تداعيات أبي تمام

تداعيات أبي تمام

مازلنا نتتبع رحلة صلاح عبدالصبور الشعرية, وفي هذا المقال يكشف الكاتب عن إرهاصاته الشعرية الأولى كما تبشر قصيدة حذفها الشاعر من كل دواوينه.

كان ديوان (أقول لكم) يضم سبع عشرة قصيدة, أطولها (أقول لكم) الموزعة على ثماني قصائد فرعية, لكل منها عنوانها. لا توجد فيها قصيدة نضالية ذات طابع قوي, على نحو ما كان الأمر في (الناس في بلادي) المزدحم بالقصائد النضالية, سوى (ثلاث صور من غزة) التي تكشف عن التزام الشاعر بالقضية الفلسطينية. وهي قصيدة تتكون من ثلاثة مقاطع متجاوبة, من تفعيلة الرجز.

وفيما عدا قصيدة (ثلاث صور من غزة) لا توجد قصيدة تتصل بالروح القومي, اللهم إلا إذا حسبت قصيدة (أبي تمام) (التي ألقيت في مهرجان أبي تمام) متصلة بهذا الروح, خصوصا من المنظور الذي يكشف عنه مطلع القصيدة التي تبدأ على النحو التالي:

الصوت الصارخ في عموريه
لم يذهب في البريه
سيف البغدادي الثائر
شقّ الصحراء إليه... لبّاه
حين دعت أخت عربية
وامعتصماه
لكنّ الصوت الصارخ في طبريه
لبّاه مؤتمران
لكن الصوت الصارخ في وهران
لبّته الأحزان
يا سيف المعتصم الثائر
اخلع عمر سحابك وانزل في قلب الكلمة
شقّ العتمة
خلصنا من وقر الأحزان
واضرب يمنى في طبريه
واضرب يسرى في وهران

وهي بداية خطابية عالية, ربما لتتناسب مع الأصوات العمودية العالية التي كانت موجودة في مهرجان أبي تمام, وتلتقط النغمة القومية المناسبة التي تتناسب مع الشعور القومي الصاعد, وتلمح إلى قصة المعتصم الذي نهض إلى فتح عمورية بعد أن بلغه صراخ المرأة التي صاحت باسمه, فانطلق كالإعصار الذي لم يتوقف إلا بعد فتح المدينة واستعادتها من الروم, وتحقيق الانتصار الذي كتب فيه أبو تمام قصيدته الشهيرة:

السيف أصدق إنباء من الكتب في حدّه الحدُّ بين الجد واللعب

ولكن قصيدة صلاح تستدعي الموقف الذي يصل أبا تمام بالمعتصم في دلالة ماضي الانتصارات العربية, لافتة إلى ماضي الانتصارات وواقع المعارك التي لم تحسم في وهران الجزائر أو طبرية فلسطين, وذلك لكي تنتقل عدوى الانتصار القديم إلى المعارك الحديثة, ويتولد من جديد زعيم عربي يستعيد صورة المعتصم, كي يخلص العرب المعاصرين من الأحزان نهائيا, ويشق العتمة كي يبزغ نور الاستقلال من الاستعمار الفرنسي على وهران الجزائر, ومنها إلى كل مدينة عربية محتلة.

الطريف أنه قبل سفر صلاح عبدالصبور إلى مهرجان أبي تمام الذي انعقد سنة 1960 في دمشق, كان عباس العقاد رئيس لجنة الشعر, اشترط المشاركة بقصيدة عمودية, فكتب صلاح عبدالصبور قصيدة عمودية بعنوان (يلغط اللاغطون) في نوع من التحدي الذي يثبت قدرة شعراء القصيدة الجديدة على النظم العمودي التقليدي, وأنهم لم يهجروا الشكل القديم إلى شكل جديد عجزا عن إتقان الأدوات القديمة التي يعرفونها بالفعل, وإنما بحثا عن رؤى جديدة وصياغة لحالات وجدانية لا يمكن التعبير عنها إلا بالشكل العروضي الجديد الذي يعتمد على التفعيلة الواحدة التي تتكرر في كل سطر حسب طبيعة الدفقة الشعورية التي يجسّدها.

وتبدأ قصيدة صلاح عبدالصبور بالنسيب التقليدي:

خافقي نحوها استطير فلبي وثب الشوق بالجناحين وثبا
كيف لا يورق النداء بقلبي صبوة حلوة ونزعا مُلبّى
كيف لا أشرع الجناح إليها طائر الشوق مستهاما محبا
وأغنى القصيد في مسمعيها جاهدا أن يكون صوتي عذبا

وبراعة الشاعر في محاكاة استهلال القصيدة بالنسيب القديم هي الوجه الآخر من مكره الشعري, فهو لا يتغزل بالحبيبة التقليدية التي ظل النسيب يدور حولها قديما, وإنما يتغزل بحبيبة جديدة, هي ملكة الشعر, أو ربة الشعر, ربة الوحي والإلهام الشعري التي تعوّد الشعراء الأقدم من العرب على أن يتوجهوا إليها بقصائدهم, على نحو ما فعل هوميروس في (الإلياذة) الشهيرة. وصلاح يستبدل بالمحبوبة التقليدية (ربة الشعر) التي يتوجه إليها, ويعلن انتسابه إليها, وسعيه الصادق لنيل رضاها, مستعيدا المعنى الأساسي نفسه الذي دارت حوله قصيدة (ولاء) الموجودة في ديوان (الناس في بلادي) والمكتوبة بالشكل الحر للتفعيلة.

المجد للقول الجديد

وتنتقل قصيدة (يلغط اللاغطون) من مراوغة النسيب إلى الارتحال القديم, لكن ليحل محله الارتحال في الزمان العربي عبر تعاقب عصوره, متنقلة ما بين التاريخ العربي الذي شهد انتصارات العرب وشهد انكساراتهم, وتتوقف عند الهزائم لتثير الهمم, محافظة على البناء التقليدي والمعجم الخطابي والصور التشبيهية والاستعارية التي لا تفارق شروط عمود الشعر التي حددها المرزوقي في مقدمة شرحه الشهير لقصائد (الحماسة) التي جمعها أبو تمام. وتنتقل القصيدة من الزمن العربي القديم إلى الزمن الحديث, زمن البعث العربي الجديد, وذلك في البيتين اللذين يقولان:

واستفقنا, فنحن نصنع مجدا حاضرا مثل تالد, بل أربى
مجد فعل, ومجد قول كفاء للزمان الذي يصّاعد وثبا

ويلفت الانتباه الجمع بين مجد الفعل ومجد القول, وتقديم الفعل, على القول, لا لشيء إلا لتفضيل مجد القول الجديد الذي هو الشعر الحر, مقابل مجد القول القديم الذي تتجسد فيه التقاليد الأصيلة التي يضيف إليها الشعر الجديد ما يزيدها ثراء, وما يؤكد انتسابه إلى زمنه الحاضر في الوقت نفسه. والبداية هي ما يتهم به التقليديون الشعراء الجدد, أو ما يلغطون به من أقوال تذكرها قصيدة صلاح عبدالصبور وتنقضها على النحو التالي:

يلغط اللاغطون أنّا جفونا مسلكا جازه حبيب مخبّا
عاش فيه صباه يسقي ويسقي وبأفيائه استقام وشبّا
وشدا في ظهيرة العمر للشام وللرقمتين حبا وعتبا
وطواه التراب, والشيب لها يلتمع, والشباب مازال رطبا
يلغط اللاغطون أنا جفونا راية رفرفت قرونا وحقبا
راية يرفع ابن حجر لواها ووراء اللواء سربا فسربا
يُرقِلُ الشاعرون, هذا ابن هاني وعشير الندمان يمشون جذبا
أثقلت خطوهم مدامة حما ر لبيق المزاج يحسن صبا
ووراء الخليع يمشي عنودا شامخا معروضا كريح نكبا
جبهة صلدة وعين غضبى لو أطاع الهوى لخلّى الركبا
أحمد بن الحسين مفخرة الشعــ ــر وإن يكره القريض ويأبى
رامَ ملك التراب - سامحه الله - وملك الكلام أنفس كسبا
هو أشقى دربا وأبعد قربا ثم أسمى فلكا وأبهج عقبى
وعيون التاريخ تقتحم الدهر اقتحاما وليس تطرف هدبا
غير ملك تولت الشعر كذا ه فأولاه شاعر ما أربى
جوهر اللفظ دونه عرض الما ل وهذا الياقوت والدر حصبا
وبذيل الرهط المخب ضرير مثقل, واهن جبينا وصلبا
شاعر لا يرى, وفي عمق عينيـ ـه شعاع يصب في النفس صبا
فينير الملتفّ من دغل الرو ح ويجلو من تيهها ما استخبا
هؤلاء الرهط الكريم جدودي وتراثي, وصحبتي, والأحبا
كلهم كان عصره في لغاه وأحاسيسه, خيالا ولبا
خلدوا والزمان ينداح بعدا واتساعا, وهم على الدهر أصبى
وثوت في الثرى ألوف ألوفٍ أخذوا فضلهم سليبا ونهبى
قلدوهم, هل للمقلّد فضل مثل فضل الجديد إذ شقّ دربا
نحن نبني جنب القديم جديدا شامخا مثله رفيعا رحبا
والألى ينسجون من جثث المو تى رءوسا منخوبة العين جدبا
يملأون الدنيا ضجيجا لجبا كان خيرا لو حاولوا الخلق صعبا

قصيدة محذوفة

وقد حرصت على نقل هذا الجزء كاملا من القصيدة لسببين: أولهما أن هذه القصيدة لا توجد في الطبعات المتاحة من أعمال صلاح عبدالصبور, ابتداء من الطبعة الثانية لديوان (أقول لكم) التي حذف منها الشاعر هذه القصيدة بسبب عموديتها, وألحق بها في الحذف ثلاث قصائد لا تخرج عن الإطار العمودي, وقد وضعها في الطبعة الأولى تحت عنوان (من شعر الصبا). وأولها قصيدة (عتاب) المؤرخة بتاريخ 4/1/1949, وثانيتها (حصاد الذكريات) المكتوبة في 15/10/1948, وثالثتها (قلق) المكتوبة 15/1/1951. وقد اختفت كل هذه القصائد من الطبعات اللاحقة إلى طبعة (الأعمال الكاملة) التي أصدرتها الهيئة العامة للكتـــاب ســـنة 1993, ولم تعتــمد - مع الأسف - على الطبعات الأولى من دواويـــن أعمال صلاح عبدالـــصبور, ولم تضــــم - مع الأسف - الكــــثير من كتاباته, الأمر الذي يجعلها أعمالا غير كاملة.

أما السبب الثاني فهو أن الجزء الذي ذكرته له أهميته في الكشف عن الاتهامات الموجهة إلى شعراء الشعر الحر من خصومهم التقليديين.

وأول هذه الاتهامات أن شعراء الشعر الحر جفوا مسلك أبي تمام, وخرجوا على طريقته الشعرية الأصيلة. وثاني الاتهامات أنهم تخلوا عن راية الإبداع الشعري التي بدأت تقاليدها بالعصر الجاهلي, واستمرت عبر العصور اللاحقة التي نبذها الشعراء المجددون. وإذ تنفي القصيدة هاتين التهمتين, وتؤكد مقابلهما العلاقة الحية بين الأسلاف العظام والشعراء الجدد من منظورها المحدث, فإنها تؤسس للشعر الجديد تقاليده الخاصة الحية, وعند هذا المدى, تتجسد رسالة القصيدة وغايتها, من حيث هي رفض لاتهامات المفكرين, وإعادة قراءة للتراث الشعري الذي ينتسب إليه الشعر, خصوصا حين تشير القصيدة إلى أعلامه الذين تحتفي بهم, ابتداء من امرئ القيس (ابن حجر) الجاهلي وأبي نواس (ابن هانئ) العباسي, مرورا بأبي تمام (حبيب) والمتنبي (أحمد بن الحسين) وانتهاء بأبي العلاء المعري. وهؤلاء هم الرموز التي يصفها الشاعر بأنها جدوده, والرهط الكريم الذين كانت إبداعاتهم استجابة خلاقة إلى زمان كل منهم, ولذلك خلدوا على الزمان, وبقي إبداعهم شابا, بينما ثوت في ثراب النسيان الألوف من الذين نهبوهم, وقلدوهم, فالمقلّد لا فضل له ولا يستوي مع الجديد الأصيل بحال من الأحوال. ولذلك تنتهي القصيدة بما يشبه الفخر بالشعر الجديد, مؤكدة أن أصحابه بنوا الجديد الذي أضافوه شامخا إلى القديم, وجعلوه لا يقل أصالة أو رفعة, مقابل أولئك الذين ينسجون شعرهم من أكفان الموتى, ويملأون الدنيا ضجيجا فارغا بدل أن يخلقوا شيئا مفيدا.ولكي تحقق القصيدة طابع الفخر الذي تنطوي عليه, من منظورها الخاص بالطبع, فإنها لا تتوقف عن السخرية من الخصوم, حتى في حرصها على محاكاة البلاغة القديمة في التراكيب والمفردات. ولولا ذلك ما ذكر صلاح (الرقمتين) في الإشارة إلى أبي تمام, أو استخدم الفعل (يرقل), وهي سخرية يكتمل معناها بتمجيد الشعر, والإعلاء من شأنه بما يجعله فوق الجاه والمناصب والثروات, ومن ثم لمز المتنبي الشاعر لأنه (رام ملك التراب) بينما (ملك الكلام) أو الشعر أعظم وأنفس, وتعظيم المعرّي الذي رأى بروحه ووجدانه ما عجز عن رؤيته المبصرون.

 

جابر عصفور