الرسالة (قصة مترجمة)

الرسالة (قصة مترجمة)

كنت أنتظر رسالة. لم يكتب لي أيّ كان رسالة. لم أكن أملك أي شخص مقرّب، لا هنا، ولا في الوطن، ولا في أي بقعة في العالم. كنت شخصًا مسنًا وحيدًا.

وليكن، قلت في نفسي غير مرة، فمن غير الممكن، أن يمتلك الجميع أشخاصًا مقربين، هذا أمر طبيعي، ثم إن الناس الوحيدين ضروريون أيضًا كي يفهم الآخرون كم هي الوحدة أمر مرعب، ويحاولوا حماية أنفسهم منها.

ولكنني بالرغم من ذلك كنت أنتظر رسالة. كنت أعرف أنها لن تصل أبدًا، ومع ذلك كان يبدو لي، أنه من غير المعقول ألا يجد أحد الأحياء في العالم رغبة في نفسه كي يكتب إلي رسالة. حتى الناس الأكثر تعاسة، لا يؤمنون بتعاستهم المطلقة، لابد لهم من ثغرة يتنفسون من خلالها، وأعتقد أن هذا ينطبق علينا أيضًا، نحن الوحيدين، فدائمًا لدينا نافذة صغيرة نطل منها على أحدهم. لقد انتظرت تلك الرسالة.

كانت البناية، التي أحتل فيها غرفة صغيرة مضحكة، من أقدم البنايات في ضواحي مدينتنا، جدرانها مسودة، وأدراجها مهترئة، ومدخلها مخضر نتيجة الرطوبة. كان اليافعون يربون الحمام على سطحها، والأولاد الأصغر يتراكضون في الفناء ويلعبون - منذ أبعد مدى تصل إليه ذاكرتي - اللعبة نفسها دائمًا (عسكر وحرامي)، أما البنات الصغيرات فكنّ يقفزن فوق الحبل، ويلعبن لعبة (جنة ونار). في الصيف، كانت القطط السمينة تغفو تحت الشمس، ويعبق المكان برائحة الملفوف والملابس الداخلية الرطبة. ومن وقت لآخر، كان البواب يأخذ بالعزف على الأكورديون، فيتراكض الأطفال عندها ويراقبون، وهم يحيطون به، كيف ينقل أصابعه السمينة، بمهارة، فوق الأزرار، ويطلّ منجّد الأثاث الأصلع من إحدى النوافذ ويرجوه: «اعزف (كلاريسا) يا فرانتشيشك»، عندها يلقي البواب إليه نظرة مفعمة بتأمل عذب، ثم يعزف ذلك التانغو الحزين الغريب.

كان ساعي البريد، السيد غووينبيوفسكي يظهر في حوالي الثانية عشرة، الوقت الذي يتعالى فيه غناء الطباخات، ويتم فيه تنظيف جميع السجادات، وتتدفق رائحة الطعام من كل النوافذ. كنت أراه من بعيد وهو يقترب على دراجته الخربة، يقبض بيد على المقود وبالأخرى يخرج رسالة من حقيبته الهائلة، فينزل الجميع عندها إلى الفناء، لأن ساعي البريد، مثلي رجل مسن ومن الصعب عليه تسلق تلك الأدراج شديدة الانحدار، حينها كان يضع النظارة على أنفه ويبدأ بقراءة الأسماء. يتسلم الجميع رسائلهم ويبتعدون. اسأل عندها:

«أما من شيء لي؟».

«لا، لا يوجد شيء للسيد اليوم، ربما غدًا سيكون».

«فلتلق أيها السيد نظرة أخرى، أنت تعلم يا سيدي كيف هي الأمور، أحيانًا ينسى المرء، يخيل إليه أحيانًا أنه لم يعد لديه شيء، وبعد ذلك ينتبه إلى أن شيئًا ما قد تبقى، صدقني أيها السيد، إن ذلك يحدث بالفعل، أرجوك انظر مرة أخرى».

يدخل ساعي البريد يده في الحقيبة، ولكن وجهه ينم عن شك لا حدود له، يبحث طويلاً ثم يقول: «لا، لا يوجد رسائل لك يا سيدي اليوم، ربما غدًا سيكون، هل ستنتظر أيها السيد؟».

«أجل، سأنتظر، طبعًا سأنتظر، فمن المفروض أن يكتب لي أحدهم، لكنه يسكن بعيدًا. تعلم يا سيدي، عندما يسكن الإنسان بعيدًا...».

«طبعًا»، يقول ساعي البريد «أقاربي يسكنون بعيدًا من هنا، ياه، هل يمكنك أن تتصور يا سيدي كم هو المكان بعيد. لا حيلة، لابد لك من الانتظار. ربما تصل الرسالة غدًا».

«سأنتظر، ستصل تلك الرسالة بالتأكيد، وراقب البريد جيدًا يا سيدي».

كنت أرى ساعي البريد كل يوم، كنت أراه كل يوم ولأعوام طويلة. في الصيف، كان يأتي متعرقًا، يلهث مثل عربة قيادة القطار، وفي الشتاء، يتصلب شارباه الجميلان من الجماد، وفي الخريف، يأتي حزينًا ومنزعجًا، ومبللاً، على دراجته التي تلطخت بالطين بشكل مرعب، وتكاثرت عليها بقع الصدأ، أما في الربيع، فقد كان، على ما أعتقد، أول شخص في مدينتنا يفتح أزرار قميصه، فكنت أرى حينها شعره الكثيف الأشيب على صدره الصلب.

جاء الربيع مرّات عدة، افتتح صبي الإسكافي ورشته الخاصة وتزوج، وكنت أسمعه، من مسافة عشرة فناءات، وهو يشتم بصوت جهوري مساعده. التحق الأولاد، الذين كانوا يلعبون هنا يومًا ما لعبة (عسكر وحرامي)، بالجيش ومن هناك صاروا يبعثون برسائل قصيرة فارغة المضمون إلى البنات اللواتي كن يقفزن يومًا ما فوق الحبل الملون وأصبحن الآن طويلات، يخرجن بتنانير مورّدة، وببرودة يجبن أمهاتهن بأنهن لم يسألنهن عن رأيهن بخصوص زواج المستقبل. أصيب البواب بالصمم وصار يخطئ نغمات ذلك التانغو العجيب، وأصبحت مطرقة منجّد الأثاث تستقر فوق يده بشكل متزايد.

سألتُ:

«أما من رسالة لي؟»

«لا» أجاب ساعي البريد «ما من شيء اليوم يا سيدي، بالتأكيد غدًا سيكون».

«هل تحققت جيدًا يا سيدي»؟

ظهر الانزعاج على ملامح ساعي البريد، وأجاب:

«أنا دائمًا أتحقق جيدًا، أرجوك يا سيدي، يجب عليك الانتظار».

«طبعًا سوف أنتظر».

«هكذا فليكن» قال ساعي البريد، «فالمرء دائمًا ينتظر رسالة ما، إلا أن الرسائل تصل بشكل متفاوت، فالناس يكتبون من أمكنة بعيدة، وأحيانًا يكون لزامًا على الإنسان انتظار الرسالة طويلاً».

كنت أتحسر، أعتب على كل سكان البناية الذين يتسلمون الرسائل، أكره وجوههم في اللحظة التي يتناولون فيها تلك الرسائل من يد ساعي البريد. كان يبدو لي أن الكلمات التي تحتويها تلك الرسائل مغتصبة مني، أنها تعود لي، أنا مَن يجب أن يقرأها، أن يبكي فوقها أو يضحك، وأنها وصلت، بمصادفة ما، لا يمكنني فهمها، إلى أيد غريبة، في حين أن كل واحدة منها في الحقيقة موجهة إلي.

عدت بذاكرتي إلى كل الذين عرفتهم في حياتي، أحييت في داخلي الصداقات القديمة، لحظات اللقاء القصيرة بأناس لا تحضرني اليوم وجوههم. فكرت طويلاً بامرأة كنت أكن لها حبًا عظيمًا، وأنا في العشرينيات من عمري، ظل دماغي، لأيام عدة، يسترجع صورة شخص ما كانت تربطني به صداقة حارة، وبدا لي أن ذلك الشخص سيكتب لي، حتى أنه اعتراني نوع من الثقة الرائعة بأنني، بين ليلة وضحاها، سأتسلم رسالة منه، وعادت لتحيا، من جديد في داخلي، كل اللحظات الجميلة والسيئة، التي عشتها معه: المشادّات، التنزهات والأحاديث الليلية، النقاشات والاعترافات، استرجعت من الماضي حركاته، كلماته وضحكاته، وتأكدت من أن ذلك الشخص بالذات، هو فقط سوف يكتب لي رسالة. سارت الأمور على هذه الشاكلة لأيام عدة، لكن تذكرت بعدها أن ذلك الشخص قد مات منذ سنوات عدة، وأنني أنا نفسي ألقيت على قبره أول قبضة تراب.

«أوه، أجل، هذه الرسائل التي حُملت إلى هنا سُرقت مني، أحس بذلك».

أنا شخص مسن، في كل يوم أستقبل الشمس في السماء بدهشة، أعرف أنني أصبحت قريبًا من الموت، وأعرف أنني إذا ما تسلمت أخيرًا تلك الرسالة، فلن أموت حزينًا.

لقد كرهت الناس الذين يتسلمون الرسائل، إنه إحساس إنسان يشعر بسعادة الآخرين، ولكنه لا يستطيع أن يحتضنهم، إحساس متناقض موزع بين الحب والكراهية.

«ما الذي يصنعونه بتلك الرسائل؟ ولأي شيء تلزمهم الرسائل عمومًا؟ إنهم يملكون بيوتًا، وأطفالاً، ويحيط بهم الكثير من الناس. أما أنا فإنني فقط أنتظر رسالة».

أصبحت أعرف من يتسلم الرسائل في البناية ومن مَن. أعرف أن الفتاة ذات الشعر الكستنائي، التي تحب الجلوس في الشرفة بكتاب على ركبتيها، تتسلم رسائل من خطيبها الموجود في إحدى المدن الكبيرة البعيدة، وأن رسالة تأتي بمظروفات سماوية اللون، وعلى كل هامش رسالة كان يرسم دائرة في المكان الذي قبّل فيه الورقة، فكانت الفتاة ترفع الرسائل إلى شفتيها وتبتسم. الرجل المسن الفظ الذي يسكن في الطابق الأول، ويعمل بائعًا للكتب، يتسلم رسائل من أخيه الذي يعمل أيضًا بائعاً للكتب، فكانا يتكاتبان حول المواضيع المتعلقة بالمهنة. أما العجوز الظريفة مثل فأرة صغيرة، فإنها تتسلم رسائل من ابنها الموجود في الجيش، ولأن نظرها أصبح ضعيفًا، فأنا الذي أقرأ لها تلك الرسائل. تنشج العجوز وتريني باستمرار صور ولدها، إنه صبي كبير وجميل، يحزّ في نفس العجوز أنهم حلقوا شعره في الجيش دون أن تتمكن من الحصول عليه، فهي منذ طفولته تحتفظ بشعره المقصوص لديها.

وأنا لم يكتب إلي أحد.

سألتُ:

«هل وصلني شيء اليوم؟».

«لا، لا يوجد شيء اليوم، ربما غدا سيكون».

«سيكون هنالك شيء لك يا سيدي، يجب فقط أن تنتظر».

صرت ألاحظ في النهاية أن ساعي البريد أصبح يتحاشاني، لا ينظر في عينيّ، يودع بسرعة، ويرد بتذمّر على أسئلتي، لم أعرف لماذا، كنت مرعوبًا، فساعي البريد هو الإنسان الوحيد الذي يستطيع يومًا ما أن يحمل إلي الأمل، لم أعرف السبب، وصرت أخاف النظر إلى وجه ذلك الرجل، لكنني فهمت السبب لاحقًا، عندما سمعت حديثه مع إحدى النساء.

كان ساعي البريد يقول:

«لم أعد أستطيع الذهاب إلى ذلك الرجل، إنه بشدة، ينتظر تلك الرسالة، وأنا لن أحمل له ذلك الأمل أبدًا. هل تعلمين يا سيدتي ما الذي يعنيه ألا يستطيع الإنسان حمل الأمل إلي إنسان آخر؟ إنه شيء أسوأ من سلبه بصره وقتله. أعرف أنه ينتظر ذلك الأمل، مني بالذات. ما عدت أستطيع التحدث إليه. أشعر بأنني لا أستحق الحياة، فما قيمة الحياة إن لم نستطع حمل الأمل للآخرين؟».

بعد بضعة أيام حمل ساعي البريد إلي رسالة. كان يقود دراجته بسرعة على رصيف شارعنا المعوج، صاح من بعيد، وراح بنفاد صبر يدفع الآخرين وسلّمني الرسالة، ثم أخرج من حقيبته زجاجة نبيذ وأعطاني إياها قائلاً:

«أمسك الزجاجة أيها السيد، كنت قد اشتريتها وقلت لنفسي: سأشربها معك عندما تتسلم تلك الرسالة، سأمر بك بعد انتهاء العمل ونشربها معًا، سيكون مذاقها جيدًا، إنه نبيذ معتق، ولكن ما الذي يبكيك الآن؟».

«يا للشيطان، يا للشيطان، ألا تعلم أيها السيد أن المرء دائما ينتظر رسالة ما؟».

فضضت الرسالة، انتظرت طويلاً وأنا أنظر إلى الحروف، التي راحت تتقافز في عيني حتى استقرت أخيرًا واستطعت قراءتها:

«لا تقطع سلسلة السعادة، انسخ هذه الرسالة عشر مرات وأرسلها إلى معارفك، وضع في كل مظروف «زووتيين» (1)، لا تقطع سلسلة السعادة...».

أسبلت يدي وسمرت بصري على ساعي البريد.

«المهم أنك جنيت ثمرة انتظارك، إنه أهم شيء، سآتي بعد انتهاء العمل».

صعد إلى دراجته وابتعد.
-----------------------------------
(1) زووتي: العملة البولندية المتداولة.

 

الكاتب البولندي: مارك هواسكو