يبقى عبدالوهاب البياتي الفنان والشاعر. فـ (الطبيعة التي تنهي حياة
الكائن المتناهي) - على حدّ قوله - (تقف صاغرة منهوكة القوى أمام الفنان والثوري,
لما يحملانه من الخصائص المركبة للكائن المتناهي واللامتناهي. فالفن والثورة إذن
انتصار على الطبيعة والحياة واستئثار بهما).
بهذا القول يرتفع البياتي بالفنان والثوري إلى ما فوق مصاف البشر
ليستعير سمة من سمات الخلود. فالشاعر يتميّز بمعاناة الدراما الوجودية: إنه جلجامش,
بطل الملحمة السومرية, اتحدت في ذاته صفات الآلهة وصفات البشر فكان بطلا أسطوريا
جسّد ملحمة الإنسان في بحثه عن الخلود. وقد وازى البياتي بين الرحلة الأسطورية التي
صوّرتها الملحمة السومرية, ورحلة طويلة (قمت بها في شبابي الباكر عبر الحرائق
الشعرية التي كنت أحترق بها), وسمّى رحلة جلجامش (سيرة ذاتية).
لقد ظل جلجامش حيا في ذاكرة التراث الإنساني, خلّدته قصيدة ملحمية
كبرى وجدت مكتوبة على ألواح حجرية في أرض العراق, وسيظل عبدالوهاب البياتي مثله
ومثل غيره من الشعراء والفنانين حيّا فيما أبدعه من شعر أسهم به إسهاما متميزا في
إرساء أسس الحداثة في شعرنا العربي المعاصر وفي خلق حساسية شعرية جديدة حوّلت مسار
القصيدة العربية في هذا العصر وفتحت أمامها آفاقا لم تبلغها من قبل.
ثورة الشعر.. ثورة التعبير
وإذا كان بعض الشعراء الذين كتبوا قصائد تختلف في الشكل عن القصيدة
العربية الكلاسيكية, كنازك الملائكة على سبيل المثال, رأوا أن التجديد في الشعر
المعاصر مسألة تتعلق بشكل القصيدة ويتمثل أساساً في تحطيم وحدة الوزن والقافية
واعتماد التفعيلة في السطر الشعري, فإن عبدالوهاب البياتي كان مدركا أن (التجديد في
الشعر ليس ثورة على العروض والأوزان والقوافي - كما خيّل للبعض - بقدر ما هو ثورة
في التعبير. وأن الأصقاع التي اكتشفها الشاعر الحديث طوت بساط البحث).
إن التجديد الذي نادى به البياتي هو امتلاك تجربة شعرية جديدة لا بدّ
أن تتخذ إيقاعات مغايرة لموسيقى الشعر الكلاسيكي العربي, فيغدو التجديد رؤية شعرية
جديدة هي الوجه الآخر للتجربة الشعرية, وما تحوّل الشكل الشعري سوى النتيجة الحتمية
لانطلاق التجربة والرؤية إلى آفاق الحداثة الحقيقية, يقول: (كما دفعني فهمي لموسيقى
الشعر المرتبطة بنوعية ومدى التجربة الشعرية, إلى البحث عن إيقاع موسيقي خارجي
يتّسق مع إيقاع التجربة الجديدة, تجربة تقويض أبنية قديمة واختيار أثمن ما فيها
لتشييد بناء جديد لحمته وأثمن ما فيها لتشييد بناء جديد, لحمته وأكثر سداه ينعكس من
واقع اجتماعي وفكري ووجداني مختلف).
وإن كان بعض الشعراء المحدثين رأوا أن الحداثة الشعرية انقطاع عن
التراث وإلغاء له, كأدونيس على سبيل المثال, فإن عبدالوهاب البياتي أدرك أن البناء
الجديد تنهض به أحجار الأبنية القديمة ويكسبه جدّته إدراكُ الشاعر ووعيه للتحوّل
الحضاري واختلاف مناخ الواقع الاجتماعي والفكري والوجداني الجديد عمّا كان سائدا في
القديم. إن العلاقة بين الإبداع الحديث والتراث - في رأيه - علاقة جدلية من التواصل
والانقطاع, يتواصل الشاعر مع تراثه القومي ومع التراث الإنساني وينقطع عنه لإبداع
الجديد وتحقيق إضافة تتحوّل هي ذاتها جزءاً من ذلك التراث. (فالشاعر), على حدّ
قوله, (يعيش دائما في جدلية التواصل والانقطاع, التواصل مع التراث القومي
والإنساني, ثم الانقطاع عنه لإضافة شيء جديد, عملية الإبداع عملية تواصل وانتقال
تتم في شعر الشاعر لأنه حين ينتقل من قصيدة إلى أخرى ومن ديوان إلى آخر يمارس
التواصل والانقطاع مع شعره ومع الشعر بعامة).
وثورة على الرومانسية
قلة هم الشعراء العرب المحدثون الذين أدركوا أن القصيدة الحديثة هي في
الأساس ثورة على الرومانسية, فظل جانب كبير من الشعر الذي سمّي حديثاً شعراً ذاتيا
يحفل بالميوعة العاطفية ويحتفل بالإبداع الفردي.وكان البياتي من القلة الذين وعوا
أن على الشعر الحديث أن يكون (متجرّدا من ذاتيته, أي أن الشاعر (عليه أن) يعمد إلى
خلق وجود مستقل عن ذاته, وبذلك يبتعد عن حدود الغنائية والرومانسية التي تردّى أكثر
الشعر العربي فيها. فالانفعالات الأولى لم تعد شكل القصيدة ومضمونها, بل هي الوسيلة
إلى الخلق الفني المستقل, إن القصيدة في مثل هذه الحالة, عالم مستقل عن الشاعر -
وإن كان هو خالقها - لا تحمل آثار التشويهات والصراخات والأمراض النفسية التي يحفل
بها الشعر الذاتي الغنائي).
لقد كان الشعر العربي الحديث, بالنسبة إلى البياتي, تعبيرا عن بعث
حضاري وعن ولادة جديدة لم تحط بهما مدارك من سبق جيل روّاد القصيدة الحديثة من
شعراء وأدباء, فكانت ثورة الشعراء العرب المحدثين ثورة على الشعراء الذين سبقوهم
مباشرة, كما كانت ثورة الشعر الإنجليزي الحديث وبخاصة مع إزرا باوند وتي إس إليوت
على الرومانسية التي سادت الأدب والنقد الإنجليزيين لما يقارب القرنين من الزمن.
يقول البياتي: (ولم يستطع واحد من شعراء هذه الفترة من العرب أن يلفت نظرنا, فحتى
جبران تصوّرته كاهنا عجوزاً يلبس مسوحا سوداء ويذرف الدموع أمام جثّة ميتة. كان
أدبهم ثورة عاطفية رومانسية أكثر منه تعبيرا عن ولادة الجيل الجديد من خلال الأزمة
وسنوات العذاب).
ما يموت وما لا يموت
إن مبدأ استقلالية القصيدة عن مبدعها يمكن أن يعدّ من أبرز خصائص
الشعر الحديث. ويرتبط به مبدأ الاستقلالية النسبية للشعر عن الواقع, بمعنى أن الشعر
ليس انعكاسا للواقع بل هو إبداع له وهو بذلك ثورة عليه. من هنا ربط البياتي بين
الشعر والثورة, يقول: (إذا كانت الثورة فنّا أو بالأحرى شعرا, فالشعر ليس انعكاسا
للواقع, بل هو إبداع للواقع). إن هذين المبدأين, استقلال القصيدة عن مبدعها
واستقلالها عن الواقع, تجسّدا في شعر البياتي في اعتماده البنية الأسطورية في
الشعر, وفي توجّهه إلى ما يسمّى بالقناع. يقول: (هذا وغيره قادني إلى إيجاد الأسلوب
الشعري الجديد الذي أعبّر به, لقد حاولت أن أوفّق بين ما يموت وما لا يموت, بين
المتناهي واللامتناهي, بين الحاضر وتجاوز الحاضر, وتطلّب هذا مني معاناة طويلة في
البحث عن الأقنعة الفنية. وقد وجدت هذه الأقنعة في التاريخ والرمز والأسطورة).
ويعرّف القناع بقوله: (والقناع هو الاسم الذي يتحدث من خلاله الشاعر نفسه, متجرّدا
من ذاتيته). ولئن كان شعر البياتي في المرحلة الأولى من مراحل مسيرته الشعرية
مباشرا بوجه عام, فقد اكتشف الرمز المحوري والبناء الأسطوري سبيلا للتعبير الشعري
في ديوانه (سفر الفقر والثورة) (الصادر عام 1965, واستطاع أن يطوّر تعبيره الرمزي
والأسطوري في ديوان (الذي يأتي ولا يأتي) ((1966) وديوان) الموت في الحياة) (1968)
إلى أن بلغ الرمز والأسطورة ذروة اكتمالهما في ديوان (الكتابة على الطين) الصادر
عام 1970.
استطاع البياتي في هذه المرحلة من مراحل تجربته الشعرية - بالرمز
والأسطورة - أن يوحّد بين تجربته الذاتية الخاصة والتجربة الإنسانية الكلية. وكان
الفقر والموت قضيّتين عاناهما الشاعر مذ كان طفلا في الريف العراقي, وهما اللذان
أشعلا في لاوعيه الفردي شرارة الثورة التي ارتبطت بالنموذج الأصلي لصورة البطل
الأسطوري الثائر, الساعي بالبطولة والفداء إلى اكتساب الحياة الأبدية, وهي رمز
محوري كامن في اللاوعي الإنساني تجسّد في الأساطير, (فالحياة التي عاشها هذا الطفل
(البياتي) كانت أشبه بالموت نفسه... كنّا نعاني الموت ونتنفّسه, وكانت المقبرة
قبالنا, فلا يمرّ يوم إلا ونرى الموتى الذين يشيّعون إلى مثواهم الأخير, لقد كان
الموت يتربّص بنا في كل مكان, وكنّا نوقد له الشموع ونحرق البخور لطرده, فقد كانت
حياتنا شحيحة بائسة, وكان مستحيلا علينا أن نقتسم معه البؤس ونقدّم إليه عشاءنا
الأخير).
هذه التجربة المريرة التي عاشها البياتي الطفل جعلته يربط في لاوعيه
بين الموت والفقر, فالثورة بالنسبة إليه: (عبور من خلال الموت), أي أنها التخطي
للموت والفقر والسبيل للانتصار عليهما. وقد عادل البياتي بين الثورة والتعبير
الشعري, فـ (عملية الخلق الفني - التي هي عبور من خلال الموت - هي ثورة بحدّ ذاتها,
للاستئثار بالحياة وهي مرتبطة بالإبداع التاريخي). من هنا اكتشف البياتي أسطورة
الموت والانبعاث التي حققت له الانتصار على عالم الفقر والموت, وكانت الثورة صورة
أخرى للإلهة الأم الكبرى, الحيّة أبدا والمعطية الحياة, عشتار الأسطورة البابلية:
(الثورة لا يمكن أن يوقفها, وليس من حقّ أحد أن يوقفها, فهي إن بدت في صورة عجوز
شمطاء معروقة هنا تعود إلى الظهور بدائم شبابها وبكارتها هناك لأن ثورات العالم
حلقات متصلة, وليس آخر ثورة في هذا العصر أو ذاك هي آخر ثورة في العالم). وقد
تجسّدت هذه الرؤية شعريا في ديوان (الكتابة على الطين) وبلغت أكمل وجوهها في (قصائد
حبّ إلى عشتار) حيث يقول مخاطبا إلهة الحب والحياة:
طفلة أنت وأنثى واعدةْ
ولدت من زبد البحر ومن نار
الشموس الخالدةْ
كلما ماتت بعصر, بعثتْ
قامت من الموت وعادت للظهورْ
أنت
عنقاء الحضاراتِ,
وأنثى سارق النيران في كل العصورْ
هذه المرأة المعشوقة,
الطفلة البريئة والأنثى الشهيّة, هي أفروديت, إلهة الحب اليونانية المولودة من زبد
البحر, وهي عاشور السومرية, إلهة الشمس معطية الحياة, الدائمة الحيوية والتجدد,
تبعث من موتها كل صباح, وهي العنقاء التي يلتهب رمادها لتولد من جديد, وهي أنثى
بروميثيوس, سارق النار, الواهب الإنسان سرّ الآلهة. إنها الثورة المتجسّدة التي
ستزيح الفقر والموت وتهب الإنسان والحضارة حياة أبدية:
لون عينيك: وميض البرق في أسوار بابلْ
ومرايا
ومشاعلْ
وشعوب وقبائلْ
غزت العالم, لما كشفت بابل أسرار النجومْ
لون
عينيك: سهوب حطّمت فيها جيوش الفقراءْ
عالم السطوة والإرهاب باسم
الكلمةْ
وغزت أرض الأساطير وشطآن العصور المظلمةْ
كانت أساطير حضارات ما بين النهرين منبعا نهل منه البياتي واستمد منه
رموزه الشعرية واستند إلى نماذجة الأصلية في البناء الأسطوري لقصائده, بل إنه سمّى
ملاحم تلك الحضارات وأساطيرها (سيرة ذاتية) كما ذكرنا. لكنها ليست سوى جانب من
تجربته الشعرية الثرية: (فإذا وضعنا إلى جانبها) - على حدّ قوله - (سيرتي الذاتية
المرتبطة برحلة لي أخرى طويلة في الكشف عن صفحات هذا الإنسان نفسه في ظل الحضارة
العربية - الإسلامية العظيمة, لاكتملت أجزاء الصورة).
ومن الحضارة العربية الإسلامية, من تراثه القومي الثري استمدّ البياتي
رموزه وصوره. عاد إلى رموز هذا التراث, إلى صانعيه: الحلاج والمتنبي وأبي فراس
والمعري وديك الجن وطرفة بن العبد ووضاح اليمن وابن عربي, ليكمل رسالتهم ويعيد
صياغة رؤيتهم برؤياه الحديثة وتجربته الشعرية المعاصرة, ليتواصل معهم وينقطع عنهم
في الوقت نفسه, فتتحد تجربته بتجاربهم فتتشكل الإضافة الجديدة ويغدو التراث القديم
معاصرا وحديثا.
ولعل أبرز رموز تراثنا في شعر البياتي كان الشيخ الأكبر محيي الدين بن
عربي, المتصوّف الكبير الذي كان له موقع متميّز في تجربة البياتي الشعرية. وقد كان
البياتي مدركا أهمية ابن عربي في مسيرته الشعرية من حيث هو مفصل من مفاصل تلك
المسيرة, يقول: (ثم جاءت مرحلة ابن عربي في شعري ميتافيزيقية خالصة لكنها
ميتافيزيقيا تاريخية, أي ناتجة عن معاناة وجودية مرتبطة بما هو أرضي. فالشعر العاجز
عن مثل هذا الربط تغلب اللفظية فيه على المعاناة لأنها (المعاناة) تصبح مجرّد
ملامسة للشعور الميتافيزيقي وليست غوصا في أعماقه).
يتحدث البياتي عن لقائه بابن عربي وصحبته له وما نتج عن ذلك اللقاء
وتلك الصحبة من تفاعل فيقول:
(بعد مقتل أبي فراس وإعدام الحلاج وإحراقه شعرت باليتم والغربة, خاصة
أن المعري قد غادرني, فكان لا بدّ لي من صديق. بدأت أبحث في العالم وفي كتب التراث.
ذات يوم في القاهرة خطر لي أن أتصفح الفتوحات المكية من جديد فأصبت بمسّ شعري. هرعت
إلى إعادة شراء ترجمان الأشواق والفتوحات المكية وكانت متيسّرة في المكتبات آنذاك
لا يخاف منها أحد كما يخافون الآن. أعدت قراءة ابن عربي قراءة واعية متمتعة. كنت
أحسّ بارتياح شديد وأنا أتنقل من كلمة إلى كلمة ومن صفحة إلى صفحة. كانت عيني تلتهب
وأنا أتنقل بين الصفحات. وجدت ضالتي فتوقفت. شعرت أني دخلت عالم ابن عربي. طفت معه
حول الكعبة فيما وقعت عيناه على عين الشمس. بعد انتهائي من هذه القراءة ذهبت إلى
دمشق لزيارة قبر ابن عربي في الصالحية عند سفح جبل قاسيون. عند الضريح تسمّرت حين
وجدت إحدى حفيدات عين الشمس تتبرّك بضريح الشيخ الأكبر. كانت هذه الحفيدة مطابقة في
صورتها لصورة جدّتها التي وصفها ابن عربي في مقدمة ترجمان الأشواق وفي قصائده. كان
مفتاح دخولي إلى عالم ابن عربي هو الحب الذي كان يدعو إليه وليس من باب الموت
والشهادة... فعالم ابن عربي أغنى من عالم الحلاج وأكثر خصوبة... وهكذا ترى أنني
أعيش بعمق حالاتي الشعرية. بل الأصح أنني أعيش شعري قبل ولادته وبعدها).
ترجمان الأشواق
كان اللقاء الإبداعي بين البياتي وابن عربي مهما في تجربة البياتي
الشعرية. وقد برز هذا اللقاء في قصيدته (عين الشمس أو تحوّلات محيي الدين ابن عربي
في ترجمان الأشواق) من ديوان (قصائد حب على بوابات العالم السبع) الصادر عام 1972,
وامتدّ عبر مرحلة شعرية كاملة كان فيها ابن عربي حاضرا في وجدان البياتي وفي ضميره
الشعري. ولعل البياتي كان يشعر بوجود لقاء في السيرة الحياتية لكل منهما: فكلاهما
مرتحل أبدا, يتنقل في مدن العالم الغربية والشرقية, لا يعرف مستقرّا. واليوم نستطيع
أن نضيف أن ابن عربي والبياتي أنهيا في دمشق طوافهما الكبير ووضعا رحالهما لآخر
مرة. ولعل البياتي كان يشعر أو يحدس حين قرر التوجه إلى دمشق والاستقرار فيها بأن
الأجل قد اقترب أو حان فأراد أن يجاور ابن عربي في مستقرهما الأخير. وقد أوصى أن
يدفن إلى جانب ابن عربي على سفح قاسيون. وكان له ما أراد وعاد إلى صحبة ابن عربي
الذي لن يفارقه أبدا بعد اليوم.
غير أن اللقاء الإبداعي بين البياتي وابن عربي لقاء وافتراق في الوقت
نفسه, إنه لقاء إبداع جديد يصوغ فيه الشاعر الحديث رؤياه الشعرية المعاصرة. لذلك,
أخطأ النقاد الذين رأوا أن البياتي تحوّل في هذه المرحلة من مراحل تجربته الشعرية
إلى التصوف وإلى رؤية ميتافيزيقية للوجود, واكتفوا في قراءتهم لقصيدته (عين الشمس)
بالبحث عن نقاط التقاء القصيدة بديوان ابن عربي ترجمان الأشواق.
ولعل أفضل مثال على هذا الإدراك القاصر للقصيدة قراءة محيي الدين صبحي
لها في كتابه عن البياتي. ولم يدرك هؤلاء النقاد الفارق الكبير بين رؤية ابن عربي
الميتافيزيقية وتجربته الصوفية, ورؤية البياتي التاريخية وتجربته الحضارية وبالتالي
الدلالات المختلفة لتعبير كل منهما عن رؤياه وتجربته.
وفي هذه القصيدة حقق البياتي صيغة متميزة للعلاقة بين الشعر العربي
الحديث والتراث, فكان لقاؤه بابن عربي لقاء بين عالمين يختلف أحدهما عن الآخر
اختلافا جوهريا, وبين رؤيتين مغايرتين للعالم وللوجود, لكن البياتي استطاع أن يحقق
المصالحة بين العالمين, وبين الرؤيتين بمقدرة على الانتقاء والاستيعاب وعلى التمثّل
والخلق من جديد. لقد برهن البياتي في هذه القصيدة أن علاقة الشاعر العربي بتراثه لا
تعني النقل الساذج أو التأثر بهذا أو ذاك من الشعراء أو الأدباء كما ظن بعض الشعراء
المحدثين ممن نادوا بالقطيعة التامة مع التراث, إنما هي تمثّل وإبداع, وهي اتصال
وانقطاع في الوقت عينه. لقد استطاع البياتي برؤيته الكاشفة في هذه القصيدة وبتجربته
الشعرية المبدعة أن يحاور ابن عربي ليخلق قصيدة حديثة تجسّد رؤيته وتجربته وتحيط
بالهموم التي يعيشها الشاعر العربي الحديث في تفاعله مع قضايا وطنه وأمته وفي
تشوّفه إلى انبعاث حضاري تنهض فيه الأمة العربية من سباتها الطويل وتسهم إسهاما
فاعلا في تاريخ الإنسانية المعاصر وفي تشكيل الحضارة الإنسانية المعاصرة.
لقد أسهم البياتي عبر مسيرة شعرية غنية تجاوزت نصف قرن من الزمن في
وضع أسس حركة شعرية عربية حديثة كان واحدا من روادها. هذه الحركة برهنت أنها لم تكن
طفرة عابرة, إذ أصبحت تراثا متناميا تواصل خطّ سطوره أجيال من الشعراء الذين يكملون
المسيرة التي استهلها جيل الرواد. ولئن رحل البياتي فإنه ترك عصارة تجربته ورؤاه
فنا شعريا لا يموت.