أسطورة الطاغية ... وثقافة العنف والصمت
أسطورة الطاغية ... وثقافة العنف والصمت
في زمن الالتباس الذي يخيّم على كثير من الأمور, لابد من تكرار التأكيد على أن مَن يهمه حقاً العراق بلداً وشعباً من أدباء وفنّاني العراق الأسوياء, يتوجب عليه أن يقف مع الكشف عن جراحه, لا التستّر عليها تحت أي ذريعة, فالخوف يولّد مزيداً من الخوف, ولن ينقذ العراق من ظلمائه إلا شجاعة قول الحق والوقوف العلني ضد كل الجرائم والمنكرات والكبائر التي أغرقت العراق في بحور من الدم والوحشية.
(إن الطاغية يصنع شعبه على شاكلته) عبارة مرعبة أطلقها الكاتب الألباني إسماعيل قدري (كادري), أحد الكتّاب العالميين الذين شغلهم فكرياً وفنياً معالجة أساليب وطرائق النظم الديكتاتورية وعواقبها الوخيمة, وكان المختبر الذي استخدمه وأجرى تجاربه عليه هو بلده (ألبانيا) في ظل ديكتاتورها الراحل (أنور خوجة). ورغم أن ذلك المختبر الألباني ومعطياته لا يختلفان في المؤشرات العامة عن أي موقع آخر أنهكه نظام حكم ديكتاتوري, أيّاً كانت اللافتة الأيديولوجية التي يحملها, وأيّا كان البلد الذي يجثم على أنفاسه, فإن القول بأن الطاغية يصنع شعباً على شاكلته, فيه من المبالغة ما يوحي بالقدرة الكلية للطاغية, أي طاغية, حتى أن القائل به يكاد يقع في دائرة الخلط المتعمد الذي تصطنعه النظم الديكتاتورية - عبر أجهزتها وأدواتها الدعائية - لتعميق الإيحاء والإيهام بالقدرة الكلية, والأسطورية للديكتاتور. وهو ما تقطع بعدم صحته وفساده وبخطئه وقائع التاريخ الإنساني قريبه وبعيده على حد سواء, والتي تشهد بأن الديكتاتور لحظة تداعيه وانهيار نظامه يكشف عن هشاشة تدعو للرثاء, ومهزلة تستدعي التعجب من قدرة هكذا دمية على إرهاب واستعباد شعوب وأمم لسنين بل عقود طويلة مريرة! فليس للطغاة قدرات كلية ولا أسطورية, ومن ثم تتقلص قدرتهم على المسخ والتشويه في حدود تحويل قطاعات محدودة من الشعوب إلى ظلال للطاغية وأبواق له وتوابع وجلادين ينكشف خواؤهم وجبنهم جميعاً في لحظات السقوط التي لا تستثني طاغية ما, منذ نيرون روما إلى شاوشيسكو بوخارست في عصرنا الراهن. قطاعات محدودة تتشوه ويصيبها المسخ بين الشعوب في ظل الطغاة, وهذا يعني أن قطاعات أعرض وأوسع تقاوم وتتجلّد, وتأخذ هذه المقاومة أشكالاً وصوراً مختلفة, لعل أبرزها وأوسعها مساحة هي المقاومة بالصمت الذي يصنع واقعاً اسمه (الأغلبية الصامتة). ومن أبرز قطاعات الشعوب التي تظهر مقاومة للطغيان يأتي الأدباء والفنانون والمفكرون, الذين تركوا تراثا بارزا في مقاومة الطغيان فريدا في تنوع أساليبه, ويكاد هذا التنوع يستعصي على الحصر, فثمة استخدام للغة الصمت التي تنطلق أحيانا بما يصعب التفوّه به, وثمة استثمار للغة المجاز التي لا تنتهي كناياتها واستعاراتها ورموزها, ولنا أن نعد في ذلك أعمالاً في تراثنا العربي شهيرة, كـ(كليلة ودمنة), و(ألف ليلة وليلة), وفي التراث العالمي (دون كيشوت) وحشد هائل من الروايات والمسرحيات والأفلام واللوحات الفنية والقصائد والأغاني والأهازيج الشعبية والغطاوي, تكاد تغطي قارات الأرض جميعا من أوربا فرانكو (إسبانيا) وبوكاسا إفريقيا, حتى أولئك الطغاة في أمريكا اللاتينية الذين أضحكنا عليهم روائيون عظام من تلك البلدان مثل أستورياس في (البابا الأخضر) و(ماركيز (النوبلي) في (خريف البطريرك) وهو ضحك شديد يصل إلى حد يوجع البطن!, ويؤكد كذب المشيئة الكلية للطغاة الديناصورات, والذين هم ليسوا أكثر من ديناصورات من ورق! إذن فإننا نرى أن مقاومة الأدب والفن للطغاة تشكّل القاعدة الأبرز والأوضح في نضال الشعوب, وبالتالي يكون امتثال حفنة من المحسوبين على تيار الأدب والفن لمشيئة الطغاة والطغيان نوعاَ من التشوه الفاضح لمن يفترض أنهم نخبة مميزة في مجتمعاتهم, وهذا لا يعني تحميلهم منفردين عبء الإدانة, بل حجم الإدانة الأكبر ينبغي أن يحمل للديكتاتورية وبشاعتها في تشويه ما يفترض أنه ينتمي - بالبداهة - لجمالية الإبداع البشري بشكل عام. أذرع جمهورية الخوف هذه المقدمة وخواطرها تداعت إلى الذهن في مواجهة الاطلاع على وثيقة أدبية نقدية تلقيتها أخيراً, يشكلها كتاب صدر عن أحد (المنافي العراقية) في عهد الطاغية صدام حسين, فثمة أكثر من ثلاثة ملايين من العراقيين - والمثقفون منهم خاصة - دفعهم جور وقسوة هذا النظام إلى مغادرة وطنهم والانتشار في بلدان العالم المختلفة, يكابدون الأسى, والبؤس, ولوعة الاغتراب, والغرق المعنوي, والفعلي أحيانا - زوارق اللاجئين لا تكفّ عن الشهادة بذلك في بحور الشمال والجنوب من الكرة الأرضية ــ. الكتاب/ الوثيقة هو (ثقافة العنف في العراق) للناقد العراقي المنفي - الذي يعيش حالياً في السويد - (سلام عبود) وهو من منشورات (دار الجمل) التي أسسها منفى عراقي آخر بمدينة كولونيا بألمانيا (خالد الجمالي), يقول المؤلف مبرراً كتابه النقدي هذا: (الدوافع التي تقف وراء كتابة هذا الموضوع كثيرة وفي مقدمتها حال الالتباس السياسي في الوضع العراقي وما يلازمها من تعقيد فكري وسلوكي/ وهو محاولة لإعادة النظر في بعض الأمور الثقافية - الاجتماعية, وهو أمر يتحرج الجميع من الدخول فيه, لما يجرّه من عواقب لا يحب الناس التورط فيها, أو يفضلون - على الأغلب - النأي بأنفسهم عنها, وترك من هم أكثر تعطّشاً منهم لتحمّل الأذى - وهم قلة نادرة - إلى تحمّل أعبائها). من هذه السطور نستدل على المدى الذي وصلت إليه الحال في (جمهورية الخوف), إذ مدت شبكة شرورها لإلحاق الأذى حتى بمن صاروا وراء الحدود, إن استطاعت إلى ذلك سبيلا! وبرغم أن الكتاب يقتصر على معالجة موضوع واحد من مواضيع التشويه التي لحقت بالإبداع العراقي, وهو موضوع (الحرب في الأدب), خاصة الحرب العراقية - الإيرانية, أو ما يسمى بحرب الخليج الأولى, فإن رصد الآليات التي تم بها مسخ كثير من المبدعين تحت هذه اللافتة, يكشف مأساوية العسف المعنوي قبل المادي, والذي من خلاله مُسخ بعض الإبداع وكثير من المبدعين لمسايرة تسويغ الديكتاتور ونظامه للاستمرار في عبثية تلك الحرب التي جرى إهدار عوائدها الضئيلة, في نهاية المطاف, بجرة قلم, عندما شرعت الديكتاتورية مرة أخرى في التدشين لدخول حرب أخرى, إذ بات من المؤكد أن هذه الديكتاتورية لا تستطيع الاستمرار إلا في ظل الحرائق والحروب والدمار, حرائق وحطام الوطن والمواطنين في الداخل أولاً, ثم حرائق وحطام ما يمكن إحراقه وتحطيمه في الجوار بعد ذلك! إن الحرب, كتجربة إنسانية عميقة, لشدة قسوتها خلقت في تاريخ الأدب والفن ملاحم عميقة التأثير, امتد التأمل الإبداعي خلالها ليسبر أغوار أسئلة الوجود الكبرى لدى الكائن البشري, من حياة وموت وحب وصراع, هكذا كانت روايات (الحرب والسلام) للروسي تولستوي و(لا جديد في الجبهة الغربية) لإريك ماريا ريمارك, و(الأمل) للفرنسي أندريه مارلو, و(ثلاثة جنود) لدون باسوس, و(وداعاَ للسلاح) للأمريكي همنجواي, و(الدون الهادئ) للروسي شولوخوف... إلى آخر تلك القائمة العظيمة من الأعمال الإبداعية التي سبرت أغوار النفس البشرية من خلال الغوص في ما تولده الحروب ودمارها للإنسان. لكن في ظل إرهاب السلطة الحاكمة في العراق داخلياً والصراخ الأيديولوجي ضيق الأفق, ونظام العرفاء السطحي والجاهل الغبي, أفرز ما يسمى بـ(أدب الحرب) في عراق جمهورية الخوف, إن جاز لنا تسميته كذلك, مسوخاً نصية, وبما أن النص - أي نص - يشكّل كاتبه كما يشكله الكاتب, فقد أجرت هذه المسوخ النصية (التي سميت أدب الحرب) أكبر حركة مسخ إبداعي لعشرات من القصّاصين والروائيين والشعراء العراقيين, وهو ما يتوقف عنده الكتاب النقدي / الوثيقة بالأسماء وقراءة الأعمال وإثبات المقتطفات وبها يتم تسجيل الجريمة. مصيدة مرعبة أقامها نظام متسلط وقاس وتسطيحي لأدباء وشعراء وطنه, وكان مطلوبا منهم ليس أقل من تبرير وتنظير وتمجيد مغامرة العنف المتواصل الذي يمد هذا النظام بمقومات وجوده واستمراريته. وقائع مريرة عدة, يحصيها هذا الكتاب, وتحصي مأساة مَن سقطوا داخل هذه المصيدة, فأصبحوا جزءاً منها, وأحزان المتحايلين للإفلات من الوقوع بين أسنانها الوحشية. يتساءل سلام عبود: (كيف يعبّر عن نفسه أديب وجد أن الحرب خراب بشع, لا يمكن تأييده, ولا يمكن قبوله إلا على أنه فعل جنوني مدمّر ولاإنساني? مثل هذا الأديب لا يمكن بأي حال أن يقول كلمته في وطن يحكمه صدام أو هتلر, إلا بطريقتين: أولاهما أن يتحامق ويكتب علناً, فيكتب في الوقت ذاته وصية موته, أو أن يصمت). أحد الذين اختاروا الصمت عن هذه الحرب هو الشاعر العراقي الأشهر عبدالوهاب البياتي, فتعامل مع الخراب الماثل أمامه من خلالها وكأنه لم يره ولم يسمع به!, لذلك لم يكن ملزما أن يتحدث عنه, لقد فضّل أن يهرب بقصائده نحو طواسين السماء علها تُنجيه من شرور الحرب العبثية الدائرة على الأرض! (... ربما لم يكن يهوى أن يكون بطلاً, مثل نيرودا وحكمت ولوركا, لكنه كان يقيناً يعرف أن الحرب, أي حرب, هي عدو الشاعر الأول قبل أن تكون عدو الشعب, لقد رحل - رحمه الله - وفمه نظيف تماماً مما يسيء إلى الحرب!! وتلك طريقة في مواجهة الحرب سواء أخذها بعض سيئي النوايا كشماتة أو أخذت كعظة, وكلا الأمرين مرّ وقاسٍ). الصمت مرضا ومراوغة شاعر آخر هو رشدي عامل, اختار الصمت بدوره عن هذه الحرب واعتزل الناس, ولم يعد هناك من يصاحبه في وحدته هذه غير الغيبوبة والمرض, واتهمه نقّاد النظام بـ(الرومانسية)! وهي تهمة كانت تساوي الخيانة العظمى في حينها. وعندما حوصر الشاعر بالسؤال - من مجلة (حراس الوطن) عن صمته, اضطر للإجابة التي كانت مزيجاً من العذاب المغموس بالصمت: (ليست هناك فترات من الصمت مرّت علي أبداً, إن الشعر هو الصمت في أعذب حالاته وأصدقها, لم أكن يوماً صامتاً, فالصمت يعني الموت الأكيد, وأحيانا يغدو الصمت صوتاً بوجه كل ما يعكّر الحياة للناس, وأحياناً يغدو الصمت هو الحرية التي يمارسها الإنسان). على الأقل حاول هذا الشاعر أن يقاوم الطغيان والحرب العبثية بالصمت, لكن غيره سطروا الدواوين والمجلدات في تبرير وتمجيد تلك الحرب بدلاً من كشف زيفها وخديعتها مبكرا حفاظا على الكرامة الإنسانية, وتحجيماً للديكتاتورية المنفلتة. لقد كان المطلوب من الأدباء العراقيين التعبير عن الحرب ليس كمأزق إنساني تطفو على سطح عذاباته أسئلة الوجود الإنساني, بل كان مطلوبا منهم - ومن غيرهم - التهليل والتسويغ للعنف الذي تدور به عجلة الحرب المسعورة والمجنونة. اختار البعض الصمت كالمثالين السابقين, وكان هناك صمت ثالث عن عبثية وقسوة هذه الحرب بالخروج من زمنها والالتصاق بعوالم تنبذها كما فعل القاص (حمد خضير) الذي اكتشف اسطرلاباً خاصاً لتأمل العالم, وأنشأ برجاً للرؤية ينظر عبره إلى روحه المزهوقة أمامه في جبهات الحرب وفي الشوارع. وقد عبَّر عن اختياره ذلك بالقول: (تنتظرون مني تقديم (رؤية) عما يسمى تجربة الكتابة, بينما أعيش منذ ثماني سنوات (يعني سنوات تلك الحرب) في حقل (رؤيا) لا حدود زمانية أو مكانية لمساحتها, إن إشاراتها الآتية من صمت الكهوف الأولى أو من أبراج المعرفة القديمة تحيط بي أينما خطوت وكيفما أمسكت قلمي). بموازاة آليات الصمت تلك وتحت وطأة نظام تسلطي لا يعرف التعامل بغير أدوات العنف - بمختلف أشكالها - في التعامل مع المختلفين معه, ولو أدبيا وفنيا! تداعت إلى مصيدة تمجيد العنف عشرات بل مئات - وربما آلاف ــ من نصوص القصص والروايات والقصائد, وتداعى مبدعوها في واحدة من تظاهرات المغالطة التاريخية العجيبة, التي جعلت من أقلام الكتّاب سكاكين جزارين وشعلات مضرمي حرائق, لمماشاة ومسايرة هوس وجنون العنف لدى الديكتاتور ونظامه الدموي, وهي تظاهرة تدعو للأسى على المنخرطين فيها باعتبارهم جناة وضحايا في الوقت نفسه, ضحايا لمن زج بهم في هذه المغالطة المشينة, وضحايا لمساهماتهم ذاتها بمنطق أن النصوص تصنع كاتبها. ولنتأمل: يقول أحمد خلف في قصته (نقطة تماس) (أطلقت عليه طلقتين, ثم ثالثة وقلت الرابعة من أجل عيون الزوجة!! وكان للنصل وهو يغوص في صدره صوت كصوت قطعة خزف كبيرة تلقى من شاهق. هل تتذكر البغل الذي ألقى بنفسه من المرتفع). ويكتب الشاعر (علي الشلاه) في قصيدته (العراق): ويردد محمد حسين آل ياسين في قصيدته (العرضيات): (مشينا لساحات النضال وتربها/ يهلل ترحيبا بنا ويكبر وإن ضمنا في جانحيه معسكر/ ففي كل نبض من دمانا معسكر). وفي قصة فهمي الصالح (لقاء مشتعل): (أثناء عودتي إلى البيت عقب ستين يوما مع الحرب دفعة واحدة... قالت لي أمي وهي تبكي فرحا على عودتي سالما: لو أعلم بأنك تتعذب هكذا لخنقتك في مهدك رضيعا)! أما في قصة عبدالستار ناصر (في ليل الخندق) يقول: (الدماء تسيل والجثث مازالت طرية ولذيذة للغربان والحشرات ودود الأرض)!! ويغني الشاعر محمد جميل شلش في قصيدته (يوميات زوجة قتيل): (الموت حق يا أبو لؤي/ والموت حلو حين يمليه نداء حي/ والموت أحلى/ حين يدعونا إليه/ الفارس أبو عدي)!! ويكاد الشاعر عدنان الصانع يعترف: (قال العريف: هو الموت لا يقبل الطرح والجمع/ فاختر لنفسك ثقبا بحجم أمانيك/ هذا زمان الثقوب). وتكتب بثينة الناصري في قصتها (عودة الأسير): (يعود الأسير إلى أهله بعد غيبة دامت أكثر من عقد/ لكن ابنه (الذي تربى في مدرسة الجبهة) يقول له: كنت أريد أن تظل شهيدا في عيون أصدقائي, كيف أريهم وجهي بعد اليوم?)! كانت تلك مجرد (نماذج) موجزة مما حدث في حقل ثقافة العنف في العراق والتي رعتها الديكتاتورية لتبرير وتمرير نزوعها الذاتي للعنف كسلطة مستبدة ترتكز على ركني الفاشية الأساسيين في كل زمان ومكان وهما: القسوة والقوة. ومن الناحية النفسية والتبريرية فإن ركنيها يصبحان القتل بضمير مستريح والتلذذ بالقتل. وإذا كان مفهوما أن هذين الركنين هما لازمان لاستمرار - ولو إلى حين - تلك السلطة في موقع الحكم, فإن تسرب ظلال هذين الركنين إلى التعبير الأدبي - حتى لو كان عن موضوع الحرب - يصبح هو الخراب الحقيقي والمؤشر الأكثر وضوحاً إلى نفوذ ونفاذ ثقافة العنف في ظل نظام صدام حسين, يوحيان بقسوة وقوة تمرير هذا المحتوى المشوه إلى حقل الإبداع الفني, نصوصا وكاتبين ورسّامين وشعراء. إنه تشويه وتشوه هائلان امتدا ليس فقط إلى بديهيات السلوك الإنساني التي تعبر عنها هذه النصوص وهؤلاء الكتاب والشعراء من حيث تقبيح وتشويه الفطرة والمشاعر والعلاقات الإنسانية, بل امتد للعصف بمنجزات العملية الإبداعية أيضا. وهو تشويه قسري, ومأساويته أنه هروب من قمع السلطة إلى قمع الذات المبدعة, وهو ضريبة مرة للعيش في (وطن متخصص في قتل أبنائه) على حد تعبير سلام عبود, وكان أفضل لو قال النظام الذي يقتل أبناءه, بل هو النظام الذي يقتل الوطن ومواطنيه على السواء, وهم - الأدباء والذين سايروه - يفلتون أعناقهم من بين قبضته القاتلة بتقديم قرابين القصص والقصائد التي تبرر وحشيته وتؤبدها وتمهد لظهور طغاة جدد. (في ظل ثقافة قائمة على تدمير الضمير, يكون التعبير الفني ضرباً من ملاعبة الأفاعي السامة). - يقول الناقد, ويضيف مفسراً ذلك بعدم وجود حيز للإبداع, لأنه لا توجد مساحة لمساءلة الواقع, ولا توجد مساحة للصدق في التعبير عما يجري. وفي دائرة ملاعبة الأفاعي هذه, تولدت كتابة بلا هدف, وولدت قصص وقصائد بلا مغزى, إلا تمجيد لعبة الموت التي تديرها عصابة من (السوقة) - على حد تعبير الكاتب, ولدت نصوص فجة فنيا وعدوانية فكريا, وتكرست انحرافات أدبية كالسطو على نماذج الآخرين وتحريفها لخدمة البوق الجديد, كحادث السطو الذي قام به قصاص على نص (قناديل لمندلي المقتولة) للشاعرة الكبيرة نازك الملائكة منشور قبل نص السارق بأعوام عديدة, وكانت الشاعرة بعيدة تماما عن لعبة إثارة الأحقاد التي مارسها السارق في نصه, إذ كانت تصف بمسئولية وخشية عاليتين صلة القرابة التاريخية التي تربط بين الشعبين الجارين. ماذا كانت نتيجة ذلك على المبدع نفسه? سؤال يجيب عنه الكتاب بمقولة حدوث شرخ فـــي ذات الكاتـــب العراقي ــ الذي وقع في مصيدة ثقافة العـــنف هذه ــ فكانت هناك تراجعات لم يعلن عنها إلا بعد الهروب إلى المنافي البعيدة, وكانت هناك خسائر روحية لا شك فيها, علاماتها تلك الصور الأدبية التي, هي بحق, وثائق ناطقة تعبر بوضوح تام عن واحدة من أفدح وجوه خسائر العراق المبدع الروحية, (فاستمراء منطق احتلال الآخرين, وشيوع لغة الفتح والفتك, كانا المقدمة المنطقية لإباحة احتلال أرواح الأمهات والأخوات والآباء والأبناء, والفتك بهم دون رحمة). بحثاً عن أفق يقرر الكاتب في كتابه اعتبار الأدباء الذين خضعوا لثقافة العنف شركاء أصليين في جريمة النظام المستمرة, وهو صحيح - في رأيي - بالنسبة لعدد ليس بالقليل من الأسماء اللامعة التي تصدرت قبل الحرب وبعدها, وحتى جريمة حرب غزو الكويت حيث لعبوا دوراً غوغائياً في تبريرها وتزييف حقائقها, وهؤلاء في غالبيتهم هم الأعضاء القياديون في التنظيمات الحزبية, وأستطيع أن أضيف أنهم كانوا, ومنذ البداية, جزءاً من الأجهزة الأمنية والاستخباراتية السريّة, وعلى رأسهم أسماء - لايزال البعض يعتبرها وطنية وأدبية - شاركت مباشرة في اضطهاد وتعذيب وقتل أسماء مهمة في مجال الإبداع الأدبي والفني في العراق. ولكن لابأس من أن نختلف قليلا مع الكاتب في أننا نرى قائمة طويلة أيضا من هؤلاء هم ضحايا لهذا النظام ونتاج لاإرادي, وقسري, لعنفه ووحشيته الذي طال حتى استخدام الزوجات والأطفال في الانتقام. أما الأمر الثاني الذي نراه صحيحاً ونتفق مع الكاتب فيه, فهو رفض أي سعي لتبرير ما حدث ويحدث في عراق صدام حسين على أنه جزء من الإرث الثقافي العراقي, فالعراق, بغض النظر عمّا مرّ به من سنوات متتالية من العنف والدماء والقهر المتواصل مع تغير أنواع وأسماء الأنظمة, لا يمكن اختزاله في التصفيات الدموية بين الفرقاء السياسيين, والانقلابات التي تعتمد لغة القتل والاغتيال, فهذه لغة معزولة برغم سطوتها وعمق تأثيرها. لكن اللغة الأكثر تواصلا وحياة وعمقا هي لغة عراق الشعر والأدب والفن, عراق السياب ونازك الملائكة, وشجن الغناء, وطيور الأهوار المغدورة, ولوحات الفنانين التشكيليين البارعين, وهي اللغة التي ستبقى - في النهاية - بعد أن تأكل لغة ثقافة العنف نفسها, ويضع العراق نفسه على طريق الديمقراطية والحوار السلمي وهو قادم بلا ريب.
|