع الخريطة في 3 يناير 2005).





محيطات العالم





أمواج المد تغمر جزيرة سومطرة التي كانت مزارا للسائحين





فصول المأساة في صور متتابعة, الأرض تتقلص, الأمواج تثور, ثم تنقص ولا تترك خلفها سوى الدمار





فصول المأساة في صور متتابعة, الأرض تتقلص, الأمواج تثور, ثم تنقص ولا تترك خلفها سوى الدمار





فصول المأساة في صور متتابعة, الأرض تتقلص, الأمواج تثور, ثم تنقص ولا تترك خلفها سوى الدمار





فصول المأساة في صور متتابعة, الأرض تتقلص, الأمواج تثور, ثم تنقص ولا تترك خلفها سوى الدمار





لم يبقى من البيوت إلا حطامها





... ومن البشر إلا أفواه جائعة





كلمة تسونامي باليابانية





... ومن الذكريات إلا البكاء على الذين ماتوا





... ومن بقايا الموت إلا الخوف من انتشار الأوبئة