الحنين إلى الأوطان يوسف القعيد

المؤلف: محمد بن سهل البغدادي
كلما تجدد الحديث عن الأوطان، وطني أو أوطان الأشقاء، أو أوطان الآخرين، يصبح هذا الكتاب بمثابة الملاذ لي، أعود إليه، أستنجد بصفحاته القليلة، أستصرخ كلماته الموجعة، يصل بي الأمر إلى حد الرغبة في البكاء.

الوطن ليس هو وطنك فقط، ليس مسقط رأسك، أو المكان الذي يعيش فيه أهلك، أو الموضع الذي تجد فيه الرزق، تلك " شوفينية " ضيقة الأفق، من لا يشعر بأوطان الآخرين، يكون حسه قد تبلد، ومن يشعر بأوطان الآخرين، تكون علاقته بالوطن عموماً ذات طابع يقترب من حدود الشعر.

الوطن العربي كله الآن في مهب الريح، نعرف أمسه، وندرك يومه، ولكن يبدو لي- في هذه الأيام العصيبة- أن مستقبله يقف وراءه، الوطن الكبير في خطر، لذلك لابد أن تكون الأوطان الصغرى في خطر أشد، ولذلك عدت على الفور إلى كتاب الأوطان.

مؤلف الكتاب هو أبومنصور محمد بن سهل بن المرزباني الكرخي البغدادي، يقال عنه إنه من علماء القرن الرابع الهجري، أحد آئمة الأدب والبلاغة البارعين وأحد الفصحاء البلغاء.

غرباء عن الوطن

تقول مقدمة محقق الكتاب إنه ولد في بغداد وعاش فيها في النصف الثاني من القرن الثالث والثلث الأول من القرن الرابع، وتعتبر هذه الفترة من أزهى الفترات التي عاشتها الحضارة العربية.

ويبدو أن صاحب هذا الكتاب قد آثر الابتعاد في خدمة الخلفاء ودواوين الدولة، وكتابه هذا ليس عملاً فريداً في بابه، فالتراث العربى مليء بكتب أخرى عن الحنين للوطن، يذكر المحقق في مقدمته المختصرة والمفيدة منها: " حنين الإبل إلى الأوطان " لربيعة البصري، " حب الوطن " لعمرو بن بحر، لا الشوق إلى الأوطان" لأبي حاتم سهل بن محمد السجستاني، "حب الأوطان " لأبى الفضل بن أبي طاهر، " الحنين إلى الأوطان " لموسى بن عيسى الكسروي، " الحنين إلى الأوطان " لأبي الطيب محمد بن أحمد بن إسحق الوشاء، " الحنين إلى الأوطان " للحسن بن عبد الرحمن ابن خلاد الرامهزي، " أدب الغرباء " لأبي الفرج علي ابن الحسن الأصفهاني، " الحنين إلى الأوطان " لأبي حيان علي بن محمد بن العباس التوحيدي، " النزوع إلى الأوطان " لأبي سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور ابن السمعاني.

ولكن يبدو أن المحن التي مرت بها أمة العرب- وهي كثيرة- تسببت في ضياع الكثير من هذه المؤلفات، ولم يبق منها سوى القليل، علاوة على فصول كثيرة متناثرة هنا وهناك من كتب التراث الأخرى، تتحدث كلها عن الأوطان.

محقق الكتاب هو الدكتور جليل العطية، وقد سألت عنه وعرفت عنه أنه يعيش في باريس، وفي آخر الكتاب ثبت بسبعة كتب أخرى حققها من التراث العربي.

ومحقق الكتاب المنشور عن عالم الكتاب في بيروت يهديه إلى: كل عربي اضطر للاغتراب طلباً للعلم أو التماسا للرزق، أو فراراً، من الطغيان.

وقد فاته أن يهدي الكتاب أيضا إلى كل من سلب منه وطنه، إلى كل من أجبرته قوة احتلال غاشمة على ترك الوطن لبعض أو كل الوقت، لأن تلك حالة أخرى من حالات الهجرة القسرية عن الوطن، وهي حالة هجرة جماعية أكثر قسوة من الهجرة الفردية.

قرأت الكتاب لأول مرة وأنا مشغول بالذين هاجروا من مصر، بسبب المعتقد أو الخلاف المشروع في الرأي، أو سبل البحث عن الرزق.

كنت مشغولاً بالأثر الاجتماعي الذي تركه غيابهم عن مصر، ولكني اكتشفت فيه أيضا مستوى أدبياً راقياً، يرتفع فوق اللحظة والظروف الراهنة، وأن ما فيه من شجن يرشحه لأن يصبح واحداً من الآثار المهمة. في مجال الارتباط بالوطن.

حب الوطن

الباب الأول من الكتاب عنوانه: " ما جاء في حب الوطن "، وهو يبدأ بالقرآن الكريم، قال تبارك وتعالى في سورة " النساء " ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم، وهكذا قرن الحق الجلاء عن الوطن بالقتل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: الخروج من الوطن عقوبة ، وكان يقال: " بحب الأوطان عمرت البلدان "، " والحنين من رقة القلب ورقة القلب من الرعاية والرعاية من الرحمة، والرحمة من كرم الفطرة، وكرم الفطرة من طهارة الرشد ".

وقال جالينوس: يتروح العليل بنسيم أرضه، كما تتروح الأرض الجدبة ببل القطر، وقال أبوقراط: يداوى العليل بحشائش أرضه، فإن الطبيعة تنزع إلى غذائها، وأنشد الطائي:

كم منزل في الأرض يألفه الفتى

وحنينه أبداً لأول منزل

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى

ما الحب إلا للحبيب الأول

والباب الثالث من الكتاب العذب عنوانه: " من اختار الوطن على الثروة "، قال بعض الأدباء: عسرك في بلدك، خير من يسرك في غربتك، وقال رجل لابنه: اخرج إلى الهند في تجارة فأبى، وقال: لا متصرف في الطلب خوف العطب، بل الحاجة أشد من الإعواز، والحاجة في عز الأمن خير من الغنى في ذل الخوف.

وقيل لأعرابي: ما الغبطة؟، قال: الكفاية مع لزوم الأوطان والجلوس مع الإخوان.

قيل: فما الذلة؟، قال: التنقل في البلدان والتنحي عن الأوطان.

المال أو الوطن

والباب الرابع عنوانه: " من اختار الثروة على الوطن "، قال أبوتمام حبيب بن أوس الطائي:

فأوبة مشتاق بغير دراهم

إلى أهله من أعظم الحدثان

وقال علي بن عبيدة:

الإكثار: وطن الغريب، والعسر: غربة الوطن وقال آخر:

الفقر في أوطاننا غربة

والمال في الغربة أوطان

والأرض شيء كله واحد

ويخلف الجيران جيران

وأنشد آخر:

لعمرك ما الغريب بعيد دار

عن الأهلين وهو جميل حال

ولكن الغريب قريب دار

من الأهلين وهو قليل مال

والباب الخامس من الكتاب عنوانه: " ذل الغربة".

ذقال بعض الأدباء: الغربة ذلة، فإن أردفتها قلة، وأعقبتها علة، فهي نفس مضمحلة.

ذوقال آخر: الغربة كربة والكربة ذلة والذلة قلة.

ذوقالت العرب: لا تنهض عن وكرك. فتنقصك الغربة وتضيمك الوحدة.

ذوشبهت الحكماء الغريب باليتيم الذي ثكل أبويه، فلا أم ترأف به ولا أب يحدب عليه.

وقال بعض الأعراب: إذا كنت في غير أهلك فلا تنس نصيبك من الذل.

وكان يقال: الجالي عن مسقط رأسه كالعير الناشز عن موضعه، الذي هو لكل سبع فريسة، ولكل كلب قنيصة ولكل رام رمية.

وكان يقال: المغترب عن وطنه ومحل رضاعه كالعير الذي زايل أرضه وفقد سربه، فهو زاو لا يثمر وذابل لا ينضر .

وقال الشاعر:

إن الغريب له استكانة مذنب

وخضوع مديون وذل غريب

فإذا تكلم في المجالس مبرم

وإذا أصاب يقال غير مصيب

فإذا الغريب رأيته متحيراً

فارحم تحيره لفقد حبيب

الحمام يهيج الأحزان

الباب السادس مخصص لما قيل في نوح الحمام، مر بشار الأعمى بباب الطاق فسمع صياح قمرية، فقال لغلامه: انطلق، فإن وجدت هذه القمرية بجناحها فاشترها ولو بوزنها ذهباً، فوجدها بجناحها فاشتراها بثلاثة دنانير، فلمسها بيده ثم قال:

ناحت مطوقة بباب الطاق

فجرت سوابق دمعك المهراق

طربت إلى أرض الحجاز بحرقة

فشجت فؤاد الهائم المشتاق

وقال آخر:

أحقا ياحمامة بطن واد

بهذا الوجد إنك تصدقينا

غلبتك بالبكاء لأن شوقي

أكاتمه وشوقك تغلبينا

يقول مؤلف الكتاب: أخبرني من سمع أعرابيا يقول: إذا ترنمت هتوف الضحى بين الغصون أدت الشجون مياهها إلى العيون، فمن ذاد عن البكاء عينا أورث قلبه حزنا.

الباب السابع عنوانه: من تداولته الغربة.

قال أبوتمام حبيب بن أوس الطائي:

ما اليوم أول توديعي ولا الثاني

البين هيج لي شوقي وأحزاني

دع الفراق فإن الدهر ساعده

فصار أولع من روحي بجسماني

وقال آخر:

ومتى نساعد بالوصال ودهرنا

يومان يوم نوى ويوم صدود

وقال آخر:

حتى متى أنا في حل وترحال

وطول هم بإدبار وإقبال

أكابد الدهر، لا أنفك مغتربا

عن الأحبة لا يدرون ما حالي

في مشرق الأرض طوراً ثم مغربها

لا يخرج الموت من ذكرى على بالي

الباب الثامن من الكتاب عنوانه: من جسمه بأرض وقلبه بأخرى، والباب التاسع وصف الوطن بالطيب والنزهة، والباب العاشر ما قيل في الأشجار والضياء والبروق وغير ذلك، والباب الحادي عشر ما قيل في حنين الإبل، والباب الثاني عشر في المساءلة عن الحنين.

ماذا عن الكتاب الموسوعيين؟

والكتاب كله يقوم على التجميع والتوثيق، وكتابة كل ما تم جمعه في سياق جديد، وكل حضارة في أمس الحاجة إلى مثل هذه الكتابات التي توقفت تماماً في زماننا هذا.

فلدينا الآن دوائر المعارف والقواميس، وهي صفحات صماء، تقدم حقائق جامدة ومعلومات لا روح لها، وكلمات عاجزة عن التحليق.

أيضاً، فقد كان طه حسين، وعباس محمود العقاد ولويس عوض في مصر، آخر الكتاب الموسوعيين ، كان كل واحد منهم يشكل جزءا من ذاكرة العالم، بشكل أو بآخر، وبعدهم رسونا جميعاً على شاطئ الكاتب المتخصص، وكأن فعل الكتابة مثل الطب والصيدلة والصناعة وعلم الكمبيوتر.

والكاتب المتخصص لابد أن يكون كاتبا مقلاً، لا يخرج على دائرة تخصصه أبدا، وإن حدث أن جرت يده بسهولة مع الكتابة، أو فكر في الخروج على أرض التخصص في الكتابة رفعت كل نباتات الظل من الكتبة- وما أكثرهم في كل زمان ومكان- أصابع الاتهام في وجهه، وتكون التهمة هي: الإسهال الكتابي.

لا مفر أمامنا سوى العودة إلى كتب الماضي القديم بشرط أن نختار منها الصفحات المضيئة، وأن نضع صفحات الظلام في أقبية وسراديب تاريخنا الفكري، فتكفينا مواجهة مشروعات الظلام المعاصرة لنا، ويجب ألا نضيف إلى ظلام الحاضر ظلمات الماضي أبداً.

ولكن لا مفر أيضاً من أن يقوم بعض الكتاب المعاصرين بهذه المهمة، حتى تكون لدينا نحن أيضاً كتبنا المؤلفة في هذا الاتجاه، وإلا فسنبقى إلى الأبد- أو حتى إشعار آخر- مثل التاجر الذي أفلس حاضره، فعاد على الفور إلى دفاتره القديمة، لعل وعسى!