ثلاث شهادات كتبها ثلاثة من المثقفين اللبنانيين، ليست
بكاء على الأطلال، ولا مرثية لحطام المدن التي دمرها الحقد الإسرائيلي ولكنها تمجيد
لروح المقاومة وانتصار لنبض الحياة التي تسري في عروق هذا الوطن.
بنت جبيل، أرض المحابر والأناشيد والقبضات، حاضرة العلم
والثقافة، المدينة التي دمرها العدو ولكنه لم يقدر على اقتناصها وتراجع عن ديارها
المحطمة مكللاً بالعار.
من باب التاريخ، يؤثر العبور إلى بنت جبيل، فهو الدليل والملهم،
والمقيم بهالته هناك، ومن حوله الشعراء والفقهاء والشيوخ العتاق، قد لا يراه أحد
منهم، ولكنهم جميعًا مسكونون فيه، وهو يعد في نبضهم وفي عنفوانهم قامة من بريق
الحبر والضوء. أجل بنت جبيل والتاريخ دائمًا معا، على الصهوات معًا، في الأصائل مع
كئوس الشاي معًا، حيث الشعر لاتخلو منه جعبة. ويُتلى كالآيات عن ظهر قلب، أو من وحي
اللحظة، أو من صحائف عبقت برائحة التبغ.
قد لا تعرف الكثير عن تفاصيل الحاضرة العاملية البعيدة الجذور، في
التاريخ، ولكن المدى، وإن طال، لا تفقد خيوطه، على الرغم من تقطع بعضها بفعل
تحوّلات الزمن وما خلفته من قتل وتدمير وإحراق مكتبات، إلا أن بنت جبيل ظلت حاضرة
الثقافة، وعلماؤها ما برحوا يدمغون تلك الأرض ومدارسها تنبعث من الخراب، وعروبتها
أكثر أصالة، ورسوخًا في النفوس المضطربة بالثورة على الظلم.
هي في عمق الجبل العاملي، الاسم الذي يؤثره المتشدّدون، فيما «الجنوب»
يبعث فيهم شيئًا من الامتهان، بأنهم مجرد هامش في وطن لم يشعروا من قبل بأنهم في
صميمه، على الرغم من دورهم مرابطين على تخوم العدو، وفي قلب تحديات الموقع، وهواجس
المصير عن كل الوطن، إلى حصار النار من حولهم، لأكثر من نصف قرن. أما «عاملة» التي
ينتسب لها «الجبل»، فهي قبيلة يمنية من العرب العاربة الأنقياء. ولذلك كانت العروبة
في أساس التكوين التاريخي للعامليين، أولئك الذين صانوا اللغة وحفظوا التراث،
وصنّفوا في شتى العلوم، ولايزال الشعراء منهم فرسان المنابر وأقطاب المجالس، منذ
عدي بن الرقّاع العاملي في العصر الأموي. حتى عصر «شعراء الجنوب» المبرّزين في
المنتديات والمحافل ووسائل الإعلام العربية.
ولعل ما يميّز الأدب العاملي، هو أنه مولود في تلك البيئة، التي عانت
الفقر والحرمان والظلم من كل لون، مما صهر قرائح الشعراء وحفّزهم على ركوب التحدي،
وعدم الركون للمقادير، هذا ما عبّر عنه شاعر عاملي من القرن الخامس عشر في توصيفه
لتلك الحالة وانعكاسها على الحركة العلمية المتخمة بتلك التحديات، قائلاً:
شُغلنا بكسب العلم عن طلب الغنى |
|
كما شُغلوا عن مطلب العلم
بالوفر |
فكان لهم حظ من الجاه والغنى |
|
وكان لنا حظّ من العلم
والفقر |
وليست بنت جبيل، إلا من سلالة ذلك السلف الذين أعطوا وجه جبل عامل أنه
أرض المحابر والأناشيد والقبضات، وهي ليست سوى اختصار لهذا الجبل، حاضرة علم
وثقافة، وتمرّد على المفاهيم الآمنة، وتطلّع إلى التحرّر من رواسب الجهل والتخلّف،
وصعود إلى مستوى القضية القومية المقدّسة. من باب التاريخ إذن نتابع قراءة بنت
جبيل، فلا يفاجئنا انتصارها الباهر في ثلّة من المقاومين البواسل على العدو، وقد
تراجع مصفوعًا مثخن الكبرياء، فقد اعتادت مثل ذلك، وهي دائمًا في الخطوط الأمامية
غير مترددة أو متقاعسة. كانت فلسطين في عينها منذ بدأت المؤامرة تعصف بالأخيرة،
تذهب إليها، وهذه أو بعضها تفد عليها في السوق الأسبوعية المعقودة يوم الخميس من كل
أسبوع. لا يعرف أحد متى نشأت تلك السوق، ولكن الأخيرة في وعي الأجيال منذ زمن بعيد،
ولطالما شكّلت عقدة تواصل بين الحاضرة والمدن الفلسطينية حتى صفد وعبرها كان
التبادل يتعدى التجارة إلى الأفكار والسياسات، والهواجس الكامنة هنا أو هناك. فلم
تكن مصادفة أن تثور بنت جبيل (1936) على الانتداب، في الوقت الذي اندلعت فيه الثورة
الكبرى في فلسطين، مزوّدة الأخيرة بالمال والسلاح والمتطوعين. بعد نيف وعشر من
السنين، حين بدأت أرتال المجاهدين في التوافد على فلسطين، كانت بنت جبيل المحطة
الملائمة للتجمع، في الذهاب والإياب، تشحذ عزائمهم وتزوّدهم بالمؤن، وتدفع بأبنائها
مقاتلين أو أدّلاء، نجد ذلك موثقًا في الكتب والدراسات، لاسيما في مذكرات الروائي
الشهير الدكتور عبدالسلام العجيلي الذي طالما توقف في الحاضرة وأنس إلى صحبة نخبها
المفعمين بالحماسة.
هل نتساءل بعد: لماذا بنت جبيل؟ المدينة التي هزمت العدو في ذلك اليوم
المشهود، والتي انعقد فيها المهرجان الأول احتفالاً بالتحرير، كذلك المهرجان السادس
في المناسبة عينها. وهل بعد مكان للتساؤل عن تدمير بنت جبيل وإفراغها، عدا بعض
الأجساد المتقطّعة تحت الأنقاض؟ فقد وصفها كاتب من أبنائها (جهاد بزي) في إحدى
الصحف، لحظة خروج موكب البقية من الأحياء، متلاشين مقوسي الظهور بـ «الجحيم» -
مضيفًا - «بنت جبيل ليست بنت جبيل، المدينة صارت جزرًا مبعثرة في ركام لا ينتهي».
كان ذلك في اليوم الرابع عشر للحرب، فكيف بعد شهر، قل أكثر، مَن يعلم أين تصل ذروة
الحقد، ربما يُفرغون آخر جعبهم من القنابل الذكية على القبور، وهي تضم مقاومين
شهداء بالمئات، كانت لهم صولات مع العدو لسنوات خلت قبل التحرير الذي كانت بنت جبيل
الأكثر وشجًا به، ودمها السخي دمغ صحيفته التي سيولد منها مرة أخرى التاريخ الجديد،
ليس للمدينة الشهيرة فحسب، بل لجنوب البطولات، للبنان الصمود والرسالة
والعروبة.
في الرابع من آب (أغسطس)، ظهرت إحدى الصحف وكأنها صادرة لتوّها من بنت
جبيل - الجحيم - معظم مادتها، صورها، عن المدينة الموحشة كالموت، ساحتها على الصفحة
الأولى التبست عليّ، إذ لاشيء سوى التراب والحجارة، وبقايا جدران مهشّمة وسطوح
تعانق الأرض، كان المشهد مروّعًا، ولكن ما شدّني إليه أكثر، حين وقعت عيني على رجل
من أصدقائي الأقدمين تائهًا، وزوجه بين ذلك الركام، فبدا لي شيخًا هرمًا بعد أن قطع
في أيام مسافة أعوام من عمره المنهك في قبوٍ غارت عنه الشمس، ولم ينج من القذائف
الآثمة ودخانها وغبارها وشظاياها وعناقيدها المسمّمة. أجل إنها الحرب، وقد اعتادها
كثيرًا في بنت جبيل، مرات ست، ملاحق أخرى، اعتداءات لا تحصى، ولكنهم قطعًا لم
يألفوا هذا النمط التدميري حتى الإبادة، كان ثمة من يكابر، يصرّ على البقاء، وربما
يعاقر أحيانًا الموت، ولكن هذه المرة كان لها طعم آخر، القتل هو الهدف، وهو «أمر
اليوم» معمّمًا على الطائرات والبوارج ومرابض المدفعية، وكل وسيلة لإعدام أولئك
المقاومين بقلوبهم «وهو أضعف الإيمان». هذا العدو المترع بثقافة الانتقام، وليس في
تاريخه سوى المجازر، يؤسس عليها «أمجاده» الحربية الجوفاء، وهي ثقافة «عريقة» في
وعيه التاريخي، كما هي حاضرة في وعينا التاريخي أيضًا، منذ الهجرة إلى يثرب.
حينذاك، لم يتوقف الحقد حتى نحو أولئك الذين عقدوا صلحًا مع ذلك العدو، فهو مجرد
هدنة، ولا يمكن أن يلغي ثقافة الانتقام المتجذّرة، ولن يتحوّل إلى سلام مهما طال
الزمن.
أحدّق في الصورة مجدّدًا، وإذا بي مخترقًا ذلك السجن الضبابي، سنين،
عقودًا إلى الوراء، حين واجهت بنت جبيل نكبتها الثانية هروبًا من بيروت إلى الجنوب،
خلافًا لحركة سيرها بعد النكبة الأولى (فلسطين). فقد ضاقت المدينة بأهلها، وسُدت
منافذ الطريق، حينذاك غادرت المدينة أفواجًا نحو العالم البعيد، وكانت برمّتها تنزح
عن المكان، لولا بقية ظلت أقدامها مزروعة في الأرض، وهي - أي بنت جبيل - قد تخدع
الوافدين إليها نهارًا، إلا أنها قبيل هبوط الظلام تصبح قرية صغيرة موحشة، ومع ذلك
لم تفقد نبضها، أو يخونها حسّها التاريخي. فلايزال من مغتربيها مَن يقطع المسافات
الطويلة إليها، بعضهم يصرّ على بناء بيت، وربما قصر يحقق ذاته فيه، موهمًا نفسه
بأنه عائد حتمًا إلى مدينته الأثيرة. ولكن بنت جبيل ظلت تخفق بمن هم أكثر حضورًا،
وإن كنت لا تراهم أمامك، أو تلحظ آثار أقدامهم في الطريق، أولئك الشجعان المرابطين
في الأرياض، أو المترددين بخفرٍ على المجالس من دون صخب أو ادّعاء. ماذا بعد من بنت
جبيل، المفرغة الآن إلا من بقايا جثث ودوي قذائف ترتطم بالخراب؟
فما برح العدو على ظمأ، ولما يرتوي بعد، ولكنه مهزوم لا محالة، فلن
يستطيع قتل الذاكرة والشعر ورسوم الأطفال، وأكثر من ذلك لن يكون قادرًا بكل آلياته
على قتل الرمز في بنت جبيل، بما يعنيه من أصالة تراث وصفاء فكر، وتوهّج قضية، وكل
ما جعلها متأهبة لذلك النصر.
بنت جبيل ليست أسطورة فهي مجرد حاضرة عاملية، عانت الفقر والظلم
وجبروت العدو، فكانت الأنموذج معمّمًا على بلدات وقرى أخرى في الجنوب المقاوم
الصعب. الخيام من هذا الأنموذج، وقد عرفت المجازر قبل غيرها، وتحوّلت بيوتها
أطلالاً، ثم عادت دورة العنف تلفّها من جديد، فيكون المعتقل - الرمز أول
المستهدفين. هذا المعتقل الذي شهد أفظع ألوان التعذيب، إبّان الاحتلال الإسرائيلي،
أصبح بعد التحرير «مزارًا» يقصده الأحرار من كل صوب، أليس ذلك مبرّرًا لفداحة
الانتقام؟
الخيام دُمّرت أيضًا، و«مرجها» الأخضر بات قفرًا، والينابيع لوّثتها
السموم، ولكن المرج، شأن «تلة مسعود» في بنت جبيل، لم يدع العدو يمرّ آمنًا، فما
زالت «مجازر» دباباته اليومية تعوّق حركته وتعجزه عن المسير.
غدًا عندما يتراجع العدو عن طغيانه، ولابد أن يتراجع، معترفًا، وإن
مكابرًا، بالهزيمة، سيكون التاريخ في أتمّ حضوره، ومعه أقلامه وأوراقه، لتدوين تلك
الملحمة وسيكون، منحازًا إلى أولئك الذين وقع عليهم الظلم، كانوا في عداد المجازر،
وتحت أنقاض البيوت أو على قارعة الطريق، أو بين النازحين العائدين إلى بيوتهم
المدمّرة، وغدًا أيضًا ستعود بنت جبيل، تلملم جراحها وتجمع بقايا أمواتها، وستنهض،
حسب عادتها، منيعة، معزّزة بالإرادة والإيمان، ولن يطرأ تغيير في سلوكها المقاوم،
أو تعديل في نهجها وثوابتها، والعروبة ستبقى العنوان البارز لخطابها، اليوم كما في
الأمس، ستعود أيضًا ساحاتها - المركز، التي كان آخر مغادريها، الصديق المثقف وزوجه،
وفي يد كل منهما حقيبة صغيرة فيها اليسير الضروري من المتاع، وسوق الخميس، المعلم
التاريخي العريق، سترتفع مجددًا أصوات الباعة فيها، وستعجّ مجددًا بالوافدين
والجوّالين، ولن تعدم حلقات في بعض الحوانيت يتلى فيها الشعر، سوق الخميس الشاهدة
الأخيرة على الدمار المريع، ستكون الشاهدة الأولى على نهوض الحاضرة العريقة، بكتبها
وقصائدها وقناديلها، وكبريائها وعبق تبغها التليد. كانت بنت جبيل لاتزال حاضرة
فينا، ونحن لم نبرح حضورها البهي، منتشرين في فيئها، وتحت ظلال سيوفها نراود
التاريخ، فلندع الأخير مع أوراقه، يروي لنا حكاية المدينة - الرمز، السابقة على
عصرها نهضة، وانفتاحًا، ومقاومة حتى الشهادة. بنت جبيل، وصورة الوطن في عينيها،
تقدم ملحمتها قربانًا له، لانبعاثه موحّدًا، حرًا، منيعًا على أي عدوان، ومَن يرَ
غير ذلك فقد خانته البديهة والتبست عليه القراءة، بعض عن قصور، وبعضٌ عن عمد، فقد
عرفوا موقعها الجغرافي، ولكنهم جهلوا موقعها في التاريخ. ويبقى أن الخاتمة ليست
دائمًا نهاية الكلام، ولكن طلال سلمان اختزل بنت جبيل بما يشبه الخاتمة، فقال في
افتتاحية صحيفة «السفير» (بنت جبيل تكتب ديوان النصر الأول): «ليست بيوتًا من حجر،
هذه التي تتناثر متكاثفة حول الساحة، ثم تندرج وتتنافر لتتكامل مقدمة شيئًا من
الشعر المنثور، كل ما في بنت جبيل يُقرأ منغمًا كالآيات البيّنات، والقصائد مسطّرة
الآن، أفلتت منها الرموز وقصدت إلى الدبابات المتسللة لتدمرّها، فتكتب جديدها بعويل
جنود العدو...».