عشرون من أهلها ذُبحوا وبيوتها أصبحت أثرًا بعد عين زبقين.. قرية شاهدة وشهيدة
عشرون من أهلها ذُبحوا وبيوتها أصبحت أثرًا بعد عين زبقين.. قرية شاهدة
وشهيدة
هدمها الإسكندر، وغزاها الصليبيون، واجتاحها الإسرائيليون وظلت باقية بينما رحلوا هم جميعًا.. تلك هي زبقين. تقع زبقين، قريتي في الجنوب اللبناني، فوق إحدى هضاب جبل عامل المطلة على مدينة صور من جهة الجنوب الشرقي بعلوّ عن سطح البحر يقارب خمسمائة متر في بعض الأماكن ولا يتجاوز أربعمائة في أماكن أخرى. أما اسمها فيربطه بعض المسنين من أهلها باسم أحد الأولياء الذي سكن القرية قبل قرون من الزمن ودُعي «زين اليقين»، والذي مازال مقامه عند أطراف مقبرة القرية قائمًا حتى اليوم. أما الكاتب والمؤرخ اللبناني أنيس فريحة فيذكر في كتابه «معجم أسماء المدن والقرى اللبنانية» أن اسم زبقين في السريانية يعني مكان النحر أو الذبح ويذهب بالتالي إلى الاستنتاج بأن موقع القرية المميز جعلها محط أنظار الفينيقيين القدماء الذين جعلوها مصيفًا لهم يهربون إليه من حر صور وشمسها اللاهبة. وربما تسند الأعمدة والنواويس الأثرية التي اكتشفت في القرى قبل عقود هذا الاستنتاج الذي ذهب إليه فريحة وإن لم تؤكده بشكل قاطع. أما المؤرخ اللبناني الشيخ علي الزين فيذكر في كتابه «تاريخ جبل عامل» أن زبقين كانت في القرن الثاني عشر الميلادي عاصمة للأمير بشارة بن أسد الدين الذي سميت المنطقة باسمه لفترة طويلة وعرفت باسم «بلاد بشارة»، وهي الجزء الجنوبي الغربي من جبل عامل. لكن حاضر القرية لا يشي بالكثير من ماضيها، تمامًا كما هو حال صور، مركز القضاء وحاضرته، التي لفها الخراب والفقر منذ أن هدمها الإسكندر المقدوني إثر مقاومة ضارية في القرن الرابع قبل الميلاد، مرورًا بالغزو الصليبي الذي دمّر المدينة بالكامل وصولاً إلى الاجتياحات الإسرائيلية المتكررة التي تركت المدينة وقراها في عهدة الكارثة. وإذا كانت صور بكل عظمتها الغابرة قد ظلت حتى بداية القرن التاسع عشر ميناء صغيرًا للصيد تتوسطه كومة من الأطلال، فإن زبقين التي لا يربو عدد سكانها الحالي عن الألفي نسمة بقيت إلى أمد قريب مجموعة قليلة من البيوت الطينية التي يعتاش أهلها من زراعة التبغ والحبوب وبعض الزراعات البعلية التي لا يكاد محصولها يسد الرمق. على أن هذه الطبيعة الزراعية للقرية هي التي دفعت أهلها منذ أمد إلى أن يختاروا لأنفسهم مصيرًا مغايرًا للكثير من سكان لبنان الذين دفعهم الظلم العثماني، مضافًا للتجويع والقهر والخدمة العسكرية الإلزامية، إلى ارتياد الآفاق في هجرات جماعية متلاحقة أفرغت الوطن الصغير من معظم سكانه. وإذا كانت هجرة الجنوبيين بوجه عام قد تأخرت كثيرًا عن مثيلاتها في المناطق الأخرى فإن أهل زبقين ظلوا متشبثين بتراب قريتهم تشبُّث الرضيع بصدر أمه، خاصة بعد حادثة غريبة حصلت لأربعة من المغامرين الأوائل في الثلاثينيات من القرن الماضي. وربما تستطيع هذه الحادثة التي ترقى إلى مصاف الأساطير أن تلقي الضوء على علاقة الناس بالأرض وعلى ما يمكن للمخيلة الشعبية أن تصنعه عند مفاصل الحياة ومنعطفاتها الأصعب. يروي عجائز زبقين أن أحدًا من أبنائهم لم يفكر بالهجرة على الإطلاق. ولكن أربعة من الشبان اتخذوا تحت وطأة العوز الشديد قرارًا بالهجرة إلى أبيدجان، عاصمة ساحل العاج، التي استضافت مع سيراليون طلائع المهاجرين من الجنوب في تلك الحقبة. فعل الناس يومها كل ما بوسعهم من أجل إقناع الفتية «الطائشين» بالعودة عن قرارهم الغريب والمفاجئ. لكنهم، وقد يئسوا وأعيتهم الحيلة، خرجوا بأجمعهم في وداع المسافرين وغادروا منازلهم وسط الدروب المؤدية إلى صور والمغطاة يومذاك بأشجار السنديان والملول والبطم والكثير من النباتات البرية الشوكية. وعند المنعطفات الأخيرة التي تتجه نزولاً إلى الساحل عاد الأهالي إلى قريتهم فيما تابع الشبان طريقهم باتجاه المركب الذي أقلهم على متنه عبر البحر المواجه للقرية من جهة الغرب. وإذ بدا المركب جليًا للناظرين في الأعالي، ورغبة من الناس في إشعار المسافرين بأنهم مازالوا يتابعونهم بالعين والقلب، عمد الأهالي إلى اقتلاع درف الخزائن المكسورة بالمرايا من أماكنها ثم صعدوا إلى سطوح بيوتهم وبدأوا يلوحون بها قبالة البحر. وإذ لمعت المرايا في وجوه المسافرين، أدرك هؤلاء حقيقة ما يجري وشعروا بأن الشمس التي تعكسها المرايا في البعيد ليست في بعدها الرمزي سوى شمس التراب الأصلي الذي لن يستطيعوا الإفلات من قبضته. هكذا لم يجد ثلاثة من الشبان المهاجرين أمامهم سوى العودة إلى القرية ما أن حط المركب بهم في أحد الموانئ المصرية. أما الرابع، الذي أصر على متابعة طريقه، فقد قضى بمرض الملاريا إثر وصوله إلى الغرب الإفريقي، وكأنما لعنة التراب الذي غادره قد ظلت تلاحقه حتى الرمق الأخير. هكذا اتحد الواقع بالأسطورة في ذلك العالم، الواقع على تخوم المجاز والمحمول دائمًا على أجنحة مخيلات لا يتعب الشعراء كثيرًا في العثور عليها. ومع ذلك فلم يكن التاريخ وحده هو الذي قرر مصير الغربة المأساوي في السنين الأخيرة، بل قد تكون الجغرافيا بدورها قد أسهمت في تقرير هذا المصير وإيصاله إلى نهاياته. إذ ليس بين الهضاب العالية التي تتربع فوقها بيوت زبقين وبين الشمال الفلسطيني، الذي أصبح إسرائيل فيما بعد، سوى سلسلة من المنحدرات والأودية العميقة التي تجأر سيولها في الشتاءات مفجرة عشرات الينابيع والسواقي الصغيرة، التي يجف بعضها في الصيف بينما يواصل بعضها الآخر مسيرته لاهثًا وشديد النحول في الطريق إلى البحر. تلك الجبال والأودية، التي شكلت مسرح طفولتي القديم وينبوع قصيدتي الأولى، أصبحت بحكم موقعها الجغرافي وطبيعتها العصية مسرحًا لأعنف المواجهات التي جرت بين المقاومتين الفلسطينية واللبنانية وبين العدو الإسرائيلي منذ أوائل السبعينيات من القرن المنصرم. وعند فوهة الينابيع البكر المحاطة بالذكريات السحيقة وملاعب الصبا كان العدو يصب حممه على كل ما يتحرك هناك. وهناك أيضًا استشهد «أيمن» تحت أنقاض قرية العزية التي تهدمت فوق رءوس أهلها بالكامل محولة «الطفل الصغير إلى حفنة من الرماد يذروها صوت مارسيل خليفة في وجه الظلام العربي الشامل». مع كل حرب تقع كان ثمة ثمن ما تدفعه القرية التي لم يضمها المحتلون إلى ما كان يعرف بالشريط الحدودي في الفترة الواقعة بين عامي 1978 تاريخ الاجتياح الأول و 2000 تاريخ الانسحاب الأخير من الجنوب اللبناني، ذلك أن بقاءها خارج الاحتلال جعلها تقع داخل دائرة القصف المتكرر الذي يأتي من جهة مرابض العدو ويستهدف القرية المحررة بوصفها موقعًا متقدمًا من مواقع المقاومة. وفي أوقات متفاوتة من الثمانينيات والتسعينيات سقط كل من الشقيقين علي وعاطف بزيع بالرصاص الإسرائيلي كما سقط محمد مسلم وحسين بزيع وحسين طعمة ومحمود نايف بزيع وصلاح صليبي ومازن بزيع. وإذ تمكنت المقاومة من إسقاط طائرة هليكوبتر في خراج القرية قضى العديد من شبانها بالقنابل الموقوتة التي تركها العدو حول حطام الطائرة المحترقة. حتى إذا طلع فجر الخامس والعشرين من أيار (مايو) من عام 2000 وانسحبت فلول الغزاة إلى ما وراء «الخط الأزرق» حسب الناس أن مسلسل أحزانهم وآلامهم قد انتهى إلى غير رجعة، فيما كان الفخ المنصوب عبر الامتناع عن إطلاق الأسرى والانسحاب خارج مزارع شبعا يهيئ لهم لقاء متجددًا مع الموت عبر المذبحة الرهيبة، التي ذهبت باثني عشر طفلاً وامرأة وعجوزًا من سكان القرية الأبرياء، إضافة إلى ستة شهداء آخرين قضوا في ساحة المعركة دفاعًا عن أرضهم وكرامتهم وحقهم في الحياة. المجزرة: المسرح والجريمة والعائلة التي ذبحت حين تم اختطاف الجنديين الإسرائيليين من قبل المقاومة عشية الأربعاء في الثاني عشر من تموز (يوليو) الفائت، كانت قرية زبقين، كغيرها من مدن وقرى لبنان، تشعر بنذر الرياح السوداء، التي تستعد للهبوب باتجاه الشمال لكن أحدًا من الناس لم يكن ليضع في الحسبان أن المواجهة لن تكون عبر فوهات المدافع والدبابات، التي يمكن لجدارين أو أكثر من جدران المنازل أن تعيقها عن القتل، وأن قنابل الطائرات هي التي ستتكفل هذه المرة بإنجاز المهمة. لذلك فإن عائلة مختار القرية المتوفى منذ سنوات خمس، والذي كان يفاخر باقتناء مجلة «العربي» منذ عددها الأول، وحتى لحظة وفاته، لم تجد ما يقيها من الخطر سوى الاختباء في منزل عميد العائلة المؤلف من طابقين اثنين خلافًا لمعظم بيوت القرية المقتصرة على طابق واحد. هكذا جاءوا جميعًا من منازلهم للالتفاف حول الأم الكبرى فاطمة بزيع (78 عامًا) وليكونوا جنبًا إلى جنب في مواجهة الخطر المحدق. جاءت آمال ابنة الحاج نعيم (44 عامًا) وبناتها الثلاث خلود (18 عامًا) وفرح (14 عامًا) وعزيزة (10 أعوام). جاء الابن درويش (45 عامًا) وزوجته سعاد نصور (39 عامًا)، وجاء الابن الآخر علي (55 عامًا) وزوجته مريم الحسيني (55 عامًا) وأولاده نعـيم (18 عامًا) والتوأمان محمد وملاك (16 عامًا) وحسين (11 عامًا)، إضافة إلى العمة سنية بزيع (67 عامًا). كل هؤلاء ظنوا عشية المجزرة أن وجودهم معًا يعطيهم القليل من الأمان، وأن ذلك الدم الواحد الذي يجري في عروقهم، لابد أن ينجح لغزارته، في تضليل القذيفة القادمة، وتوجيه الموت إلى جهة أخرى لا شأن لأجسادهم المتلاحمة بها. في السادسة صباح ذلك اليوم المشئوم، نهض الجميع ليتفقدوا أعضاءهم المتهالكة وليعطوا أنفسهم جرعة قليلة من الأمل. في السادسة والنصف، بدأ القصف على الأودية المحيطة بالقرية. إلا أنهم، وقد اعتاد العدو على «تمشيط» هذه الأماكن بين فينة وأخرى، ظلوا يراوغون خوفهم ببعض الوعود والأمنيات المعسولة. البعض منهم تكوّموا مثل قوس واحد من الاستغاثات داخل غرفة الجدة، فيما كان آخرون يقفون على الشرفة الخارجية في محاولة لتشجيع الآخرين، أو لإقناع النفس بشيء من الثقة المطلوبة لمداراة العجز والخوف. اتصل محمد علي بزيع الموجود في صور بابنته الكبرى خلود، والتي كانت قبل أيام قد تلقت نبأ نجاحها في امتحانات الشهادة الثانوية، عارضًا أن يأتي بسيارته لاصطحاب الأسرة إلى مكان آمن. غير أن الفتاة الجميلة التي خصها الأب برعاية فائقة، تغلبت على خوفها، وطمأنت أباها أن ليس في الجو ما يدعوه إلى القلق والمخاطرة بنفسه. جرى ذلك الاتصال الأخير بين الأب وابنته في الثامنة تمامًا، وفي الثامنة والنصف تحول البيت وأهله جميعًا إلى أشلاء. كانت الطائرات هذه المرة هي التي تعهدت بقطع دابر البيت من أساسه لكي يصبح أثرًا بعد عين. فرح التي خاضت امتحانات الشهادة المتوسطة، وانتظرت نتائجها بفارغ الصبر، قذفها الانفجار مائة متر بعيدًا عن المكان. نعيم الحفيد وجد على بعد عشرة أمتار من مكان وجوده الأصلي. أما خلود، التي كانت قلقة بشأن مستقبلها الدراسي، فقد رفعتها القذيفة من صفها مباشرة نحو السماء. سيارات الدفاع المدني أقلت الجثث المتفحمة إلى مستشفى جبل عامل في صور، حيث تم دفنها مؤقتًا في المقبرة الجماعية الأولى، التي أقيمت على عجل، وضمت أكثر من تسعين جثة. النعوش المتراصفة التي كتبت فوقها أسماؤهم بالخط العريض، ظلت لدقائق نهبًا لآلات التصوير وشاشات الفضائيات و«الفيديو كليبات» السريعة التي أعدها مطربون صاعدون وحالمون بالشهرة لمثل هذه المناسبات. في الثامن عشر من آب (أغسطس) الفائت، تم استخراج النعوش ثانية من ترابها المؤقت في ضاحية صور لتدفن ثانية في ترابها الأصلي. كانت الجثث قد بدأت بالتحلل وروائح العفونة والصديد المتسرب من التوابيت تزكم الأنوف. مستعينين بالكمامات وزع رجال الصليب الأحمر وهيئات الإسعاف ضحايا المجازر على القرى التي ينتمون إليها. كان لقانا من بينها النصيب الأوفر، ومن ثم صريفا وزبقين وعيتا الشعب وعيترون وعيناتا وبنت جبيل وعشرات غيرها. مشينا وراء الجنائز كمن يمشي في جنازة نفسه، ليس ثمة وسط ذلك الفضاء المعتم من مسافة تذكر بين الحياة والموت سوى شعور بالكرامة يحرص الأحياء على عدم إهداره في فوضى الجدالات المحتدمة عند نهاية الحرب. أما المجزرة الرهيبة الأخرى، التي واجهتنا في طريق العودة إلى زبقين، فهي تلك المتصلة بالبيوت. فقد بدت القرية أمام أعيننا الزائغة وكأنها هيروشيما مصغرة من الحرائق والأنقاض وركام المباني. لم يكن هناك سوى بضعة بيوت واقفة على قدميها، فيما مئات غيرها مسوّاة بالأرض، ومعلوكة كالثياب القديمة بأسنان تنّين لا يرحم. كل تلك الجيوش من الضحكات والأحلام والخطى والأعمار والذكريات باتت الآن تنام كالقطعان النافقة في عهدة العدم، ومعها تنام أيضًا طفولتي، التي شهدت هناك أجمل نهاراتها، وأكثرها تفجّرًا وعذوبة. الوجوه التي شاهدتها وراء النعوش بدت أكبر من عمرها بكثير، وقد غضنتها شمس تموز وآب (يوليو وأغسطس)، وكستها بالمزيد من التجاعيد والأسئلة المؤرقة. يدفن الناس شهداءهم وموتاهم دون أن يقلل من حزنهم شيء سوى الشعور بأن ثمة من سقطوا من جهة العدو، وأن هذا الشعب الصغير المقاوم استطاع أن يدرب العجز العربي على صناعة المعجزة!.
|