بعد الكارثة اللوحة الفنية وأحداث 11 سبتمبر

بعد الكارثة اللوحة الفنية وأحداث 11 سبتمبر
        

لم يمر هذا الحدث المروع دون أن يخلف آثارًا جسيمة. ربما نعي جميعًا الآثار السياسية والاقتصادية, ولكن ماذا عن كارثة سبتمبر والفن المعاصر?

          في حين وقع الاختيار على المعماري الياباني الشهير ماينورو ياماساكي, لتصميم برجي مركز التجارة العالمي كتحد جديد للأفق, وصدمة الرياح والجاذبية, كان ياماساكي يفكر بإنجاز أعلى كتلة معمارية في العالم تنافس وتتحاور مع خط السماء. ياماساكي المولود في الأول من ديسمبر من عام 1912, والذي رحل في السابع من فبراير عام 1986, استطاع عبر تطبيقه لأحدث النظريات المعمارية في العالم في ذلك الوقت, ومن خلال التعامل مع المسقط الأفقي المفتوح, إلى جانب نظام إنشائي يسمى (الأنبوب المفرغ) أن يقدم أنموذجًا معماريًا ليصبح المعلم الأكثر إثارة وحضورًا في عالم العمارة المعاصرة في قوتها ومتانتها في تحدّي ثقل الرياح الشديدة, بالإضافة إلى سعة المبنى ومقاومته للهزات الأرضية.

          وسبق لياماساكي, أن قدم عمائر مهمة مثل مطار سانت لويس, وإسكان بريتو الحكومي ومطار الظهران في السعودية, ولكن ظل مركز التجارة العالمي الأبرز في العمارة الحديثة, والذي انتهى العمل به في العام 1972, وظل البرج الأعلى في العالم لغاية عام 1974, حين أنجز برج سيرز بمدينة شيكاغو الذي بلغ ارتفاعه 443م.

          لقد شكّل مركز التجارة العالمي تحوّلاً معماريًا وجماليًا ككتلة معمارية ونحتية لها تأثيرها الخاص في سماء نيويورك, كما لو أنها الشجرة المعمارية التي تحاول القبض على السماء, كتلة عملاقة تتحدى الفراغ, وناطحة تستدرج السحاب, إلى أن جاءت الصدمة الكارثية التي أحدثت انقلابًا حقيقيًا في نظريات عمارة الأبراج وناطحات السحاب وصولاً إلى التحوّل الكامل في الخطاب الاجتماعي والسياسي والإنساني, فحين تسقط أعلى علامة معمارية نقف أمام حقيقة انهيار فكرة العملقة.

          لم يمر هذا الحدث الذي ساهم وبشكل محوري في إطلاق مصطلح جديد في عالم السياسة أكل الأخضر واليابس (مصطلح محاربة الإرهاب), وما تبعه من تداعيات سلبية على العالم بشكل عام, والعالم العربي والإسلامي بشكل خاص, فبتنا نتلمّس تحوّلات دول بأكملها نحو نظريات الانسياق مع هول الحدث من باب اتقاء شرّه وشر ما يترتب عليه من تداعيات اقتصادية وعسكرية وأمنية, وتذكّرني تلك التداعيات بأعمال الفنان الألماني (جورج بازلتز) الذي يقوم بعرض أعماله مقلوبة احتجاجًا على الفوضى التي تعم الكرة الأرضية, وما تئول إليه الأمور. فبازلتز حين قلب لوحاته كان يشير إلى الإرهاب القادم من خلال رصده الدقيق لتحوّلات واحتقانات المجتمعات المضطهدة, وأعتقد أن الكارثة التي حلت بالبرجين, تدعونا إلى وقفة جادّة لقياس حجم احتياطي السواد في شعوب طال اضطهادها من أكثر من جهة وقرار, فكان الفعل الانتحاري الصورة الأكثر تعبيرًا عن تداعيات مراحل الخنق وانفجاراته في أعلى علامة معمارية تدلل على إمبراطورية أمريكا.

          ومن الطبيعي جدًا أن ترصد تلك الأحداث الكارثية في الإبداع الإنساني كمجال للنقد والتأثر, وأقرب مثال حديث على ذلك كان في بداية الخمسينيات من القرن الفائت عبر المدرسة المكسيكية وأهم روّادها (دييجو ديفيرا - وسكيروس - وتامايو) الذين أنجزوا مجموعة من الجداريات, عبرت عن الرهاب العسكري, فهم أحفاد حضارات الأنكا والأزتيك الذين عبدوا الطبيعة أو ما يسمى بـ (الشامانية).

حروب قديمة

          لا ننسى كذلك تأثيرات الحرب الإسبانية على مساحة اللوحة وموضوعاتها التي نقدت وسجلت مشاهد العنف والاضطهاد, لتصبح وثيقة بصرية وشاهدا على جرائم فرانكو, حيث مثلت أعمال فرانشيسكو جويا تحوّلا ثقافيًا في التعبير عن الهمجية والإرهاب, وكذلك أعمال بابلو بيكاسو في عمله المشهور (الجورنيكا) وسلفادور دالي في لوحتهالحرب الأهلية.

          وتحولت أحداث (11 سبتمبر) إلى مادة خصبة, تم تناولها في الكتابة والسينما والرسم والمسرح, حيث ألغى الحدث المساحة القائمة بين الحقيقة والخيال, وكأننا أمام مشاهد من السينما الأمريكية خاصة في مشهد سقوط الرجل الذي ألقى بنفسه من البرج آملا بنجاة مستحيلة, فهي لحظة تشبه الحياة والموت معًا, ذلك المشهد الذي احتل الأذهان.

فضاء التشكيل في مساحة الألم

          التأمل للإبداع التشكيلي ما بعد 11 سبتمبر يلتقط تمامًا حجم تورّط الفنان في الانفعالات السريعة والقوية تجاه التعبير عن الحدث, فأنجزت على غرار ذلك آلاف الأعمال الفنية وعدد آخر من الجداريات في الفضاء الخارجي للعرض لإتاحة الفرصة لأكبر عدد من الناس للتفاعل مع الأعمال, وأقيمت مئات المعارض التي عبرت عن الحدث بأساليب مختلفة وصولاً إلى رسومات الأطفال التي كانت أكثر سذاجة وصدقًا, وتعكس مدى تأثر الطفل بما شاهده في التلفاز.

          وساعدت الأحداث بظهور مفردات فنية جديدة, لم تكن بارزة في الفن الغربي من قبل مثل العلم الأمريكي والنسر ومشاهد الضحايا وعلامة البرجين, فتلك المفردات كانت تتحرك عبر مسارين, الأول يتمثل بإعادة إنتاج هيبة أمريكا, حيث لوحظ مبالغات الاحتفاء بالعَلم الأمريكي, وشاهدنا ذلك في مشهد للرئيس بوش مع جنوده, كما لو أن العَلَم هو البيت الأكثر أهمية للدفاع عمّا يرمز إليه, بل الاحتماء به لتتبدل مفردات التعبير عن الإرهاب بعدما كانت تاريخيًا محصورة في نقد العسكرتاريا الآشورية والرومانية المغولية وتاريخ رموزها, مثل فرعون وهولاكو ونيرون والحجاج وهتلر وفرانكو وشارون لتصبح ممثلة بملامح الوجه الأسمر الملتحي كدلالة واضحة على الشرق العربي والإسلامي, وساهمت في تكريس تلك الصورة الصحافة والسينما, وصولاً للخطاب السياسي العالمي, الذي مازال يقوم بإنتاج تلك المشاهد لحصد المكاسب السياسية والاستعمارية دون النظر بمسببات تلك الكارثة, ومَن المستفيدين من هذا التسويق إسرائيل وأمريكا.

الحسّ المأساوي

          فالنظر إلى أعمال الفنانة الألمانية (Judith heinsohn) النحتية نرى إلى تثويرها لمسألةالبشاعة والحسّ المأساوي من خلال حطام الرأس البشري الذي يتقزز الناظر منه, وهي جرعة تعبيرية تؤشر بشكل صارخ على فداحة ما حدث, وإبراز همجية النتيجة وتراجيديتها, وكان هذا الخطاب ناتجًا عن إنسان مبدع يكون له أكبر الأثر في حياة الأمم إلى جانب توارث ذلك الخطاب من خلال ديمومة العمل الفني. ونجد في لوحة أخرى مشهد المرأة التي تحتضن صورة شخصية لأحد أفراد عائلتها الذين قضوا نحبهم في الكارثة, وباليد الأخرى العلم الأمريكي كما لو أن العمل يقدم معادلة بين ألم الذات, وألم الدولة. بينما يذهب الفنان (mark Collins) في لوحة الكرسي إلى تعبيرية ناقدة عبر تصويره لتحطّم تمثال الحرية على كرسي ضخم فاق حجم التمثال, مؤشرًا في ذلك إلى خفوت واضمحلال الحرية أمام سلطة الكرسي المتمثلة بالحكم والقرار السياسي, وتوالت أعمال الفنانين في التعبير عن الحدث بطرائق مختلفة كما فعل الفنان rick schaafsma في عمله التركيبي, والذي استخدم فيه جزءًا من حطام البرجين إلى جانب العلم الأمريكي مدعمًا عناصره بوحدات عاطفية مثل دمى الأطفال وبقايا الأشياء الخاصة للمفقودين, حيث بدا العمل أكثر تعبيرية وحيوية, وقد وصل الأمر بإحدى الشركات إلى حد إنتاج قمصان مطرزة برمز البرجين.

          وأعتقد أن هول الحادثة مازال يتفاعل, حيث بدت أعمال الفنان Jerry Sommer مخالفة لما أنتجه الفنانون, فقد أظهر السيد المسيح وهو يضع يده على البرجين, وأمامه النسر الأمريكي, وكتبت على هذه اللوحة عبارة تقول (ليعلم الرب وحده...لماذا?).

          كما لو أن الفنان أراد أن يحيل الذي حدث للرب كقوة عظمى تستطيع تفسير ما حدث, ونصطدم كذلك بتعليق للكاتب ستيف ماينرت حول صورة الرجل الذي هوى من أعلى البرج, والتي التقطها المصور ريتشارد درو ليقول (كلما هجمت صورة ذلك الرجل عليّ أُصاب بالغثيان وأتقيّأ دون مرض), وكذلك تقول إحدى الفنانات Karin Batten التي كانت تمتلك مرسمًا في الطوابق السفلية (نعم كانت لحظات صعبة, ولكنني قررت البدء من جديد, حيث أواصل الرسم والدموع تسيل على وجهي, وكلما أحاول رسم البرجين, أرى انهيارهما في اللوحة, وبالرغم من أنني غادرت نيويورك, فإنني أحب هذه المدينة).

 

محمد العامري   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




 





بكاء على بقايا الدمار. هناك احتفاء واضح بإبراز الأعلام الامريكية في مقدمة الصورة





فتاة تحمل صورة أحد الذين غابوا وفي اليد الأخرى لاتنسى أن تحمل علم أمريكا





الأبراج وقد تحولت إلى أيد تطلق حمامات السلام.. رؤية متفائلة للمستقبل