الوسطية العربية المفتقدة.. اعتدال أم تخاذل?

 الوسطية العربية المفتقدة.. اعتدال أم تخاذل?
        

  • طوال التاريخ العربي لم يعرف الحكم المطلق أي نوع من التوسط بين السلطان والرعية
  • قد تفيد الوسطية في صراعاتنا الداخلية.. ولكن ماذا عن التحديات الخارجية التي تواجهنا?
  • في صراع أبناء الوطن لا يوجد منتصر. فالجميع يتجرعون في النهاية مرارة الهزيمة

          بالرغم من أن الوسطية تعني تلك المساحة التي تقع بشكل متساوٍ بين كل أنواع المبالغات إلا أننا كعرب نبالغ حين نناقشها, ولا نتوسط حين نعدد فضائلها. فهل نحن حقا في حاجة إلى الاعتدال والتفكير بروية.

          تبدو كلمة (الوسطية) على بساطتها ملتبسة تبعًا لاختلاف القائلين بها والمواقف التي تتردد أثناءها, فهي لا تحمل معنى مباشرًا, بقدر ما يحيط بهذا المعنى من ظلال. فبعضهم يضعها بديلاً للاعتدال أو التوازن, والتواضع والاستقامة, وبعضهم الآخر يراها نهجًا للحياة, وأسلوبًا في ممارسة السياسة, وحلاً مثاليًا لمشكلات الحكم العربي العسيرة الحل. وأجد نفسي متحفظًا على كل هذه المعاني, فهي لا تصف الوسطية, بقدر ما تستبدل بها كلمات وتعبيرات أخرى تخص أهداف من يرددونها في مواقف بعينها ويتناسونها في مواقف أخرى.

          أقول هذا بمناسبة الندوة التي شاركت فيها في شهر فبراير الماضي, والتي عقدها منتدى الفكر العربي في مملكة البحرين, تحت عنوان (الوسطية بين التنظير والتطبيق), وكان هدف ندوتنا هذه بالتحديد هو الخروج من الإطار النظري للوسطية للتركيز على الجانب التطبيقي, أو لاستراتيجيات العمل الخاصة بها, وهو الأمر الذي لم يتحقق أيضًا في هذه الندوة, لأن الإطار النظري ظل مسيطرا, وربما يعود ذلك إلى أن هذا المفهوم لم تتم بلورته في خطابنا السياسي, بعد بشكل دقيق.

          إن الدافع الأساس وراء طرح هذا الموضوع هو تلك الهجمة الشرسة ضدنا كعرب وكمسلمين, التي مازالت متواصلة منذ سنوات, متهمة إيانا بالتطرف والحث على الإرهاب. وقد أصابت هذه الهجمة طريقة تفكيرنا, وأسلوب حياتنا, وجعلتنا نتحرك بمنطق رد الفعل ونتخذ موقف المدافع والمتراجع أحيانًا بسبب تجاوزات يرتكبها بعض الغلاة المنفلتين المحسوبين على العروبة والإسلام برغم أن الإسلام الحق والعروبة العاقلة هما أبعد ما يكون عن التجاوزات. من أجل ذلك كان تركيز الندوة على إبراز إحدى الصفات الأساسية للإسلام, وتأكيد أنه دين الوسطية, بلا إفراط ولا تفريط, ولا غلو ولا مغالاة. لكن الوسطية وفق هذا المفهوم تقع وسط العديد من المعاني المتناقضة, فهي نقطة غير مرئية بين التطرف والاعتدال, والنصر والهزيمة, والظلم والعدل, إنها تفصل بين ما هو مسموح به, وما هو غير مسموح. وهي في هذه الحالة تحمل شيئًا من الصفتين المتعارضتين ولكن بقدر ضئيل, فهي ليست العدل المطلق, ولكنها جزء منه مع قليل من الظلم المقبول إحتماله, وهي ليست الحق الخالص, ولكنها جانب منه مع شوائب من الباطل الممكن التغاضي عنه. فهل يصلح هذا الأمر منطلقًا للحياة, وهل يصلح هذا التعبير بتأويلاته الحالية وعاء نضع فيه كل الفضائل التي نسعى إليها.

          إننا أمة وسطية كما يقول كثير من فقهائنا ومفكرينا, وهم يستدلون على ذلك بالآية القرآنية الكريمة التي تقول: {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا..}, وكلمة وسط هنا هي وصف لم يسبق للقرآن الكريم أن أطلقه على أي أمة من الأمم - حسب تأكيد د. وجيهة صادق البحارنة - فلم يحدث تاريخيًا أن ادعته أمة من الأمم, حتى نحيل إليه هذا الاستعمال القرآني. بل هو وصف بكر, جاء سمة في الخاتمة, ولعل هذا هو مصدر الحيرة في تفسيره.

          وقد وجدت نفسي على هامش هذه الندوة أفكر في معاني هذه الآية الكريمة, وفي الظلال التاريخية لها, هل الأمة الوسطى هنا تعني اصطلاحا جغرافيًا يدل على موقع الأمة العربية, بين الشرق والغرب? أي بين الروم والفرس! ولكن الأمة الإسلامية ليست عربًا فقط, بل كانت خليطا من أجناس وأنواع بشرية متنوعة, وهذا هو سر قوتها, أم أنه تعبير ديني يعني أن الإسلام يقع بين المسيحية واليهودية? أم هو مصطلح أخلاقي يعني أننا أمة عادلة - كما حاول بعض المفسرين أن يفسروا  الوسط بأنه العدل - لا تحمل في أعماقها طغيان الأمم السابقة وتجبرها? أم أنه مصطلح إيماني يدل على إيماننا بكل ما سبق من أنبياء, وما أنزل علينا من عقائد?! فنحن لا ننكر أيّا من الأديان الكتابية القديمة, بالرغم من إيماننا وتمسكنا بما أنزل على نبينا. أم أنها مثل العديد من آيات القرآن تختزن في باطنها معاني أخرى عدة لم نتوصل إليها بعد?

          من المؤكد أن لمعناها صلة وثيقة بالسياق العام للآيات المكملة لها, وهي تدور حول تحول (القبلة) التي كان النبي الكريم يتوجه إليها أثناء الصلاة من بيت المقدس شمالا, إلى (قبلة) أخرى هي بيت الله الحرام في وسط مكة, فالسياق العام إذن هو تحول في المكان, والمفهوم الأقرب للوسط هو المفهوم الجغرافي من أي معنى آخر, وإن كانت دلالة الآية يمكن أن تمتد لتشمل العديد من المعاني الرامية إلى الرفق في القول والفعل والطمأنينة في اختيار الحق والخير.

          ويلاحظ أنه كثيرا ما تم تفريغ هذه الآية من سياقها التاريخي لكي تأخذ دلالات معاصرة, فقد استخدمت كمفهوم سياسي للدلالة على الحياد الإيجابي بين المعسكرين الشرقي والغربي. واستخدمت اقتصاديًا كمرادف للاشتراكية التي تقع بين الرأسمالية والشيوعية. واستخدمت أيضًا فكريًا كنقطة فاصلة بين اليسار واليمين. وها هي تتبدل الآن وترتدي مسوحًا جديدة كي تقع بديلاً للتطرف والمغالاة, دون الوصول إلى حافة الاستسلام.

وسطية ضائعة

          بالرغم من أننا أمة وسطية ـ كما أصر كثير من المتحدثين في الندوة ـ فإننا ـ حسب رأيي ـ قد افتقدنا هذه الوسطية في الكثير من مراحل تاريخنا. وإذا استثنينا من هذا التاريخ فترة الخلفاء الراشدين ـ  وهي أيضًا لم تخل من الاضطراب ـ فإن الحكم المطلق الذي لا يعترف بأي توسط, هو السمة الغالبة على كل الذين حكموا عالمنا العربي والإسلامي, فالخلفاء المتتابعون قد حكموا بادعاء تفويض إلهي لا يعرف النقض, يؤازرهم في ذلك طبقة من الفقهاء الموالين للسلطة, الذين سوغوا لهم كل باطل, وشرعوا لهم كل محرم. وقد أضعف هذا من توازن الميزان بين طرفي السلطة, أي بين السلطان والرعية. وقد كانت كفة الميزان تميل دومًا لمصلحة الطرف الأول, تعززه في ذلك أسانيد استمدها من التفسير الخاطئ للدين. ولعلنا نلمح في ذلك بعدًا تاريخيًا لنشوء التطرف, برغم أنه يظل مرفوضًا بمسبباته ونتائجه الكارثية على الجميع, وقد يكون الخوارج هم أول حركة دينية وسياسية معارضة ومنظمة في التاريخ الإسلامي, وكان تطرفهم ومغالاتهم هما رد فعل مغاليًا لاستئثار فئة من الحكام بالسلطة المطلقة. ولعل أبرز الإيجابيات في فكرهم هو أن لكل مسلم الحق في أن يكون خليفة, سواء كان أبيض أو أسود رجلاً كان أو امرأة, وشرط ذلك هو أن يكون عادلاً ومستقيمًا في أحكامه لكن هذه الإيجابية قتلتها ممارسات العنف والغلو لديهم في دعوتهم.

          من جانب آخر, قامت الدولة الأموية بأول عملية فصل بين الدين والسياسة, وطاردت كل من يحاول الخروج عليها حتى لو كان من نسل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو من نسل صحابته, وكانوا أول من استخدم الفقهاء لتأويل الأحاديث النبوية وتفسيرها لدعم استيلائهم على السلطة وتكفير كل من يحاول الخروج عليهم.

          ومن المؤكد أن فترة بني أمية كانت من الفترات المزدهرة في التاريخ الإسلامي, فقد حفلت بالانتصارات والفتوحات وإقامة الكيان القوي للأمة الإسلامية ودولتها العظيمة, ولكنها أيضًا تعرضت لكثير من القلاقل في الداخل, وقد تصدت لها بكل قوة. ولعلنا جميعًا نذكر كلمات أبي ذر الغفاري ـ ذلك الصوت الصارخ في البرية ـ الذي كان يريد أن يعود بالإسلام إلى أصوله الأولى متمثلة في حماية الفقير, وإحلال العدل بين كل المسلمين, بغض النظر عن قبائلهم أو أعراقهم, ولكنه كان صوتًا وحيدًا وأعزل أمام سلطة مطلقة.

          وبرغم أن الدولة العباسية قامت على أنقاض الدولة الأموية وزعمت نهجًا مغايرًا لنهج الأمويين, إلا إنها كررت سيرة الأولى في الحكم المطلق ومطاردة من يختلفون معها, رافعة هذه المرة شعار الحكم باسم التفويض الإلهي.

          ولقد تفتتت الدولة العباسية, وتبعتها الدولة الفاطمية, وجاء الفرنجة حاملين شعار الصليب الكاذب, وتبعهم المغول والتتار, وتغيرت أسماء الدول, واختلفت أسماء الملوك والسلاطين, ولكن سمة الحكم المطلق لم تتغير, ولم تختف الفتن والصراعات, دون الوصول إلى نقطة وسطية يعقد فيها الفرقاء - وأعني بهم السلطة والرعية - أي نوع من التفاهم أو التلاقي. لم نشهد في تاريخنا ذلك (العقد الاجتماعي) الذي يحدد العلاقة بين الحاكم والمحكوم, كما حدث في الحضارة الغربية, ولم نقرأ عن (روح القوانين) لأي من فقهائنا, وكان الحكام يطلقون على من يخالفهم (الفرقة الرافضة), وكان الأخيرون يطلقون على أنفسهم (الفرقة الناجية) وهو فراق حاد ومدمر امتد بعد ذلك ووجد تعبيرًا له في موقف المجموعات المتطرفة التي استأثرت بكونها الفرقة الناجية وكفّرت, وشرَّكت من عداها, حكامًا كانوا أم محكومين, ولم تكن هناك أي وسطية بين الرفض والنجاة.

          ولابد لنا من الاعتراف بأن الحكم المطلق لم يكن هو وحده السبب المباشر في هذا الأمر, بل إن العبء يقع أيضًا على المثقفين التقليديين الذين كانوا يملكون الفكر والمعرفة والرؤية الدينية من أجل توجيه هؤلاء الحكام, فالفقهاء الذين امتلكوا ناصية المعرفة, وأهلتهم قدرتهم العقلية للارتقاء عن جذورهم الشعبية, نسوا جذورهم هذه وتحولوا إلى أتباع ولم يتورعوا عن لي أعناق آيات القرآن والأحاديث النبوية من أجل تبرير ما يطلب منهم تبريره.

صراع الداخل والخارج

          يرى د. حسن حنفي في ورقته المقدمة للندوة أن الوسطية مفيدة في الصراعات الداخلية بين أبناء الوطن الواحد, لأنها تمهد السبيل أمام الحوار والتفاهم المتبادل. ولكنها ليست مفيدة ولا مجدية في مواجهة العدو الخارجي.

          والصراعات العربية المعاصرة كانت بالفعل في أمس الحاجة إلى ممارسة تقنية الوسطية قبل اللجوء إلى تقنية استخدام السلاح. فغياب الحوار بين أطراف السلطة في عالمنا العربي, هو الامتداد التاريخي لأسلوب الحكم المطلق. وربما كان العراق هو النموذج العربي الأمثل لغلو الدولة واستعلاء النظام وعدم إقامته أي نوع من الحوار بين مواطنيه من جهة, والعالم الخارجي من جهة أخرى. فقد اختار النظام العراقي السابق أسلوبا وحيدا هو القمع, ضد مواطنيه الذين أرهبهم بسجونه ومخابراته على مدى ثلاثين عامًا, وضد جيرانه الذين مارس عليهم عدوانًا مباشرًا ومسلحًا. وفي الوقت الذي كان يلبس فيه نداء القومية العربية والجهاد ضد إسرائيل, وجه أسلحته إلى صدور جيرانه المسلمين في إيران وأشقائه العرب في الكويت, وكانت النتيجة هي ذلك التدخل الأجنبي على أرض الواقع. وحتى بعد ما حدث أخيرًا واكتمال فصول المأساة, فإن الحوار مازال مفتقدًا بين أبناء الشعب العراقي, ومازالت الانفجارات اليومية تعمق جراح الانفصال بين الطوائف والأعراق التي كان يضمها هذا الوطن.

          في صراع أبناء الوطن الواحد من المستحيل أن يكون هناك منتصر, فالجميع يتجرعون في النهاية مرارة الهزيمة, وقد عشنا مرحلة الخلافات العربية - العربية, وكانت مرحلة مريرة, والحروب التي خضناها فيها, والأسلحة التي دمرت, والقتلى الذين سقطوا كانوا أكثر من قتلانا في حروبنا مع إسرائيل. وبالرغم من أننا كدول عربية نتحدث باللسان نفسه, فإننا عجزنا عن التحاور بالكلمات وفضلنا لغة الأسلحة المشرعة.

          إن الوسطية المطلوبة هنا هي خلق فرصة للحوار المفقود, فعلى معظم السلطات العربية الحاكمة أن تتنازل قليلاً عن بعض من سلطاتها المطلقة, وعلى الفئة الخارجة عليها أن تتنازل أيضًا عن مطالبها المبالغ فيها, حتى يلتقيا معاً حول اتفاق وسط, إنه اتفاق (اكسب - اكسب) كما يخبرنا المتخصصون في علم الإدارة. وليس اتفاق (اخسر - اخسر), كما تصر عليه بعض الأنظمة.

          ولكن أسلوب الوسطية ليس بالجودة نفسها حينما يطبق أمام العدو الخارجي, فهو هنا دعوة للتخاذل والاستسلام, وفي القضية الفلسطينية على سبيل المثال تمارس إسرائيل أقصى درجات القهر والإذلال ضد أصحاب الأرض من الفلسطينيين. وتشن الآلة العسكرية الإسرائيلية نوعًا من حرب الإبادة ضد المواطنين العزل فتقتل أطفالهم وتهدم بيوتهم وتقلع أشجار زيتونهم. مع ذلك, فهناك مَن يطالب الفلسطينيين بالاعتدال, أي السكوت والقبول بما يحدث لهم ويوجه كل آليات الضغط على التنظيمات الفلسطينية دون الحصول لهم على أي ضمان من إسرائيل بأنها سوف تتخلى عن أساليبها القمعية.

          لا يمكن أن نتحدث عن الوسطية هنا, ونحن نواجه هذا الصراع المصيري, لأن الطرف الآخر في تطرفه وإيغاله في الظلم لا يترك مجالاً لأي توسط.

          ولكن يبقى السؤال: هل الوسطية مجدية عند الحاجة الماسّة إلى التغيير والإصلاح السياسي والاقتصادي? هل هي مجدية إزاء تلك الحال التي يعيشها عالمنا العربي بمختلف أنظمته?. إن هناك إحساسًا عامًا لدى العامة, ولدى النخب المثقفة بأن الأمور لا يمكن أن تستمر على هذا المنوال, وأن الوعود والإصلاحات الطفيفة لم تعد مجدية, وأننا جميعًا على أبواب تغيرات جذرية يمكن أن تشمل كل البنى التقليدية. وعلى الرغم من أن بعض الأنظمة العربية استجابت لرياح التغيير هذه استجابة طفيفة, ولم يستجب بعضها الآخر, فهل تفيد الوسطية هنا? أم أن التغيير سيكون شاملاً وأكثر عنفًا مما يتوقع الجميع?

الدور المفقود

          هل تملك الطبقة الوسطى العربية حلا لهذا المأزق الذي نعيش فيه?

          في أحد أبحاثه للندوة يشير د. الطيب تزيني إلى المأزق الذي تعيشه الطبقة الوسطى العربية, باعتبارها هي الممثلة (للوسطية) بين طبقات المجتمع, وهي التي تعيش المأزق العربي الحالي بكل صوره.

          فهذه الطبقة التي توصف دائمًا بأنها صانعة الثقافة والسياسة, بحكم قدرتها على إقامة المؤسسات الثقافية والسياسية, عبر أقنية وأطراف أخرى تتحدر من أعلى المجتمع, كانت تقوم بهذا الدور لأنها فئات ميسورة اقتصاديًا ومستنيرة عقليًا وفاعلة اقتصاديًا. ولكن التدهور الذي أصاب المجتمعات العربية قد أصاب طبقاته الوسطى في الصميم. وقد تعرضت تلك الفئات إلى عملية من الإفقار الاقتصادي والإذلال السياسي والإقصاء الثقافي, وأفضى كل ذلك إلى ترك آثار خطيرة على السياسة والاقتصاد والتعليم.

          وفي اعتقادي أن تهميش الطبقة الوسطى قد جعلنا نرتد عن المكاسب التي حققتها هذه الطبقة في مجتمعنا العربي. فقد كانت هذه الطبقة هي التي آمنت بتحرير المرأة وحقها في التعليم والعمل والمشاركة السياسية. وهذه الردة تتجلى بعض مظاهرها في تلك الصيحات التي تنادي بعودة المرأة إلى المنزل, وحرمانها من أي مشاركة في الحياة العامة, إضافة إلى حصار المؤسسات السياسية, التي أقامتها الطبقة الوسطى وتفريغها من جدواها. وبذلك لم تجد الأجيال الجديدة من الشباب العربي إزاء خواء هذه المؤسسات بدًا من اللجوء إلى الرفض المتطرف وبأشكال مختلفة. ومع انهيار الطبقة الوسطى, انهارت درجة قبولنا للآخر, ومعرفة الفكر الذي يمثله, وبذلك غرقنا في مد جديد من التطرّف الفكري لم نفق منه حتى الآن.

          وكما قلت في البداية, فإنها كلمة شديدة المراوغة, قد تعني التعقّل والاعتدال, وقد تعني التخاذل والاستسلام. ولكن من المؤكد أننا في حاجة إليها لنتحاور, من أجل إقرار صوت العقل وإحقاق الحق. وإذا زالت كل هذه المظالم التي تواجهنا, فسوف نكون أسعد الناس بصفة الأمة الوسطى.

 

سليمان إبراهيم العسكري   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات