كتاب الأمير.. مسالك أبواب الحديد

 كتاب الأمير.. مسالك أبواب الحديد
        

          كتاب الأمير (مسالك أبواب الحديد) أول رواية عن الأمير عبد القادر, وعلى الرغم من قيمته التاريخية والإنسانية لم يحظ الأمير عبد القادر على أي عمل يخرج عن مدارات التاريخ, ويدفع بها عميقا نحو المتخيل الذي لا يستعيد فقط الوقائع, ولكن كذلك المخيلة الشعبية التي نمت على حافات مقاومته ونضالاته الكبيرة. كتاب الأمير تجربة أولى بهذا الاتجاه. قد يكون فعل مثل هذا مغامرة معقدة تجاه شخصية احتكرها التاريخ, لكن مغامرة الكتابة من هذه الناحية تستحق كل الاهتمام, لأنها تلغي الحافات بين التاريخ كوقائع, والمتخيل كذاكرة جمعية مليئة بالحياة والحرية. فالرواية لا تقول التاريخ لأنه ليس هاجسها المركزي, ولا تتقصى الأحداث والوقائع لاختبارها, فليس ذلك من مهامها الأساسية. تستند الكتابة هاهنا إلى المادة التاريخية, وتدفع بها إلى قول ما لا يستطيع التاريخ قوله بحرية: الاستماع إلى أنين الناس وأفراحهم وانكساراتهم, إلى اندفاعات الأمير, وهو يحتج على والده الذي أعدم بشكل بشع ودون استشارته, قاضي آرزيو, إلى أنينه وهو يدون أشواقه الدفينة ويسجل حرائقه وهو يرى مكتبته في تكدامت قد صارت رمادا , إلى غليانات بوجو الداخلية, لأن الأمير تركه ينتظر على حافة وادي التافنة, إلى وقع خطى مونسينيور ديبوش, قس الجزائر الكبير, وهو يركض بين غرفة الشعب بباريس وبيته للدفاع عن الأمير السجين بأمبواز Amboise أو وهو يكتب في الليالي الباردة مرافعته الكبيرة (عبد القادر في قصر أمبواز) التي وضح فيها لنابليون الثالث سمو روح الأمير في انتصاراته وفي هزائمه. مونسينيور ديبوش لايعرف الراحة إلا عندما يطلق سراح الأمير ويودعه قبل أن يلتحق بسفينة لابرادور Labrador المتجهة إلى القسطنطينة بتركيا.  من هنا كان لابد من إشراك ثلاثة أصوات في هذه الرواية التي تقول التاريخ من أدواتها وخصوصياتها الفنية: الأمير كراو لما عاشه مع آخرين ومع نفسه, مونسينيور ديبوش كحامل لقضية تحرير الأمير من سجنه, عاش من أجلها حتى موته, وجون موبي كشاهد حي على كل الحوارات التي دارت بين الرجلين في سجن أمبواز أو في الجزائر عندما كان مونسينيور ديبوش قسا على الجزائر. ثلاثة أصوات تتقاطع وتتداخل ولكنها كثيرا ما تسير في شكل خطوط متوازية تماما.

          رواية كتاب الأمير, فوق كل هذا, درس في حوار الحضارات. ليس الحوار الذي يفترض منتصرا ومهزوما, ولكنه حوار يفضي إلى إجابات حتى ولو كانت الإجابات قلقة وغير قارة, ومحاورة كبيرة بين المسيحية والإسلام في عز أزمات القرنين الماضيين وحروبه, بين الأمير من جهة ومونسينيور ديبوش وبوجو ونابليون الثالث من جهة ثانية. حوارات حادة وعنيفة ولكنها أفضت في النهاية إلى إعادة تشكيل وعي كل الذين انغمسوا في حروب القرن التاسع عشر القاسية. حروب وجد الأمير فيها نفسه على حافة قرن ينسحب بكل أشواقه وهزائمه ومفاخرَ كان السيف سيدها والشعر وقرن جديد كانت فيه الصناعة والآلة والماكينة هي سيدة الحروب والتطور والحداثة.

باب المِحَن الأولى

          الأميرالية

          28 يوليو 1864 فجرا. الرطوبة الثقيلة والحرارة التي تبدأ في وقت مبكر. الساعة تحاذي الخامسة. لا شيء إلا الصمت والظلمة ورائحة القهوة القادمة من الجهة الأخرى من الميناء, ممزوجة بهبات آخر موجة تكسرت على حافة الأميرالية, التي كانت تبدو كظلال داكنة هاربة نحو ساحل البحر ليغيب جزؤها الأمامي تحت كتل الضباب التي بدأت تلف المكان شيئا فشيئا.

          لا شيء إلا الصمت والتموجات الهادئة لبحر مثقل بالسفن والأحداث.

          أضواء خافتة, تكاد لا ترى من وراء الجبل العالي, لاتزال تقاوم سوادا كثيفا, بدأت تخترقه بعض الهالات الذهبية, التي كانت تندفن وراء ظلمة لا تكاد تُظهِر إلا خطوط القمم الفاصلة بين الجبل والسماء. عندما رأى جون موبي, زورق الصياد المالطي يقترب من حافة الأميرالية, لوح له بالقنديل الزيتي الذي كان بيده, مرات عديدة, قبل أن يطفئه ويضعه بمحاذاة الحائط القديم الذي يفصل البحر عن اليابسة. أخذ جون موبي كيسه, دفع بالأكاليل الثلاثة نحو القارب, ثم مد يده نحو الإكليل الرابع الذي كان أكبرها, ساعده المالطي على وضعه في الجهة الأخرى من القارب, حتى لا ينفرط. مد جون موبي رجله اليمنى بحذر, وبمساعدة الصياد, ألحق الرجل اليسرى حتى صار كلية داخل القارب. جلس قليلا وهو يتنفس بصعوبة, رتب أشياءه وهندامه بحذر شديد ثم تنفس عميقا, أغمض عينيه قليلا ثم همهم خوفا من أن يسمعه آخرون:

          - حركاتي صارت اليوم ثقيلة جدا. بدأنا نكبر ولم يعد الجسد يسعفنا مثلما كان, عذرا يا أخي, كل شيء تكاتف ضدنا, الشيخوخة والأمراض وقسوة الحياة.

          - لا تهتم يا سيدي جون, لاتزال البركة. نمشي?

          رد جون موبي بآلية:

          - يا الله نمشي.

          عندما فتح جون موبي عينيه على وقع هسهسة المجدافين وهما يشقان عمق البحر, كان الزورق قد ابتعد قليلا عن الميناء وزيت السفن والأميرالية. فتح الحقيبة الجلدية القديمة, ثم أخرج بوقالات الأتربة التي كان خائفا عليها من الانكسار.

          - أنت تعرف قيمتها. لقد حملت هذه التربة من بوردو, وأخاف عليها أن تتبعثر قبل وقتها في مكان غير المكان الذي حدده مونسينيور ديبوش.

          - المؤكد أنك كنت تعرفه جيدا? تساءل الصياد المالطي.

          - مونسينيور أنطوان ديبوش? كان أبي وأخي. كان كل شيء في حياتي, خدمته أكثر من عشرين سنة, جئت معه إلى هذه الأرض عندما عين أسقفا على الجزائر وصاحبته في كل منافيه إلى أن مات.

          - تأخرتم كثيرا في نقل رفاته, ثماني سنوات بعد موته? كثير. ألم يكن ممكنا نقله مباشرة بعد وفاته? ربما أسعده ذلك وأراحه على الأقل في قبره.

          - وماذا يستطيع خادم مثلي أن يفعل سوى أن يذكِّر ذوي الشأن من حين لآخر. وصيته ظلت عالقة في القلب. أشكر الله أنها وجدت مسلكها اليوم وأن مونسينيور دو بافي توصل إلى إقناع العائلة, وسكان بوردو كذلك الذين منحوه كل محبتهم بضرورة تنفيذ الوصية. يجب أن لا ننسى هذا.Mieux vaut tard que jamais هكذا يقول الذين اختبروا الحياة.

          - معك حق.

          كان قارب الصياد المالطي ينزلق بهدوء على سطح الماء, مخلفا وراءه بياضات وفقاعات صغيرة. لا شيء كان يسمع من بعيد وسط هذه السكينة وهذا الصمت الكنسي إلا صوت الماء وهو ينكسر تحت وطأة المجدافين وهما يغوصان عميقا في البحر مخلفين وراءهما خطا مستقيما مثل الذي يحرث في الماء.

          - هل يريد سيدي أن نتوغل أكثر نحو العمق?

          - نحو أبعد وأنظف نقطة, حيث لا زيوت ولا نفايات. حيث لا شيء سوى الصفاء والنور والحياة الصامتة للأشياء كما في بدء الخليقة. مونسنيور ديبوش كان يحب الماء والصفاء والنور والسكينة على الرغم من الظروف القاسية التي لم تمنحه إلا المنفى والجري وراء سعادة الآخرين حتى نسي نفسه. لقد منح كل شيء للدنيا ونسي أنه هو كذلك كائن بشري, في حاجة لمن يأخذه من الكتف بشوق ومحبة ويحسسه بوجوده.

          - الناس الكبار دائما هكذا, لا نعرف قيمتهم إلا عندما ينطفئون مخلفين وراءهم ظلمة كبيرة وحيرة وخسارة لا تعوض وأسئلة تجرح الحلق والذاكرة.

          عاود الصياد المالطي جدفه باتجاه الأعماق, حيث تنتفي الأشكال وتتداخل لتصير شيئا واحدا. واصل حركاته الآلية قبل أن يترك القارب يتحرك من تلقاء نفسه نحو شمس كان يستعصي عليها الخروج النهائي من دكنة السواد التي بدأت تنسحب شيئا فشيئا مخلفة وراءها هالة ذهبية كان جزؤها السفلي ينزلق على سطح الماء.

          - سنميل عقدة نحو الشمال حتى نبتعد قليلا عن طريق السفن التي تدخل الميناء, هكذا نكون على الأقل في مأمن.

          - السفينة التي تقل مونسينيور ديبوش ستصل بعد الظهر, أنا متأكد اليوم أن مونسينيور ديبوش سيكون أسعد إنسان حتى وهو في تابوته, تربته ستنثر على هذه المياه, تماما في الموقع الصافي الذي عندما ضاقت عليه سبل الدنيا, خرج منه ولم يلتفت وراءه مخافة أن يموت بالشهقة. عظامه ستجد أخيرا مأواها الطبيعي على هذه الأرض التي أحبها, خرج منها تحت ضغط الجشعين وهو يشعر بجوع لا يوصف نحوها.

          بهدوء كبير, حرك الصياد من جديد المجدافين ليندفن الزورق فجأة في عمق البياض الذي خلفته الأشعة الشمسية الأولى, التي خرجت من وراء الجبل الذي يطوق المدينة. كانت مفرطة النور, متوغلة في الضباب الذي بدأ يتصاعد من البحر ويغلف القارب الصغير. الشعاع الذي تسرب مثل الشلال, أعطى لمعانا خاصا للأتربة التي نثرها جون موبي مثلما تنثر حبات اللؤلؤ في فضاء واسع.

          - هذه الأتربة التي وطئها مونسينيور أو نام عليها للمرة الأخيرة. إنها ترابه الذي أحبه وانتهى إليه باستكانة. هكذا أوصاني, أن أزرع تربة رفاته مثل الذي يزرع حبوبا في فضاء واسع, ستنبت يوما خيرا وطيبة.

          لم يرد الصياد المالطي, ولكنه واصل توغله في عمق البحر, وسط ضباب حليبي تزداد كثافته, كلما توغل الزورق أكثر. لم يكن هناك أي أثر لأية موجة أو حركة باستثناء وقوقات النوارس التي بدأت تملأ الأمكنة بأعدادها الهائلة ويشعران بها على رأسيهما. كلما رمى جون موبي حفنة تراب, تجمعت بقوة ثم غطست بمناقيرها الدقيقة في سطح البحر محدثة صوتا ناعما وحادا.

          انحنى جون موبي مرة أخرى. تلمس الماء الدافئ, بان صفاؤه الكبير عندما تلألأت حباته المتسربة من بين أصابعه. أخذ الإكليل الأول ثم حطه بهدوء على سطح البحر بحذر كبير, كأنه كان خائفا من تلاشيه. في لحظة من اللحظات رأى جون موبي البحر كعروس تستقبل إكليل الزفاف وتكتم بصعوبة سعادتها القصوى التي ارتسمت في عينيها المنكسرتين قليلا.

          استقام جون مرة أخرى في جلسته بعد أن شعر بآلام الظهر, وهو يحاول أن يفهم هذا اللون النيلي الذي كان يتدحرج داخله القارب القديم ويتحسس الرائحة التي تسربت قوية إلى أنفه مثل العطر مانحة إياه شهوة التنفس عميقا.

          أخذ حفنة أخرى من التربة وطوح بها بعيدا حيث ذابت في بياض الضباب ثم استرق السمع إليها وهي تتساقط الواحدة تلو الأخرى على سطح البحر مثل رشاش المطر الربيعي الذي يسميه سكان البلاد سلم-نام.

          - الآن صار مونسينيور ديبوش في عمق البحر. لم يكن يحلم بعرس أفضل من هذا, أنا سعيد من أجله وأنه تخطى أخيرا عتبات المنفى القاسي الذي عاشه.

          كانت الأشعة قد اخترقت جزئيا الضباب الكثيف مخلفة وراءها إشعاعا قويا غطى على الظلال الفجرية الأخيرة وكسا البحر بغلاف يشبه في لمعانه انعكاسات المرايا العملاقة.

          - ارتبط بهذه الأرض فدافع عنها باستماتة ودافع عن رجلها الكبير, الأمير مثل الذي يدافع عن كتاب مقدس. استمات في الدفاع عنه حتى جعل حياته كلها رهن إطلاق سراحه. البارحة قضيت الليلة بكاملها أفلي كلماته الأخيرة التي كنت أظن عبثا أني أعرفها عن ظهر قلب, لأفهم عميقا سر هذا الحب. الأمير كان وسيلته للوصول إلى المحبة العليا.

          - الحق أحيانا فوق الأديان.

          - الرجل الحق هو الذي يجعل من الحق ضالته, مونسنيور لم يفعل أكثر من ذلك طوال عمره وكان يظن نفسه دائما مقصرا في حق الذين يطلبون عطفه وحنانه.

          هدأت أصوات النوارس ولم تعد تسمع وقوقاتها التي كانت تملأ المكان قبل قليل بعد أن يئست من صيدها. وضع الإكليل الثاني بهدوء كبير مثلما فعل مع الأول, ثم قام بكل استقامة وطوح بعيدا مرة أخرى بحفنة من الأتربة التي ذابت في عمق السماء تحت شعاع منعه تماما من النظر إليها وهي تسقط واحدة واحدة. عندما وضع يده على جبهته لكي يقي عينيه من حدة النور, رأى البحر وقد مال لونه نحو خضرة زيتية باردة هي نفسها التي رآها عندما دخل هذه الأرض لأول مرة بصحبة مونسينيور ديبوش في سنة 1838 وأثار وقتها انتباه مونسينيور ديبوش.

          - مونسينيور? هل رأيت? بحرهم أخضر وليس أزرق مثل بحرنا?

          - كل بحار الدنيا متشابهة يا عزيزي جون. أذا أردت أن تعرف أسرار الماء ادخل البحر فجرا وسترى عظمة الله في الألوان والتوليف.

          لم يكن مونسينيور ساعتها يعرف وهو يرمي بكلماته في عرض البحر أنه كان يفتح عيني على عالم لم أكن أسمع به إلا في الكتب والقصص العجيبة.

          عندما أخرج جون موبي كفه للمرة الثالثة من البوقال الرخامي ممتلئة بالتراب, رأى وجه مونسنيور مكسوا بالنور وعلى رأسه هالة من الألوان. كان قلبه حزينا وكئيبا. أول مرة ينزل في أرض الحرب وهو الذي تعلم في سيمينار باريس أن يجهد في إقناع الناس بحب بعضهم البعض. العالم كان يتغير بسرعة كبيرة. رآه وهو يتسلم تمثال العذراء السوداء البرونزي من يد مونسنيور دي كيلين De Quہlہne أسقف باريس في سنة 1838 كهدية من داخلية الساكري- كور بالقرب من مدينة ليون. ثم رآه وهو يقاوم دمعته المنكسرة ويكتب باستماتة رسالته إلى الأمير ينشده فيها إطلاق سراح زوج المرأة التي جاءته في ليلة عاصفة تطلب منه أن يتدخل لإنقاذ زوجها.

          - مونسينيور كان يعرف جيدا ما معنى أن يفقد الإنسان حريته. نشعر بنفس العطش نحو هذه الأرض. قال لي ذات مرة وهو طريح الفراش: أتمنى أن يمدني الله بعمر آخر لأخدم هذه الأرض التي حرمت منها في وقت مبكر. سأعطيها رفات الجسد إذا كان رماد تربتي يسكت الأحقاد ويوقظ حواس النور والحب في قلوب الناس. لم يكن مونسينيور يدري أنه كان يقطع وعدا على نفسه سيكبله حتى موته.

          - عندما يكون الضباب على سطح البحر, أشعة الشمس الفجرية تزداد بياضا ونصاعة, ويزداد اللون النيلي عمقا. مونسينيور لا يمكنه أن يحلم بيوم أفضل من هذا لرؤية المدينة للمرة الأخيرة قبل أن يرتاح نهائيا على هذه التربة التي اختارها مأوى له.

          - هكذا كان سيدي يشتهي أن يبعثر رماد تربته في كل الأطراف, عله يطفئ النيران المشتعلة في أعماق الناس. منذ أن غادَرْنا هذه الأرض, أنا وهو, في ذلك الفجر, حدثت حالة بياض في الذهن, سرعان ما امتلأت من جديد عندما وجد نفسه في مواجهة الأمير الذي حاوره وأحبه حتى قبل أن يراه.

          كانت خيوط الشمس الأولى قد اتضحت تماما, واختلطت ألوانها بلمعان سطح البحر والنسيم الخفيف الذي تسرب إلى أنفه. تنفس جون موبي عميقا قبل أن يترك نفسه يتهاوى تحت دوخة المكان. أغمض عينيه وترك نفسه يتهاوى ويغرق وسط كتلة الضباب التي غمرت القارب بكامله.

          زادت سكينة الماء أكثر على الرغم من تسارع المجدافين بيد الصياد الذي دفع بقاربه إلى أقصى نقطة في عمق الساحل لوضع الإكليل الأخير. عندما التفت جون إلى الوراء, لم ير شيئا. غاب الميناء والأميرالية التي لم تظهر إلا بعض أعاليها. وانطفأت القصبة ببناياتها البيضاء التي تعودت أن تتسلق الجبل الذي يعطي ظهره للبحر.

          جنح القارب مرة أخرى قليلا نحو اليمين تحت هزات عنيفة للماء, متفاديا كثافة الضباب وصوت السفينة التي لم تمر بعيدة عنهما, لم يرها ولكنه سمعها وهي تقترب من الميناء, تمخر الأمواج وتشق صدر البحر الأملس كمرآة. ثم مرة أخرى عاد الصفاء إلى المكان وعاد الماء إلى وضعه الأول. تدحرج القارب أكثر نحو اليمين, بعيدا عن الأميرالية التي غابت هذه المرة نهائيا وتحولت إلى مجرد ظل هارب نحو فضاء غير محدد, ظلت الأنوار تتكسر عليه بقوة لتدفع به نحو التلاشي. فجأة, يفتح جون عينيه على معالي قلعة ماتيفو التي أطلت بأعناقها المتعددة عاليا عاليا نحو شمس زادها الضباب الكثيف نصاعة وصفاء.

          فجأة توقف المركب وكأنه وجد أخيرا مركز الأرض الذي ظل مدة طويلة يحوم حوله.

          - أعتقد أننا لا نستطيع التوغل أكثر. ممنوع. وإلا صرنا في مرمى البوارج الحربية. حدود الصيد تتوقف عند هذه الحافة. في الأسبوع الماضي سجن أحد الصيادين المالطيين لهذا السبب.

          تمتم الصياد وهو يحاول أن يدور برأس الزورق تجاه قلعة ماتيفو مرة أخرى, صوب أقصى درجات النور الفجري, في أجلى صوره النقية قبل أن يلامس زيوت البواخر الوافدة من بعيد والوجوه المتكلسة التي تملأ الميناء.

          - الآن إذن?

          - نعم الآن.

          انحنى الرجلان عميقا على حافة الزورق الذي مال قليلا على جنبه الأيمن, ثم حملا, كل واحد من جهة, الإكليل الكبير المرصع بالنوار والأقحوان والنباتات الحية ثم انحنيا في وقت واحد ووضعاه على وجه البحر في النقطة التي حدداها أنها الأكثر صفا. تدحرج الأكليل في مكانه قليلا ثم غاب في غمرة النور والضباب.

          - الآن انتهى كل شيء وهدأت الروح قليلا. أشعر بثقل انزاح نهائيا من على صدري. مونسنيور ديبوش يستحق أن نتعب من أجل روحه.

          - الوعد دين.

          - لقد وعدته وهو على فراش الموت أن أفعل ما أفعله اليوم قبل نقل جثماته إلى الجزائر. لم يطلب الشيء الكثير. كم كنت أخاف أن أموت وأن لا أقوم بما يجب القيام به. الوعد على الرقبة صعب. ومع مونسينيور أكثر صعوبة.

          - ها قد منحك الله ما كنت تنتظره.

          - الآن يحق لي أن أصطف مع الناس الذين غادرتهم منذ أكثر من ثلاثين سنة, وأنتظر مع القادمين وصول رفاته إلى هذه الأرض, وإذا منحني مونسينيور بافي بعض بركاته فسأكون من الوفد الذي سيحمل رفاته ويضعها مؤقتا في الأميرية في انتظار الانتهاء من إنجاز القبر في الكاتدرائية.

          - هل كلمت مونسينيور بافي عن الأمر?

          - مباشرة لا, ولكنه يعرف كل شيء, ولم يمانع في أي شيء ما دام ذاك يدخل في وصية مونسينيور ديبوش. لقد بذل مجهودا كبيرا لنقله إلى هذه الأرض.

          كان البحر مثل المرآة. لونه تغير من زرقة حادة في مثل هذا الموسم إلى لون نيلي يميل نحو البنفسجي الغارق في بياض ناصح رغم بياض الفجر. شيء نادر في هذا الصيف. يزداد ثقل الرطوبة. البارحة كان البحر عاصفا ومجنونا على غير عادته في مثل هذا الفصل, اليوم, الوضع تغير كثيرا. الضباب الكثيف والبخار المتصاعد من كل مكان لم يمنعا الزورق من الدخول في عمق البحر.

          تمدد جون موبي في القارب القديم, رأى الأشعة التي كانت قد بدأت تدفئ المكان والنهار الذي أصبحت كل ملامحه واضحة. أخرج كتابا من تحت لباسه الفضفاض الذي يشبه لباس الرهبان وفتحه على الصفحة الأولى وبدأ يقرأ بالتدرج. رأى العنوان الذي كان يرتسم بخطوط عريضة وواضحة جدا:

          عبدالقادر في قصر أمبواز.

          مهدى إلى السيد لويس نابليون بونابرت, رئيس الجمهورية الفرنسية.

          بقلم مونسينيور أنطوان- أدولف ديبوش أسقف الجزائر السابق.

          ثم في أسفل الصفحة كلمة بوردو مكتوبة بخط بارز وتحتها:

          الطبع والليتوغرافيا ل: ح. فاي. شارع سان كاترين. 139. أبريل 1849.

          ورَّقه قليلا بين يديه قبل أن يفتحه على أوراق البداية.

          لا يعرف جون بالضبط ما الداعي لكل هذه التفاصيل, ولكنه أحس أن كل ما كان يلمسه كانت له قيمة ما. ليلة البارحة قضاها في إعادة قراءته. كلما فتحه عرف لماذا اختار مونسينيور أرض الجزائر كمأواه الأخير. عندما قلب الصفحة بانت صورة ليتوغرافية لمونسينيور ديبوش بالحبر الصيني الغامق هي نفسها التي كان يعلقها الأمير في البهو المؤدي إلى الصالون الذي كان يستقبل فيه ضيوفه في سجن قصر أمبواز. يبدو مونسينيور في الليتوغرافيا هادئا وقريبا من مصوره, ينظر نحو أفق غامض بعيدا عما كان يحيط به, بلحيته السوداء المنسدلة على صدره والتي تكاد تغطي الجانب العلوي من الصليب الذي كان يتدلى بارزا من عنقه. اللباس الفضفاض الأسود الذي كان يرتديه أعطاه سمنة غير حقيقية. أما قبضة يده اليمنى التي كانت تنام على ركبته فقد برز على سبابتها خاتم خشن, لم يتركه مونسينيور ديبوش حتى مات. بينما اليد اليسرى, كانت تحتضن الإنجيل وتقبض عليه بلهفة كبيرة مخافة ضياعه.

          قلَّب جون موبي الصفحة الموالية, تمتم وهو يقرأ افتتاحية الكتاب قبل أن يغرق في تفاصيل الخطوط وضباب الكلمات وصراخات مونسينيور ديبوش التي كانت تأتي من بعيد مكتومة وكأنها كانت تأتي من بئر غميقة:

          (أعود للتو من قصر أمبواز, قضيت أياما عديدة تحت سقفه المضياف, في حميمية نادرة مع ألمع سجين عرفه القصر. أعتقد أنني أكثر معرفة من غيري بعبد القادر وأستطيع اليوم أن أشهد بالحق من يكون هذا الرجل. مع الأسف, أثناء عودتي إلى بوردو, صادفت أناسا كثيرين أهلا لكل ثقة, لديهم فكرة غير دقيقة وناقصة عن هذا الرجل مما سيتسبب حتما في تأخير تجلي الحقيقة إلى يوم غير معلوم. وأظن صادقا لو أن كل الفرنسيين عرفوا عبدالقادر مثلما أعرفه اليوم, لأنصفوه في أقرب وقت. لهذا أتصور أنه من واجبي الإنساني أن أفعل شيئا في انتظار القيام بما هو أهم... (كان الضباب قد لف المركبة ولفها مثل الذي يغطي جسدا هشا يخاف عليه الانكسار. ذاكرة جون موبي, على الرغم من مشقة السفر, ازدادت حدة وصفاء وسط كومة غير محدودة من التفاصيل التي تزاحمت دفعة واحدة في رأسه...

          - واسيني الأعرج. مواليد 1954 بضيعة سيدي بوجنان, ولاية تلمسان. جامعي وروائي. يشغل اليوم منصب أستاذ كرسي بجامعتي الجزائر المركزية والسوربون بباريس. يعتبر أحد أهمّ الأصوات الروائية في الوطن العربي.

          - يكتب باللغتين, العربية والفرنسية.

          - على خلاف الجيل التأسيسي الذي سبقه, تنتمي أعمال واسيني الروائية إلى المدرسة الجديدة, التي لا تستقر على شكل واحد بل تبحث دائما عن سبلها التعبيرية في العمل الجاد على اللغة وهز يقينياتها. فاللغة ليست معطى جاهزا ولكنها بحث دائم ومستمر.

          - لم يتوقف عن الكتابة منذ نصه الروائي الأول: البوابة الزرقاء (وقائع من أوجاع رجل غامر صوب البحر) الذي نُشر لأول مرة في دمشق سنة 1981 قبل أن يعاد نشره في الجزائر بعد سنة, وأثار اهتماما نقديا معتبرا. أصدر بعده روايته المعروفة (نوار اللوز) التي تُدرَّس اليوم في العديد من الحلقات العلمية, في الكثير من الجامعات العربية.

          - لكن جدارة واسيني الإبداعية تجلت أكثر في روايته الكبيرة (الليلة السابعة بعد الألف) بجزئيها: (رمل الماية) و(المخطوطة الشرقية) التي حاور فيها ألف ليلة وليلة لا من موقع التاريخ ولكن من هاجس الرغبة في استرداد التقاليد السردية الضائعة.

          - حصل في سنة 2001 على جائزة الرواية الجزائرية.

          - تُرجمت بعض أعماله إلى العديد من اللغات الأجنبية من بينها: الفرنسية, الألمانية, الإيطالية, السويدية, الإنجليزية والإسبانية.

 

واسيني الأعرج   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الرواية





الروائي الجزائري واسيني الأعرج