صورة أخرى (قصة × صفحة)

  صورة أخرى (قصة × صفحة)

بأستذة اعتادها توجه له والده بسؤاله المكرور دون أن يبدي اهتماماً حقيقياً وربما دون أن ينتظر ليسمع الإجابة: وكيف علاماتك؟!

أجاب بصوت حاول أن يجعله متزناً قدر الإمكان: تمام ! تمام الحمد لله!

وصمت بأسى وهو يراقب والده يغادر لشئونه، يشعر بأنه وحيد، صحيح أنه يعيش وسط عائلته، والديه وأخوته، لكنه وحيد إذ ليس ثمة تواصل حقيقي بينه وبينهم غير بضعة حوارات مبتورة مع أخيه الذي يصغره بثلاثة أعوام لكنه لا يفهمه تماما، أما أخواته البنات فهن همّ عليه ! عليه أن يراقب تصرفاتهنّ باستمرار! موعد خروجهن من المدرسة، والداه غشيمان، لم يستمعا لقصص الشباب عن البنات! اللعنة! أي شيء غير أن يرى أخته تسير مع شاب أو يشعر بصداع في رأسه، يحس بأنه يعيش في صراعات ومعاناة وغربة أكبر من أن يحتملها! ينظر للتلفزيون يبحث عن مشهد أو لقطة تفتح النفس ! وعند مرور والده يثبّـت على أغنية وهو يرقب الصرامة التي يثبتها على وجهه كلما نظر إليه! (ياه) لماذا التمثيل؟! وأنا ؟! ماذا أفعل؟ّ

تجرأ مرة أن يشتري سيجارتين بالعدد من أحد الباعة، ولحظة أشعل الأولى أحس بتفوق الإحساس بأنه الآن رجل مدخّـن! بانتهاء الأسبوع رجع إلى المدرسة لكنه لم يعد كما كان ! أصبح أستاذاً في فن الهروب من المدرسة، فجلسة المطعم مع صحن الفول والفلافل وكأس الشاي أو السيجارة مع فنجان القهوة لا تقارن بالحصص واللغو الفارغ!!

حتى جاء يوم تسلم الشهادة المدرسية، أحس بها وتأمل علاماته بكثير من الحسرة والحيرة . ماذا يفعل؟! ماذا يفعل؟!

اللعنة على من اخترع العلامات والشهادات .. وأخيراً اهتدى لفكرة أمسك بالدبوس وحفًّ رسم العلامة التي دون مستوى النجاح بحافته الحادة جيداً، ثم سجل فوقها بقلم حبر مشابه لقلم الأستاذ علامة جديدة لكنها تزيد بعشرين على سابقتها ! دقق في الورقة آملاً ألا يلاحظها والده أو والدته، آخر ما يخشاه أمه لأنّ نظرها ضعف من السكري الذي أصابها ولازمها بسبب الزعل بعد أن تعارك مع أحد الشباب في المدرسة، فاشتكى عليه الأخير ابن الـ . وأحضر تقارير طبية وقد لفّ رأسه وذراعه مع أنه لا يتذكر أنه عندما تعاركا جرحه وآذاه بهذه الصورة! لا ينسى لحظة اتصل بالبيت وجاءه صوتها محمّـلاً بالقلق لتأخره فقال لها: يمّه ! أنا في (النظارة) محجوز بالحبس!!

لا ينسى الشهقة التي صدرت عنها وقد اخترقت أسلاك الهاتف لتحط عليه مثقلة بخيبة ودهشة وفجيعة أم لا يستحق أن يكون ولدها!!

لكن!! كيف يمكنه أن يستوعب حجم الخيبة التي ارتسمت في عيني أمه وهي تدقق النظر في الشهادة وترفع عينيها اللتين أجهدهما السكري وتهمس بصوت مهزوز: ناجح؟! . مبروك يمّه!!

كيف يستوعب الدمعة التي رصدها تلمع بوجع أخرس دونما كلمة !؟ كيف يغفر لنفسه أنها لم توبخه ... لم تخبر والده، ابتلعت خيبتها ولم تظهر غضبها قط ! بدا في عينيها وحركاتها أنها فهمت! اكتشفت العلامة المزورة لكنها لم تقل شيئـًا!

أين ذهبت عباراته وعواصف غضبه التي جهّـزها لهذا الموقف؟! اللعنة عليك يا مهند! كل خططك وعباراتك وحججك تثبت فشلها الآن! يحسّ بأنه أضعف من أن يقول كلمة! أخفى الشهادة وذهب إلى فراشه يحس أنّ ثمة صراعات تتناحر داخل نفسه تقاوم الصور التي اعتاد أن يستحضرها أمامه لكن ثمة صورة أخرى تزاحمها بقوة تلك اللحظة شهادة ناصعة لا تزوير فيها!!.

 

حنان بيروتي