أرانب مسحورة محمد المخزنجي

أرانب مسحورة

لم أستطع الانتظار عندما تناهى إلى سمعي ما يحكونه عن الظهور الليلي لتلك الأرانب في ميدان مدينتنا القديم بعد احتراق محول الكهرباء الرئيسي وحلول الظلام الدامس الذي يرجح استمراره لعدة أيام حتى يتم إصلاح المحول. ركبت آخر القطارات السريعة المتجهة إلى المدينة لأكون هناك عند حلول الليل, إذ قيل إن تلك الأرانب تبدأ عرضها الغريب بعد منتصف الليل, وتختفي تماما مع ضياء الفجر.. عشرات, مئات, ويبالغ بعضهم فيزعم أنها آلاف الأرانب البيضاء, بياضا ناصعا, كالثلج, تتدفق تحت جنح الظلام في الميدان القديم الواسع عندما يخلو من البشر, تنبع من مكان مجهول وتنتشر في الميدان بلا صوت, تتحرك بانسياب فيما رءوسها تهتز بنمنمة وآذانها الطويلة تتأرجح ببطء, وأفواهها لا تكف عن قضم عشب غير مرئي, وكأن أسفلت الميدان المترب قد تحول إلى مرعى واسع غزير العشب!

منذ ستة وعشرين عاما ساقتني الأقدار, وبراءة العمر, لأكون المتهم الأول في أحداث أول العام التي وقعت بالمدينة, وجهت لي النيابة تهمة التحريض على الأحداث وما ترتب عليها من تخريب وتهديد لأمن الدولة وموت اثنين من المواطنين, برصاص مجهول, وكانت العقوبة التي طلبتها لي النيابة هي الأشغال الشاقة المؤبدة. استمرت القضية سبعة أشهر كاملة قضيتها في سجن المدينة, مع ثلاثة من الطلاب الذين لم يفرج عنهم من بين مائة وخمسين تم القبض عليهم أثناء الأحداث. لم يكن تكريمي بهذا الموقع الفادح لدور بارز قمت به, بل كان اقتناصا سياسيا لشاب يتعامل مع السياسة بروح فتي, فقال ما اعتقد أنه الأصدق والأجمل, سمى أشياء بأسمائها الخطرة, وأشار إلى رءوس كبيرة وثقيلة, ولم يتراجع أبدا عن التهور الذي احتشد له عشرون من أكبر المحامين السياسيين المتطوعين للحصول على براءة قانونية. صحيح أن جهود المحامين المخلصة أثبتت جدواها, ورتبت الأقدار قاضيا ذكي القلب لتكون هذه آخر قضية ينظر فيها قبل خروجه إلى المعاش, حكم بالبراءة كاملة غير منقوصة, إلاّ أن هذه البراءة كان يمكن الحصول عليها بجهد أقل من ذلك كله, لو أنني وجهت أنظار القاضي والمحامين إلى حادثة تثبت عكس ما اتهمتني به النيابة من تحريض على التخريب والفوضى, وهي حادثة كان يمكن تأكيدها ببعض الشهود الذين عاصروا لحظاتها وهم: بستاني القصر العجوز واثنان من الطلاب أصدقائي.

* * *

قبل اندلاع أحداث أول العام بعدة أسابيع كنت أمارس إحدى هواياتي الرومانتيكية تحت المطر, ففي الركن الهاديء - آنذاك - من أركان المدينة التي كانت جميلة, رحت أمشي بلا هدف في الشوارع الخالية المغسولة, وأحلم بحب جديد بعد حب ضيعته لتوي. وقرب الغروب, بعد أن أكمل مطر المدينة الخفيف دوره الساحر, وحوّل زرقة السماء وبياض البيوت البديعة تحتها إلى حلم, كنت أمر أمام قصر المحافظ الذي تحيط به أسوار ذات قواعد خرسانية تعلوها قضبان حديدية ذات قمم مسننة تظاهرها ألواح محكمة من الزجاج المصنفر, فوجئت بأرنب أبيض ناصع البياض يعدو مفلتا من شق بوابة القصر التي كانت مواربة وتلاحقه فتاة لم أر أروع منها في حياتي كلها, ثم برز بعض من عساكر الحراسة يطاردون الأرنب الذي تلاحقه الجميلة. انشغلت البقعة التي كنت أتمشى فيها بهذه المطاردة التي وجدتني في قلبها, ثم لم أعد أرى غير الفتاة والأرنب واختفى العساكر كأنهم لم يكونوا هناك أبدا. كان طبيعيا أن أمسك أنا بالأرنب الذي رحت أطارده بطاقة كل خلية في جسدي المنتفض, وأمسكته بالفعل, حاصرته بين سور القصر والرصيف وانكببت عليه بوجودي كله, ففاجأني باستسلامه وسكونه. كنت حريصا ألاّ يفلت مني وأنا أرفعه من مكان قبوعه بين الرصيف والسور, وبدا كأنه يشاركني هذا الحرص إذ بدلا من التفلت بين يدي أخذ يعتدل لأجيد الإمساك به, هدأ تماما بين صدري وساعدي اللذين أحاطاه بإحكام ورفق, ورحت أقترب به - وهو في حضني - من الفتاة التي أخذت تقترب مبتسمة ممتنة. كانت لحظة ابتسامتها ووثارة الفراء الأبيض الناعم الدافئ في حضني لحظة مسحورة من لحظات العمر الجميل, ثم بدأت أتبين اقتراب العساكر وهم يمدون أياديهم لأخذ الأرنب, لكنها أبعدتهم وطلبت مني أن أظل أحمله حتى أعيده إلى مكانه, وانصاعوا لأوامرها الهادئة القاطعة. هكذا دخلت قصر المحافظ للمرة الأولى, في حضني أرنب دافيء ناصع البياض, ناعم ووثير, وقلبي ينتفض من البهجة والوجل, تقودني جميلة كالحلم, ويحدق بي عساكر يكبتون غضبهم وتبعث شرارات عيونهم الضيقة بتهديدات خفيفة إن تجاوزت ما لا يعرفون حدوده. قادتني الفتاة إلى ركن من حديقة القصر الخلفية المطلة على النهر, وهناك رأيت الأقفاص السلكية متعددة الطوابق التي تسكن في غرفها عشرات الأرانب البيضاء الناصعة كالأرنب الذي التصق بصدري, فتحت الجميلة بابا سلكيا صغيرا في طابق يوازي صدري, وأومأت لي بالاقتراب لأودع أرنبي في مسكنه. سكبت الأرنب برفق عبر الباب السلكي الصغير الذي كانت أناملها تفتحه, وكنت اقترب من وجهها الحلو لتسكرني أنقى بشرة مسستها مسا كأنما من بعيد, بعيد, كادت ساقاي تتهاويان تحتي لولا نذير العساكر, وأغلقت الأنامل الصافية باب الحجرة السلكية على الأرنب الذي غادر صدري. شكرتني بابتسامة عذبة أحسستها تواعدني أكثر مما تودعني, لكن نفقاً من العساكر انفتح أمامي محددا طريق خروجي. وجدتني خارج بوابة القصر التي أوصدت, أمضي مترنحا كمن يفتح عينيه بعد حلم, خفيفا توشك أن تطيرني النسائم, عازما على العودة لاستكمال حلمي مهما كان الثمن, ولقد عدت, عدت مرات ومرات, أحوم حول سور القصر المدجج بالحديد والمخفي بالزجاج المصنفر, دون يأس, ودون جدوى, إلى أن دخلت القصر من جديد, ولم يكن فيه غير تلك الأرانب!

* * *

اندلعت مظاهرات مدينتنا بعد يوم واحد من اشتعال مظاهرات العاصمة, ففي يوم الثلاثاء وصلت أنباء العاصمة إلى المدينة مساء, وفي الصباح التالي كانت الشعارات, التي شاركت في كتابتها, تملأ جدران المدينة مطالبة بالحرية والعدل, وعند الضحى خرجت مظاهرات الطلبة من الجامعة وانضمت إليها المناطق الشعبية المحيطة بشارع الكورنيش, وعبر المناوشات والحواجز شقت سيول المتظاهرين طريقها إلى مبنى المحافظة. كانت الأعداد تتضاعف بعشرات ومئات الآلاف, وفي الظهيرة كان هناك أخطبوط هادر من نصف مليون متظاهر يملأون الشوارع المؤدية إلى مبنى المحافظة من كل الجهات. لسبب غامض في حركة الجموع التلقائية التي تجاوزت قيادة الطلبة, تركز ضغط الحشود على قصر المحافظ, وكنت هناك مضطربا خافق الفؤاد, روحي مع انتفاضة الناس وقلبي وراء سور الخرسانة والحديد والزجاج المصنفر, وانفلت غضب عوام الناس وبؤسائهم ô في لحظات تساقط بلور القناديل التي تعتلي أسوار القصر, وفي لحظات تطاير كل الزجاج الحاجب للرؤية على الأسوار, وانكشف القصر عبر الشارع.. لم يعد هناك أثر للعساكر الذين رأيتهم من قبل, وكانت ستائر الدانتيلا تتأرجح وراء زجاج النوافذ كاشفة عن حركة محمومة في الداخل, وظهر بعض الرجال في ثياب مدنية يهرولون باتجاه الحديقة المطلة على النهر. انتفضت لخاطر مريع صعق ذهني, ونقلت الخاطر إلى بعض من كانوا بقربي من قادة الطلبة: (ستتلطخ هذه الانتفاضة كلها بالعار لو حدث أي اعتداء على أنثى داخل القصر, وستكون الاعتقالات دموية, ومبررة حتى من وجهة نظر الذين بدوا متعاطفين مع الانتفاضة). كان الصخب هادرا, ومن الصعوبة أن نتمكن من سماع بعضنا بعضا, وعبر احتقان الوجوه العرقة المنتشية باكتشاف لذة الاحتجاج لم أظفر إلا بسمع صديقين, شققنا حشود الناس المتضاغطين أمام البوابة, ونادينا بعض المهرولين من عمال القصر الذين لاحوا لنا وراء قضبان السياج, عرفنا من ايماءاتهم أن ساكني القصر غادروه, وانهالت علينا من كتلة البشر أصوات تؤكد أن المحافظ هرب وتم تهريب أسرته في زورق عبر النهر إلى مكان آمن. ضاع مني صديقاي في حراك الآلاف الذي يشبه طاحونة أسطورية, تبدو متوقفة لكنها تدور, تدور ببطء كاسح, ووجدت نفسي أمام بوابة القصر مباشرة, وورائي منجنيق بشرى هائل قوامه مئات الآلاف من البشر, يتراجعون بطيئا على نفس واحد صائحين: (هيلا), ثم يتقدمون في كتلة واحدة ساحقة تصيح: (هووب) ويلطمون البوابة التي تكبل مصراعيها سلسلة ضخمة من الفولاذ يغلقها قفل نحاسي ضخم. رأيت حلقة أحد طرفي السلسلة الملبسة في لسان القفل تنفتح, ويتزايد انفتاحها مع كل لطمة من المنجنيق البشري الهادر, تصك اللطمات مصراعي البوابة المصفحة, وتسحق أضلعي على حديد هذه البوابة. بدا القصر خاليا تماما وراء حديد البوابة التي توشك على الانفجار, لكن وفاضي لم يكن خاليا, لقد كان لي حلم هناك, على مرأى من عيون الأرانب البيضاء ورقرقة النهر الذي يحف بحديقة القصر. صحيح أن المحافظ لم يعد موجودا, وأسرته انتقلت في زورق إلى مكان آمن, لكن من يدريني إذا ما كانت فتاة حلمي من هذه الأسرة أم لا? لعلها كانت برغم حسنها وجمال ثيابها مجرد موظفة تعمل بالقصر, فتاة تشريفات ممن يتم انتقاؤهن بعناية ليلقن بالظهور أمام ضيوف القصر الذي يحل به الرؤساء والملوك إن زاروا المدينة, فهو أحد قصور ضيافة الدولة, من يدريني أنها ليست هناك, مختبئة من شدة الرعب في أحد أركان القصر البعيدة التي لا يُستبعد وصول حوشي أهوج إليها? تلبستني روح البطولة والشهادة اللتين هما وجهان لغاية واحدة, وقررت أن أقاوم الانهيار السريع لبوابة القصر حتى أتأكد مزيدا من مغادرة فتاة حلمي له, أعدت لف السلسلة على نفسها في نوبة جزر المنجنيق المرعب قبيل معاودته للمد المريع والطرق الصاعق, وباغتني المد وأنا أوشك على إتمام عملي, فجزّت السلسلة قطعة من لحم سبابتي اليمنى ما زال أثرها باقيا. صرّت البوابة وقرقعت ودارت السلسلة على نفسها بسرعة. فرقعت حلقتا طرفي السلسلة وطار القفل الثقيل في الهواء مثل ريشة, انفجرت البوابة فاتحة مصراعيها لسيل المهاجمين الهادر, وكنت في المقدمة أغالب الطوفان وأنا أدور حول نفسي وأصرخ: (لا اعتداء على النساء.. لا اعتداء على النساء), لكنني وصراخي غمرنا الطوفان. ووجدت يدا طيبة تشدني بعيدا عن مجرى السيل, كان رجلا مسنا, أحد بستانيي القصر, قال لي: (لم يعد في المكان أحد يا بني.. لا نساء ولا رجال) أوليت وجهه العجوز الطيب نظرة خاطفة, وأدركت أنه لم يهرب كالآخرين لثقته بأن هيئته وعمره لن يغريا حتى الشيطان بالاعتداء عليه. عدوت كالمجنون ملاطما زحام المهاجمين, أصعد درجا وأعبر غرفا وأركض في أبهاء باذخة, مهجورة إلاّ من حمّى البؤساء الذين انتشروا في كل الأماكن كالجراد, وأهبط مواصلا ركضي فأجد نفسي في الحديقة المطلة على النهر, وهناك كانت الأقفاص السلكية متعددة الطوابق حيث الأرانب البيضاء ومئات الأيادي تمتد إليها, فتحطم الأقفاص, وتنطلق هاربة عشرات الأرانب التي احتضنت أحدها يوما, في حلم كالحلم!

* * *

خرجت من بوابة القصر أتابع ما يحدث من الخارج مستشعرا شين البقاء داخله, كان العرض كامل الانكشاف من الشارع بعد تهشيم زجاج السور وطيران مصاريع نوافذ القصر التي راحت تتوالى عبرها المشاهد الجنونية: من يقفز متعلقا بإحدى الثريات الفخمة ويسقط بها فنسمع رشاشا من صوت تحطم الكريستال على الرخام, ويظل هذا الصوت يتكرر دون أن نرى المنظر في الداخل, أحدهم يشد ستائر الدانتيلا لينتزعها ويشعل أطرافها ثم يدليها مشتعلة من النوافذ, قطع الأثاث الثمينة تُرمى إلى الخارج فتهوي متحطمة في الأسفل, وثمة من يمسك بأنبوبة غاز يهم بإشعالها, نسوة وعيال يعرضون على الجماهير الصاخبة - بمرح وحشي وتخلع ساخر - ملابس نسائية على شماعات وبذلات رجالية مختلفة الألوان, ومن داخل القصر الذي بدأ يحترق أسرع بالخروج حاملو حقائب السامسونايت, والمفروشات الثمينة, والسجاد, وأطقم السفرة الفضية, وأطباق وفناجين البورسلين, وفازات الكريستال والمرمر. كانت وجوههم طافحة بالنشوة, وكانت الجماهير تغمرهم بالتصفيق وهم يعرضون على الملأ ما ظفروا به من الهجوم على القصر. والغريب أن أكثرهم كان يشرع في إتلاف ما بين يديه بالدوس أو التمزيق أو التحطيم فيما يعلو الصفير المستحسن والتصفيق الحار. ودون مشاهد هذا السيرك الجنوني جميعا, وجدتني مشدودا إلى ما يحدث للأرانب.. فالحيوانات المسكينة بعد أن خرجت من أقفاصها أصابها الرعب, فمجرد إنسان واحد يفزعها, فما بال الفزع من آلاف البشر الهائجين المائجين من حولها. طاشت الأرانب تركض متفلتة بين غابة الأقدام والأيادي, وراحت هتافات المرح والضحك من ركضها اليائس تضاعف رعبها حتى شلها الرعب. كانت الأرانب تستسلم للأيادي التي أخذت تتلقفها وترفعها عاليا فوق الرءوس مع أفخاذ اللحوم المتنوعة, وأكياس الدجاج والسمك التي انتزعت من ثلاجات ومجمدات مطابخ القصر. تدوي الهتافات التي تقارن جوع (الجماهير) بتخمة (السادة), وتتلفت رءوس الأرانب وتطرف عيونها باستغراب ورعب وهي تطفو فوق بحر الجماهير الصارخة. وبعد أن أدت الأرانب دورها بين أيدي قادة الهتافات, تم انزالها لتتخطفها أيادي النسوة اللائي انضممن إلى التظاهرات من الأحياء الشعبية الفقيرة, كن يحلمن بأكلة ملوخية بالأرانب كتلك التي وضح أن المحافظ يحبها!

* * *

السلطات التي تبخرت في النهار, أعادت التكاثف في برودة المساء بعد أن خلت الشوارع من حشود المتظاهرين, جمعت قواها واستعادت ثيابها الرسمية وأخرجت عرباتها الزيتية المدججة بالسلاح والعصي والضباط الذين استعادوا هيبتهم, نشرت مخبريها, وبدأت الاعتقالات بعد منتصف الليل. كان اعتقالي محتملا لكنه لم يكن أكيدا لأنني لم أكن من قادة التظاهرات الذين رفعتهم الجماهير فوق الأكتاف ليهتفوا ويردد الآلاف هتافاتهم, كنت معارضا, لكن دوري لم يتعد الكتابة في مجلات الحائط داخل الجامعة والحديث في المؤتمرات الطلابية, أما في المظاهرات فكنت مجرد فرد بين الحشود أخجل من مجرد الصياح عاليا مع الهاتفين. مكثت في البيت حتى الثانية بعد منتصف الليل دون أن يواتيني النوم, كانت أضلعي التي انسحقت على فولاذ بوابة القصر في النهار تستيقظ آلامها ضارية في الليل, تناولت أقراصا مسكنة قوية, وما أن بدأ أثرها المسكن يظهر حتى أتى من يخبرني أن هناك حملة مداهمات تجري في الأحياء الشعبية المحيطة بالميدان القديم. أدهشني الخبر, لأن ذلك يعني أن يقبضوا على الآلاف, لكن الآتي بالخبر استطرد مبينا أنهم يقبضون فقط على من يجدون في بيتة أرنبا من أرانب المحافظ لإثبات عمليات السلب والنهب, لعلهم أرادوا أن يضيفوا شقا جنائيا للقضية التي يريدون إخراجها من إطارها السياسي لتتلطخ بجرائم التخريب والسرقة. شعرت بانتعاش مع سكون آلام صدري, وبدلا من الخلود للنوم بعد مشقة النهار الفائت, وجدتني أرتدي ثيابي وأدخل في شجار مع أبي وأمي اللذين حاولا استبقائي في البيت خوفا عليّ من الخروج في هذا الوقت من ساعات حظر التجوال التي أُعلن عنها الراديو والتلفزيون في نشرات المساء, لكنني خرجت, وقادتني قدماي المسرعتان إلى الميدان القديم. كنت أتصور أنني سأقبع في ركن من أركانه لأراقب تلك المداهمات المسكونة بالمفارقة, محاذرا أن أحتك بالمخبرين والضباط الذين انتشروا في المكان والذين كانوا مفوضين للقبض على أي إنسان لمجرد الاشتباه, لكن القبوع لعدة دقائق في أحد أركان الميدان المتوارية, ومشاهدة ملامح الاضطراب والهرج بين المخبرين والجنود وبعض الأهالي الذين تجمعوا هنا وهناك عند فوهات الشوارع المفضية إلى الميدان, كل هذا جعلني أخرج من مخبئي وأقترب مما كان يحدث. ثمة مطر غزير هطل ثم توقف بعد دقائق تاركا أرض الميدان تلمع بالبلل, والمصابيح تحوطها هالات من الضباب. ثم كانت الأرانب تظهر بيضاء مرتابة, خارجة من الشوارع, وسرعان ماتردها للدخول في الشوارع من جديد ضربات خيزرانات المخبرين وتهويشات عصي جنود الأمن, والطرقات على كعوب البنادق, وصيحات الضباط الحانقة. كان المطلوب أن تكون الأرانب داخل البيوت لضبط أصحابها متلبسين بالجرم, وبعد القبض على اثنين من المواطنين بهذه الطريقة طارت التحذيرات فوق الأسطح, وعبر الحيطان الهشة المكونة من السدة والصفيح والطوب العاري, تنبه إلى ضرورة الإسراع في إخراج الأرانب وإبعادها عن البيوت. بدأت المعركة في صمت وحذر من جانب الأهالي, وخشونة واندفاع من جانب فرق الأمن. هؤلاء يزلقون الأرانب خارج فتحات أبوابهم المواربة ويهشونها بهمس لتبتعد, وأولئك يقفون في وجهها ويدفعونها إلى الخلف بعصيهم وكعوب بنادقهم وركلات الأحذية الثقيلة. ثم تحول النزال إلى تحد مكشوف من قبل الأهالي.. أطلقوا عيالهم لإبعاد الأرانب عن بيوتهم, ومن يلوم العيال?! ثم دعموا جهود عيالهم بإصدار ضجيج هائل يفزع الأرانب ليخرجها كلية من الشوارع باتجاه الميدان: صفير, وطرق على الأبواب, والصفائح, وقرع للأواني بأغطيتها, ودق هاونات نحاسية, صيحات مدوية, وصراخ, بل كانت هناك زغاريد تنطلق من أجواف تلك البيوت البائسة!

هرج عظيم اشتعل في المنطقة وظل متوهجا حتى الفجر دون أن تتمكن قوات الأمن من إعادة أرنب واحد إلى داخل البيت الذي كان فيه, واتخذت محاولات رد الأرانب إلى داخل الشوارع والبيوت طابعا وحشيا من قبل الأمن, إذ راحت تهويشات العصي الثقيلة وطرقات كعوب البنادق على الأسفلت وركلات أحذية البيادة, تتوجه كلها لإصابة رءوس الأرانب وأجسامها بشكل مباشر. أخذ الدم يظهر على الرءوس الصغيرة والآذان الطويلة المتأرجحة والفراء الأبيض. في البدء كنت أراقب ما يحدث بتقدير (تراجو كوميدي) لوقائع المسخرة, ومع بدء تلطيخ الدماء للبياض الناصع الذي ضممته إلى صدري في يوم رهيف بدأت أسخن, وكدت أوقع نفسي بين أيادي قوات الأمن في تلك الليلة, لكن عنصرا غامضا تدخّل مغيرا المشهد تغييرا مفاجئا, أسكتني, وأسكت الهرج والضوضاء وضربات العصي وكعوب البنادق والأحذية الثقيلة والزغاريد والصيحات وجمّد كل الفرقاء في أماكنهم. لقد ظهر نور الفجر, كأنما بغتة, وضاعفته مرايا الميدان والشوارع المبلولة فكان في قوة نور الصبح.. وفي هذا النور اكتشف الجميع اختفاء الأرانب!

ظن الضباط والمخبرون أنها تسللت إلى البيوت خفية, لكن تفتيشا عدوانيا دقيقا وشاملا استمر حتى ظهيرة اليوم التالي, لم يسفر عن شيء, واكتفى الأمن بالقبض على من وجدوا بين أوانيه حلة ملوخية بالأرانب, أو حتى من دونها! أما أنا, فقد انصرفت مع الشروق دائخا من قلة النوم وكثافة التداعيات, لم أرجع إلى بيتنا حذر الاعتقال, بل تواريت في بيت أقارب لي, وقبض عليّ بعد ذلك بيومين وأنا أوزع منشورات تطالب بالإفراج عن زملائي من الطلبة المعتقلين.

* * *

ستة وعشرون عاما مضت, وأعود إلى ليل المكان ذاته, الميدان القديم, في ظلمة أحلك من ظلمة تلك الليلة البعيدة, أنتظر ظهورا غريبا لأرانب بيضاء تتجلى في هذا السواد السابغ. عشرات من الناس تجمعوا في أركان الميدان المواربة ينتظرون الأعجوبة, وعشرات مثلهم كنت أستطيع لمح رءوسهم في الشرفات والنوافذ المطلة على الميدان, يتطلعون إلى الظلمة. لقد عرفت بعض التفاصيل عن تلك الأرانب التي ارتبطت بجزء ملون من عمري العزيز البعيد, فهي من نوع (البوسكات), تتميز إضافة إلى فرائها الأبيض الناصع الناعم الغزير بنمو متسارع يجعلها في حجم حملان صغيرة وهي في عمر شهور قليلة, عيونها ذات أحداق قرنفلية, وحركتها المتأنية مرنة, تبدو أقرب إلى التساحب برغم أنها عند الضرورة تقفز قفزات واسعة عالية, وتجري بسرعة كبيرة لمسافات محدودة. كان عددها في (بطاريات) الأرانب بالقصر 98 أرنبا, عُثر على ثلاثة منها ميتة في حديقة القصر, وثلاثة أخرى ميتة في شوارع منطقة الميدان القديم, وتم ضبط أربعة منها مطبوخة في أربعة بيوت فقيرة, اثنان منها مع الملوخية واثنان من دونها, وضبطت امرأتان تمران باثنين منها أمام مركز شرطة القسم الثاني عصر يوم المظاهرات, ولم تسفر حملة مداهمات ليلة الأربعاء إلا عن أرنبين في بيتين تم القبض على صاحبيهما, أما الأرانب المتبقية وعددها 84 فالأرجح أن معظمها كان في موقعة الميدان التي انتهت بذلك الاختفاء الغامض عند الفجر. لقد قيل الكثير في تفسير سر اختفاء تلك الأرانب يومها, ابتداء من أنها وجدت شقوقا بين جدران البيوت المتداعية وغاصت فيها, مرورا بأنها تساقطت في بالوعة صرف مفتوحة أو أسقطت نفسها عمدا لتهرب من البشر, سواء هؤلاء الذين يطحنون عظامها بعصيهم وكعوب بنادقهم وأحذيتهم العسكرية الثقيلة أو أولئك الذين يجعلهم الجوع المزمن يتنمرون ويتعجلون سلخها ولو حيّة لطبخها والتهامها, وانتهاء بالتفسيرات الخارقة التي تضفي طابعا سحريا على هذه الأرانب ولغز اختفائها الغامض. وها هي ست وعشرون سنة تمر, ولا يزال اللغز لغزا. تغير الميدان تغيرا وحشيا, تكاثرت على محيطه الأبراج السكنية والإدارية حوشية الهيئات والألوان, وظل ما وراء هذه الأبراج يكشف عن أن شيئا لم يتغير, بل تفاقم, فالبيوت البائسة لا تزال بقاياها في أماكنها وإن تردت أكثر, وما أزيح منها عاد يتجمع عند الأطراف البعيدة, في شكل عشش من القش وبيوت من الطين والصفيح, يسكنها من يخبئون في جوعهم المزمن استعدادا لسلخ أي أرانب وهي حية, وأكلها ولو نيئة. ستة وعشرون عاما لم تكف لحل لغز كائنات بسيطة, ونزال دميم, لم يُحسم, فهل أجد في عمق هذه الليلة حلا للغز الذي عاش معي ومع المدينة التي كانت جميلة, كل هذا العمر?!

أتت الساعة الثالثة الحالكة بتثاقل هامد.. كان أسفلت الميدان مبلولا بأثر مطر عجول كما في هذا الوقت من السنة, ولم تكن مرايا الميدان المبلول تلمع لأن الظلمة بدت كاملة وشاملة, فلا قمر في السماء ولا نجوم يرتعش ضوؤها في الصفاء المفتقد. كنت أنتظر الأرانب, وغيري كثيرون ينتظرون.. وخلسة, خلسة بلا مباغتة, رأيت, أو أظنني رأيت, قطعا من ظلال بيضاء تنساب صامتة في دائرة الميدان السوداء, تحت أقدام البيوت والعمائر العالية, تتكاثر وتتلاصق حتى يبدو سواد الميدان وقد ترقط ببياضها الخفيف المتقلب, وهي تدور وتمور وإن في ونى وهمود. ثقل قلبي في صدري, وكنت أسائل نفسي عن حقيقة ما أراه!

 

محمد المخزنجي