العربية وحقيقتها التاريخية

العربية وحقيقتها التاريخية

إذا صح العزم منا نحن العرب على تجاوز أدبيّات المعرفة للدخول رأساً إلى دائرة المعرفة ذاتها يتعين علينا أن نؤكد الميثاق العلمي الصارم الذي أصبح يحكم التفكير الإنساني في موضوع اللغة.

ليس المقصود بالميثاق العلمي أن المعرفة قد حسمت كل القضايا المبسوطة على الفكر في أمر اللغة ولاسيما علاقتها بالتفكير, ولكن المقصود هو أن المعالجة اللغوية أصبحت تمر حتما عبر المعالجة العقلية, ولم يعد الإسهام في الجدل المعرفي مقبولا إذا ما قام على الظنيّات أو التخمينات التقريبية, فالأمر اليوم في شأن اللغة كالأمر في مواضيع العلوم الدقيقة: إما أن نعرف فنجادل وإما أننا لا نعرف فأولى بنا أن نستكمل الأدوات الأولية الضرورية.

والسبب الذي دفع إلى هذه الحدة في الحسم, وألغى حق الناس جميعهم في تداول أمر اللغة ما لم يحصّلوا علمها الضروري هو ذلك التغير المباغت في حقول المعرفة, فلقد انفجر مجال جديد يسمى (علم الإدراك) أركانه هي البيولوجيا العصبية وعلوم الحاسوب والعلم اللغوي, وهذا المجال الجديد هو الآن - بعد عقد ونصف العقد من الترسخ - من أشد العلوم دقة ومن أعتاها سطوة.

أما ما يشدنا بشكل خاص فهو عكوف اللغويين على إعادة طرح الأسئلة حول كيفية اشتغال اللغة وحول كيفية اشتغال الفكر عند تعامله مع اللغة وذلك من خلال مقارنة العقل البشري بالعقل الآلي. والسؤال المطروح علينا ونحن على عتبة هذا العلم الجديد: كيف السبيل إلى انخراطنا - نحن العرب - في ميثاق المعرفة آخذين في الحسبان العلاقة الاستثنائية القائمة بيننا وبين اللغة عامة ولغتنا العربية تخصيصا?

علاقة لغوية متوترة

إننا حيثما حللنا بين الناس وجدنا الواحد منهم يتحدث عن لغته بما عليه لغته الآن, وقد ينتقل إلى الحديث عنها بما هي لغته كما كانت في زمن مضى منذ قرن أو منذ قرون, وفي كلتا الحالين هو واع تمام الوعي أن الزمن قد أقام بينه وبين لغته القومية رابطتين اثنتين: رابطة تاريخية ماضية, وأخرى راهنة حاضرة, وهو يعيش في هذه التي هي الحاضرة ولكنه لا ينكر تلك التي هي الماضية, وإنما يعرف أنها قد فارقته لأنها فارقت حاجاته, فهو يجلها ويُكرم أهلها ولكنه على يقين بأنه لا يلتقي بها إلا لقاء الدرس أو لقاء لحظة الإبداع الاستثنائي, وهو في كل الأحوال لا يَخْلط بين النمطين حتى وإن استعصى عليه إفهامنا كيف تنفصل هذه عن تلك, ويكفي أن الحس اللغوي لا يخدعه فترى الواحد من هؤلاء يقول وقد استمع إلى خطيب يلقي كلاما من غير كلامه وقد فهمه: (إنه يتحدث بلغة شكسبير), ويقول جاره في لحظة مماثلة: (ما له يتكلم بلغة رابلاي أو بلغة موليير).

أما العربي فمهما تباعدت مسافة ما بين درجة الفصاحة التي هو عليها قادر ودرجة البيان التي يأتيه عليها كلام المتكلمين أو تأليف المؤلفين فإنه لا يستشعر أي انفصام زمني يحول بينه وبين اندراجه ضمن دائرة التاريخ, أو يحول بينه وبين استقرار التاريخ في صميم وعيه الذاتي: إنه في كلتا الحالين يتعامل مع اللغة من منطلق التسليم بأنه في لحظته الراهنة ينتمي إلى هذه وإلى تلك, وأنهما معا تنتميان إليه, هذه هي منه وإليه وإن لم يقدر على صنوها, وتلك هي أداته التي تُثبت له أنه ينتمي إلى التي لا يقدر على أن يأتي بمثلها, انتماءه إلى التي يأتيها وتأتيه.

إن أي مستوى من مستويات غياب الزمن هو في وعي العربي مستوى وارد ومحتمل ومقبول في هذه اللحظة التي هو فيها من الزمن التاريخي.

فإن كان مستوى طيعا يسيرا هينا فهو من بعض تلك اللغة التي قصّ بها علينا عمر بن أبي ربيعة محاوراته. وإن هو جاء على أداء صلد جَموح عنيد فلا ضرورة أن ننسبه إلى أبي الفرج الأصفهاني ولا إلى أبي حامد الغزالي ولا إلى القاضي عبدالجبار.

الأمران سيّان: أن تقول هذا من لغة طه حسين أو هذا من لغة الرافعي أو أن تقول هذا من لغة ابن عربي يجيء به محمود المسعدي أو هو من لغة النفري يأتي به جمال الغيطاني, فالزمن التاريخي في كل الحالات غائب أو منحجب وإنما ينوبه الزمن الحضاري الذي يرتب اللغة مراتب من الفصاحة ليس لأي مرتبة منها فضل على سائر المراتب من حيث مشروعية الحضور معنا: إذا كتبت بنسق من الأداء تنحته نحتا على مناويل الذاكرة اللغوية لم تكن مغتربا في الزمن, لأنك لم ترحل إلى التاريخ, ولم تسافر إلى الماضي.

إن الأداء اللغوي عند الآخرين هو إما مُفارق وإما محايث (معاصر).

هو محايث إذا ما بنى الواحد من هؤلاء خطابه على آليات التداول المعيش, واقتفى آثار التواصل التي بها يتم التراسل, والإعلام, وقضاء الأوطار, والتعليم, كما تتم بها كتابة الرواية والنص المسرحي ونصوص السينما وكلمات الأغاني.

وهو مفارق حيثما نبا السامع نبوة فأشرقت ملامحه غبطة وتلذذا, أو كزّ خاطره كزّا فتجافت عن الكلام مسامعه.

هو مفارق كلما أيقظ الكلام سامعه بأنه كلام ليس ككلامه أو بأنه كلام مستل من الذاكرة في مناويله اللفظية والتركيبية.

أما العربي - سواء أقصدنا به المتكلم أو السامع أو الباحث في اللغة والكاشف عن أسرارها - فإن العربية لديه هي دوما لغة محايثة: تتفاوت منازل الكيف فيها وتتمايز في الأنواع ولكن الزمن معها تُلغى مسافاته بالمراهنة التلقائية, فالوعي بالانتماء يتحول في كل لحظة إلى طاقة كفيلة بإنجاز (التحيين), قادر على تحقيق الحلول: حلول الذات في سياق اللغة وحلول اللغة في وعي الذات.

التاريخ الحاضر

كذا ترى التاريخ والحاضر منصهرين: ليسا تاريخا وحاضرا وإنما هما (التاريخ الحاضر) وهما كذلك (الحاضر التاريخي) واللغة هي الشاهد على الانصهار لأنها هي المحول الكيمياوي للزمن تنقله من زمن فيزيائي إلى زمن حضاري حتى لكأنك تقول إن المسافة بين تاريخ لغوي وحاضر لغوي تكاد تنعدم, والانصهار بين كل مراتب الأداء اللغوي هو كانصهار هباءة الهيدروجين مع ذرة الأوكسجين: تبددت هوية كلتيهما فحلّت محلها هوية جديدة شاملة.

فمن أين تستمد اللغة العربية أسرار هذا التميز الذي تفارق به الألسنة الطبيعية الأخرى? وكيف استقام لها اختزال مفاصل الزمن واعتصار محامل التاريخ مما لم يستقم لغيرها, بل مما لا نظن أنه سيستقيم لأي لسان طبيعي آخر بعد أن دخل الإنسان باللغة عصر النمذجة الآلية, وبعد أن تقيدت حركة التطور اللغوي بما يفرضه عليها عالم الاتصال وبما يسيطر عليها من برمجة التقنيات واستثمار بنوك المعلومات وبما يسعى إليه الباحثون من مساعدات تقدمها الآلة في معالجة النص اللغوي وفي محاولة ترجمته?

من البديهي - للإجابة عن ذينك السؤالين - أن يتبادر إلى الذهن كل المحصول من ثقافتنا الماضية والحاضرة, وكل المنخول من خزانتنا الحضارية والتاريخية, وكل المستصفى من جدلنا الفكري المتراكم: فللعربية عند أهلها وزن مخزون ليس كمثله وزن عند الأمم الأخرى, فيها بُعد روحاني, ومعها إرث إعجازي, وعليها هالة من القداسة واكبتها فاصطبغت بها عند أهلها, وسلّم بأمر قداستها عند أهلها من لم يكونوا من أهلها, ثم أقرّ الغرباء عنها بأنها عند أهلها تجري بغير ما تجري به على ألسنة الآخرين وبأن على الآخرين ألا يُسقِطوا عليها ما يُجرونه من أحكام على غيرها لأنها على لسان أهلها تنساب بغير ما تنساب به ألسنة الناس على ألسنة الناس.

وليس قولنا هذا انخراطاً في غيبيات الثقافة ولا هو عدول عن مراصد الوصف ودوائر التشخيص, لأن الظواهر توقفنا بذاتها وتنادي منا العقل الناقد حتى لو تعاضدت على إنشائها مناطق من خارج دائرة العقل الصارم. وشأن اللغة عند العرب عجيب ليس أعجب منه إلا شأن العرب مع لغــتهم, فـــَلِمَ الانكساف من التاريخ بحجة العقل الذي يقسو على التاريخ من حيث ينفي مقومات الذات. ومـــع كـــل ذلك لن نركن في تفسير ما أسلفناه إلى بدايـــة الحقـــيقة الحضارية, وإنما نحـن في تفـــسير حيـــثيات اللغة نلتزم باللغة ذاتها.

أمران مهمان في هذا السياق نرى فيهما مرجعيتين تعليليتين لما نحن بصدده وكلاهما مترسّخ الحضور في مرابض المعنى الذي هو السؤال الملتف دائما على كل أسئلة اللغة.

المعرفة وعلوم اللسان

أما الأول فيتمثل - من وجهة نظرنا - في أن علوم اللسان عند العرب قد طافت بكل مراتب المعرفة المتعلقة باللغة سواء في تشكلها النوعي الذي هو اللسان العربي أو في تجلياتها الكونية المطلقة بحكم اتساع مجالات علم الكلام, ويتمثل في أن المعرفة اللغوية عندهم قد أمسكت بمقابض البنى التكوينية في مستوى الحرف وفي مستوى الكلمة ثم في مستوى التركيب, ولكنهم قد تحاشوا تدوين تاريخ الدلالة فجاءتنا الألفاظ عندهم منزوعة منها ذاكرتها التي هي سجل تطوّرها عبر الزمن. وغني عن الذكر هنا أنهم لهذا السبب قد قصروا مفهوم المولّد على ما كان استحداثا للدوال بما تحمله معها من مدلولات, أما إذا تولّد مدلول وانزرع في حنايا لفظ قائم فليس هو بمندرج عندهم في باب المولّد. ومن طريف ما حدث في تاريخ الحضارات المقارن أن العربي قد أحكم علوم المعاجم وأتقن صناعتها إتقانا ولكن تقييد مراسم المعنى في ضبط مادة اللغة كان يتم خارج هاجس التوثيق الزمني.

كانت الدلالة - في الوعي وفي اللاوعي - شيئا منسرحا من التاريخ ومنفلتا من قيود التعاقب الذي يمليه, لذلك ترى عمل المدوّنين للغة قائما على مبدأ إرجاع اللاحق إلى السابق وتفسير الطارئ بالثابت, وعلى مبدأ التعامل مع المعنى المتولد على أنه فرع يتعين ربطه بالأصل لأنه عرض, والعرض مقيد بالجوهر.
وهذا ما يفسر كيف خلت أمهات المعاجم التي هي مصادر اللغة من رصد الدلالات المتولدة في كل مجالات الاستعمال اللغوي حتى تلك التي هي قرينة تطوّر العلوم والمعارف, ويصدق هذا على الموسوعات المتقدمة صدقه على المتأخر منها.

لهذه الأسباب كان متعذرا أن يتشكل عندنا مبدأ المعجم التاريخي, ولعل غياب المفهوم ذاته سيجعل من المتعذر استدراك الحاضر على التاريخ.

العربية وجهازها النحوي

أما الأمر الثاني الذي يقدّم لنا المرجعية التفسيرية لما أسلفناه فيتمثل في أن اللغة العربية - بما هي لغة تأليفية تعتمد الإعراب بالمفهوم اللساني الشامل الذي ينبني على تغيير أواخر الكلمات عند خروجها من المعجم وحلولها في التركيب - تتوافر على آليات في إنتاج الدلالة لا تضاهيها آليات الألسنة غير الإعرابية كالفرنسية والإنجليزية, وبناء على ذلك يكون (النحو) بمجمله مختلفا في إجراءاته بين اللغة العربية والألسنة الأخرى: الجهاز النحوي في اللغة الإعرابية إيذان بخروج المعجم إلى التداول وحلول المفرد في السياق لأنه كشف للقرائن القائمة بين الألفاظ من داخل أبنية الألفاظ ذاتها, لذلك كان المعنى وليد حيثيات الاقتران بين الكلمات عندما تتوالى في سياق التعبير فضلا عن أنه - كما في اللغات غير الإعرابية - وليد مواقع الألفاظ في نسيج التركيب.

إن المعنى في اللغة الإعرابية ذو ضفيرة مثلثة الأضلاع تتعاون على تخليقه عناصر اللفظ والترتيب والوظيفة, فالجهاز النحوي هو مكشوف البناء لأن انسجام الأجزاء في نطاق الكل يقتضي تجسيم طبيعة العلاقات القائمة بين العناصر المكونة للمجموع بواسطة تعديلات صوتية ومقطعية.

إن العربي وهو يتكلم بلغته الإعرابية كالعربي وهو يصغي إلى من يتكلم بالعربية: كلاهما واقع في التاريخ لا خارجه.

ألا ترى أن الحديث الذي نطق به صاحبه منذ ما يزيد على خمسة عشر قرنا متوجها به إلى من حوله قبل الهجرة وبعدها كأنما هو يتحدث به إلينا يخاطبنا به في أمر معاشنا وسلوكنا ومأكلنا وطرائق اجتماعنا. ولسنا نعني هنا مضمون ما نطق به عن حكمة وما وجّه به أفراد أمته عن بيّنة وإلهام, وإنما نعني ملفوظه بما هو جمل مركبة من ألفاظ وأصوات تشكلت في نسق إذا أصغينا إليه وتدبرناه أدركْنا امحاء الانفصام الزمني وأدركنا أيضا تبدد الاغتراب التاريخي اللذين يحس بهما أبناء الألسنة الأخرى إذا ما خوطبوا بالمنوال المعجمي والنحوي الذي عُمره لديهم خمسة عشر قرنا.

ومما لا شك فيه أن إثارة موضوع اللغة من جانب خصائصها المحايثة ولاسيما قضية الإعراب الذي هو نُسغ التركيب في لغة الضاد ومنه رواؤها الدلالي قد لا توحي بأبعاد غير أبعادها النحوية الدقيقة, وربما فاضت عن دائرة النحو فأوحت بسياقاتها اللغوية (الفيلولوجية), وقد تومئ إلى مستنداتها اللسانية العامة.

غير أن بعض الإمعان في هذه المسألة مع بعض الحرص على ربط الأشباه بالنظائر ووصل الجانب المهمل من مشاكلنا الحضارية بشواملها سينبهنا إلى أن القضية تتحرك على سطح رجراج من أرض زلوق: فالمسألة بحكم تواترها وبمقتضى الأفكار التي تتأسس عليها ثم بفعل المواقف الذهنية التي تحرّك المتناولين لها قد أصبحت مطية يتوسل بها المتوسلون لإثارة قضايا تتصل بالهوية الحضارية, وقد يستخدمها بعض الناس برقعا لحجب المطاعن التي يراد زرع بذورها للشك في القيم التاريخية المستديمة.

وهكذا تغدو مسألة خصائص اللغة ومسألة ارتباط تلك الخصائص بصياغة المعنى وتوليد الدلالات قضية فكرية ثقافية تتجاوز حدود الطرح النحوي والفيلولوجي واللساني فترقى إلى مراتب المسألة الإدراكية المبدئية, وفي هذا سرّ تأثيرها في كل معرفة وفي كل خطاب تدوّن به المعارف.

 

عبدالسلام المسدي