مدخل إلى قصص ليلى العثمان
مدخل إلى قصص ليلى العثمان
عالم منسوج من الأعصاب والمشاعر الكاتبة الكويتية ليلى العثمان ذات إنتاج غزير ومتنوع. وهذه المقالة تمثل مدخلاً لكتاباتها وإضاءة على أهم أعمالها. هذا المقال هو مجرد مفاتيح إضاءة لقراءة ليلى العثمان, ولكن ربما ينبغي استعراض ما كتبته سريعا لتوضيح الخريطة للقارئ ولتقريب الفكرة التي طرحتها في البداية. ولنبدأ بالمجموعات القصصية فقد صدرت على التوالي كالآتي: (امرأة في إناء) (1976), (الرحيل) (1980), (في الليل تأتي العيون) (1980), (الحب له صور) (1982), (فتحية تختار موتها) (1987), (لا يصلح للحب) (1987), (55 حكاية حب) (1992), (الحواجز السوداء) (1994), (زهرة تدخل الحي) (1995). ويأتي بعد ذلك ثلاث روايات هي: (المرأة والقطة) (1985), و(وسمية تخرج من البحر) (1986), وأخيراً (العصعص) (2002). وهناك كتاب مقالات بعنوان (بلا قيود.. دعوني أتكلم) (1999), ثم (المحاكمة.. مقطع من سيرة الواقع) (2000) وهي شبه سيرة ذاتية. بشكل عام يمكن القول إن الرؤية التي تشي بها كتابة ليلى العثمان هي رؤية نسوية (وليست (نسائية) كما هو شائع), أي رؤية تناهض كل القيم الذكورية التي كرستها المجتمعات الرأسمالية الحديثة, وهي رؤية تحاول أن تعيد التوازن لميزان علاقات القوى الذي مالت كفته لمصلحة قيم الذكورة الأبوية. بمعنى آخر, إن هذه الرؤية النسوية ليست مجرد هستيريا صراخ في وجه الرجل (كما هو شائع أيضاً), بل هي تقويض لكل أشكال القهر الإنساني الناتج عن أعراف مجتمعية تحولت إلى سيف مصلت على الرقاب, بل وأصبحت المرجعية السلوكية. ويبدو أن ليلى العثمان تعي تماماً خطورة هذه القيم والأعراف عندما تتبناها النساء ضد أنفسهن وضد النساء الأخريات. ولذلك, تأتي قصصها على لسان نساء ورجال, فالرؤية الذكورية تقهر النساء والرجال معاً, رؤية قاهرة للإنسان. ويبدو هذا النمط جلياً في قصة (فتحية تختار موتها), حيث يتشكل الحاضر الشخصي من الماضي المأساوي. ففي الحاضر, امرأة تتألم من أجل خنفساء مقلوبة تصارع الموت وتقرر أن تمنحها الحياة وهو المشهد الذي يعيد إلى ذهنها, مشهد أختها فتحية التي ماتت بعصا أمها القاسية. تمردت فتحية على قسوة أمها فكان جزاؤها الموت, وتبدو في قسوة الأم كل تلك القيم الغليظة التي لا ترحم الإنسان سواء كان الزوج أم الأبناء. واختيار شخصية الأم في هذه القصة تحمل دلالة كبيرة, ففي الوعي الثقافي الأم هي دائما وأبداً مصدر الحب والحنان والعطف, وعندما تقلب الكاتبة هذه الصورة رأساً على عقب, لا بد أن يلتفت القارئ إلى المعنى الذي تصبو إليه, كما أن الكاتبة إذا كانت تجاوز المألوف الثقافي والعرف الاجتماعي في المضمون, فإنها تجاوزه أيضاً في اختيار الشخصيات ورسمها. ففي سبيل تصوير القيم الإنسانية التي تنتهك قوانين العالم, لا تتقيد ليلى العثمان بقدسيات تكون زائفة في الكثير من الأحيان. ضد التسلط الذكوري في قصة (لعبة في الليل) يظهر نموذج شخصية زوجة الأب التي تريد أن تضمن غفلة ابنتي زوجها عن خيانتها له, فتزرع في نفسيهما الخوف من (زائرة الليل) (زوجة أبي تأمرني.. تقول لي: نامي.. تهددني بأجنحة الخطر وتقول نامي.. فكيف أنام? هل يستطيع من يتوقع الخطر أن ينام?), لا تعصف ليلى العثمان بالنساء لتقول إنهن قاهرات, بل تقدم هذه النماذج التي استوعبت قيم النظام الذكوري السائد, ثم تعيد إنقاذ النساء عبر تقديم - في القصة نفسها - الوجه الآخر للعملة. فالأخت تتضامن مع أختها وتهدئ من روعها, بل إن زائرة الليل قد تكون (حنوناً وتحب الأطفال... فتحملني إلى مكان أكثر أمانا). حتى أنه على مستوى القصص الرمزية, لا يفوت الكاتبة أن تنبه إلى شرور استيعاب النساء لتلك القيم. ففي قصة (زهرة تدخل الحي) تقدم نموذج المرأة التي تتخفى تحت قناع الوداعة والسكون ثم لا تلبث أن تظهر وجهها الحقيقي حين تكشف أم محمد حقيقتها للحي كله, وفي شخصية زهرة تتجسد كل القيم المضادة للتوجه النسوي فهي تحمل الخداع والطمع والاستيلاء (على الأرض بشكل رمزي) وادعاء الضعف والاحتياج وذلك في مواجهة أم محمد التي تتمتع بحكمة السن وعدم الاندفاع استولت زهرة على الحي عبر طرح نفسها كامرأة ضعيفة وهي أحد الأعراف السائدة في المجتمع وإحدى الوسائل التي توظفها النساء - مع الأسف - ضد أنفسهن. تؤكد ليلى العثمان إمكان مناهضة هذه القيم الذكورية عبر التضامن بين النساء, وبقدر ما تبدو هذه الوسيلة مستحيلة التحقق في لحظتنا الحاضرة, ترسمها الكاتبة ببراعة وبساطة عبر تصوير حوادث يومية تمر علينا مرور الكرام, ففي قصة (طفولتي الأخرى), تعاني فتحية - الخادمة الصغيرة - سوء معاملة سيدتها لها, وهي سوء معاملة تصل إلى حد الضرب المبرح. فما كان من سناء إلا أن قامت بتحدي والدتها وأضربت عن الطعام, لتقنع أمها بتحسين معاملتها لفتحية. لا يقتصر مغزى القصة على التضامن النسائي أو الرحمة فقط, بل إنها تتعدى هذا التدخل في منطقة أيديولوجية تميز العالم العربي وهي الفصل بين الطبقات. وحيث إن فتحية - بحكم مهنتها - تنتمي إلى طبقة مغايرة, فإن تضامن سناء معها لا يعبر فقط عن التضامن النسائي, بل أيضا يعبر عن ارتباط عنصر الطبقة بالقهر وأهمية توسيع أفق الرؤية النسوية لتشمله. قهر الجسد لا تهمل الكاتبة - رغم كل هذا - قهر الرجل والمجتمع للمرأة, ولكن في حين تقوم النساء بقهر أقرانهن بفعل استيعابهن لقيم الذكورة الأبوية المكرسة في المجتمع كمرجعية سلوكية ومعرفية, فإن الرجل يقهر المرأة عبر الجسد في أغلب الأحوال. فجسد المرأة أحياناً ملكية للرجل فاقدة لقدسيتها كما هو حادث في قصة (الثوب الآخر) حيث يجبر الرجل زوجته على مجالسة أصدقائه, (ازداد غيظي, وشددت شعري بعصبية مرة... وأحسست بأنني مقهورة مهزومة... مثل كل مرة... فتركت المكان وأسرعت إلى غرفتي أندب حظي التعس الذي جعلني لؤلؤة خرساء في محارة هذا الرجل الغريب). وقد يكون الجسد مجرد وسيلة للاستمتاع الحيواني كما في قصة (الجدران تتمزق) حيث يتحرش الرجل بأخت زوجته التلميذة مما يتسبب في حملها وفي لحظة الولادة تكون في مرحاض المدرسة. يتنكر الجميع لها وينتهي بها الأمر في ما يشبه السجن. ولكي تثبت الكاتبة مصداقيتها ولكي تتجنب فخ الصراخ الهستيري تكتب القصة على لسان التلميذة وهي تحكي لباحثة اجتماعية وتعترف أن مداعبات زوج الأخت كانت تثيرها: (في البداية كنت أستسلم بدافع الخوف... بعد ذلك... صارت العادة جبارة... وصار استسلامي بدافع تلك الرغبة التي تتفتح حين يبدأ). أما أخذ الرجل لزوجته عنوة فهو أيضاً أحد أشكال اغتصاب الجسد مثل شعور المرأة في قصة (رائحة الجسد.. رائحة الرماد), (أذكر كيف تحولت ذلك اليوم إلى كائن غريب. شيء ليس كالحيوان, ولا كالزاحفة, شيء هكذا كالكتلة يختلط رأسها بأطرافها. رخوة تنطبق أجزاؤها...), وتعود مرة أخرى تيمة سهولة انتهاك جسد المرأة لانتمائها إلى طبقة مغايرة مثل قصة (بنت الظهيرة). يوهم خالد - الشاب الميسور - عواشة بنت شعيبة الخبازة أنه يحبها حتى تكتشف أنها حامل فيتنصل منها تعود عواشة إلى البصرة مع أمها لستر الفضيحة. بعد سنوات عديدة يذهب فرج بن عواشة (وخالد) للحصول على وظيفة عند أبيه ويثبت إخلاصه. دون أن يشعر القارئ, تضفر ليلى العثمان محوراً مهماً في هذه القصة لتخرج بها من أفق العلاقة المباشرة بين الرجل والمرأة والحبكة التقليدية المشابهة للأفلام السينمائية العربية! عند وقوع الغزو, يتصور خالد أن فرج سيخونه ولكنه يكون أول المدافعين عنه والحريصين على ماله. التضامن هنا جاء على مستوى أوسع من التضامن النسائي, وتأتي جملة خالد (عواشة على المستوى السردي ولتنتشلها من أي حكم أخلاقي قد يصدره القارئ عليها). التصالح مع النفس لا تهمل ليلى العثمان أبداً الحب باعتباره قيمة تعيد للحياة توازنها وتضفي عليها سمة إنسانية. والحب عند ليلى العثمان لا يقتصر على الحب بين الرجل والمرأة بل يتعداه ليشمل مساحات ومناطق أكثر رحابة بما في ذلك حب الذات ليس بمعنى النرجسية بل بمعنى التصالح مع النفس. ففي قصة (آلام رأس الملكة) تعاني المرأة صداعا مستمرا لا ينقذها منه إلا التاج الذي يهديه لها حبيبها ثم تتعدد وظائف التاج فهو يشعرها بالأمان وينقذها من الخطر ويحقق لها أحلامها.يتخذ التاج إذن مدلولاً رمزيا شائعا في الثقافة: الحب يصنع المعجزات, وتزداد رمزيته عندما يتضح أن كل هذا كان حلما, فكأن اللاوعي يطور وسائل دفاعه لمواجهة شراسة الحياة. تتأكد وجهة النظر هذه عندما تستيقظ المرأة من النوم وقد اختفت كل آثار الصداع الرهيب. في قصة (المشنقة) تشتاق المرأة إلى لحظة دفء في الحب حيث (الغرفة مقبرة. الليل مشنقة. السرير تابوت) وتشعر بأنه (لا أحد يبحث عنها يتذكرها يتفقدها. يرشها بالندى), تظل تعاني ألم الفراغ الذي تركه رجلها, وتؤكد أن كل كتبها لم تبدد وحشتها, الكتابة ليست بديلاً للحب بل متوازية معه. في قصة (وحده الظل يبقى) تختلط فكرة حب الآخرمع التصالح مع الذات. فمحيسن الأعور لا يضيره أن يقع في حب أمونة حتى أنه يأكل الزجاج من أجلها (أو هكذا أوهمه أصدقاؤه), وفي قصة (عريس في حي البنات) تشتهر نورة بالخبل والجنون ويهزأ منها الجميع حتى يقع نايف ابن تاجر كبير في حبها ويتزوجها و(في تلك الليلة فقط تمنت كل بنات الحي والأحياء الأخرى لو كانت كل واحدة منهن - نورة المجنونة المخبولة). المكان - البطل يتفرع من تيمة الحب, فكرة المكان. فنحن نشكل المكان والمكان يشكلنا في آن. ويحتل المكان أهمية في قصص ليلى العثمان حتى يصبح أحيانا البطل الرئيسي في الحبكة تدور بقية الشخصيات حوله, فمثلا في قصة (الرحيل) تجمع أم هجران حاجياتها لتغادر البلد لمدة عام مع زوجها ولكن تمسكها الشديد بالمكان يجعلها تحرص على جمع متعلقات تبدو عبثية لأبي هجران مثل بندقية الصيد, قدور نحاسية, ملاعق فضية, كتب قديمة, سجادة ولحاف صوفي, وأخيراً مفتاح البيت رغم أن موسى الشاب سيبقى به ليرعى أشجار الحديقة. ويبدو من المفردات التي تجمعها أم هجران, إن المكان يمثل لها حياتها بمعنى تاريخها الشخصي والدليل أنها حاضرة بمنطق يبرر أخذ كل مفردة في قصة (ينفصل الوطن.. تنفصل الطريق) تبدو فلسطين هي الحاضر الغائب, إذ تستحضرها فتيات المدرسة اللواتي يركبن الباص في طريقهن إلى منطقة حولي عبر الغناء الحماسي لأغنية مرسيل خليفة الشهيرة (هو ذا الصوت من الأرض السمراء آت, من حقلي, من شمسي, من آلام شعبي آت). مواز للباص, تركب غنيمة - زميلتهن الميسورة - السيارة الفاخرة في طريقها إلى المنزل حيث (الهدوء يخيم على الشوارع.. لا محلات تجارية, ولا بقاليات, لا رائحة دجاج ولا زعتر تفوح, النظافة واضحة.. أغصان الشجرتلبدت أوراقها, فلا نسمة تهزها, ولا حركة بشر, ولا أغنيات تنبعث من شبابيك الباص). ما يكون من غنيمة التي أخذها الحنين إلى إيقاع زميلاتها ورغبتها في الانتماء لمكان ذي خصوصية إلا أن تطلب من والدتها أن تركب الباص مع زميلاتها. يبدو هنا استحضار المكان بوسائل متعددة حتى يبدو حاضراً بقوة تضفي دفئا وحباً وحياة على مكان آخر وهو (الباص). وكأن ليلى العثمان لا تقبل تقييد مساحات المشاعر طبقاً لصورنا النمطية عنها, فهي تزيد من رحابة أهمية المكان عندما تجعل للحيوان المشاعر نفسها. ففي قصة (تفرقت الخيول) قام المالك ببيع جزء من اسطبل الخيول مما أغضبها كثيراً ورفضت التحرك, حتى أن (عين الشمس), (فقد السيطرة على نفسه, قتل نفسه أمام باب الاسطبل) و... تفرقت الخيول في الثورة. يسيطر اللاوعي على العديد من كتابات ليلى العثمان, بمعنى أنها تتعامل مع مفرداته وتسردها ليس بغرض وضعها تحت مجهر التحليل بل بغرض تفسير السلوك الإنساني وإلقاء الضوء على أسراره, وفي هذا تكتسب الأحلام أهمية خاصة. فتكون القصة مثلاً مجرد حلم بكل لا منطقية عالم اليقظة, وهي لا منطقية تشكل المنطق الخاص بها. فمثلا في قصة (حاكمتان) تحاكم عناصر الطبيعة الإنسان لاقترافه ذنبا ضدها في أثناء يومه, وكأن الإنسان يتطهر في الحلم. وفي قصة (حلم الطواويس) تصارع المرأة أجواء فانتازية لإنقاذ حبيبها وعندما تنجح تقول (من يقدر على الحب لا يعجز عن الغفران) - والحلم في حد ذاته بأجوائه الفانتازية الشديدة يرمز إلى الاستسلام للضعف الإنساني, وصراع المرأة مع تلك الأجواء لم يكن سوى حبها الذي يمد الرجل بقوة تمكنه من المقاومة. في (يحدث كل ليلة) يعاني الموظف الذي يرفض الانصياع للفساد في عمله حلماً أو بالأحرى كابوساً ليلياً يومياً, فما إن يبدأ نومه حتى تهاجمه كائنات وزواحف تحاول الفتك به. بعد رحلة مضنية من البحث عن علاج لهذه الحالة التي أنهكته يتمكن من تفسير الحلم, فما يحدث له بالنهار من مضايقات يظهر ليلاً في اللاوعي مما جعله يقبل كل مايحدث له. وليست الأحلام هي البوابة التي تحاول منها الكاتبة الدخول إلى عالم اللاوعي بل أحياناً ما توظف الواقعية السحرية كما في قصة (النمل الأشقر) وغيرها من القصص التي تختلط فيها الفانتازيا بالأحلام بأجواء الترميز. إن العالم الذي تتناوله بالتصوير ليلى العثمان في قصصها القصيرة على درجة كبيرة من الثراء الإنساني الغني بالدلالات, المتجاوز آفاق الواقع, الضيقة أحياناً بشكل مفارق, كما أنه عالم إيقاعه سريع يموج بنساء ورجال يتحركون في العالم ويتفاعلون معه من منطلق النفس البشرية المليئة بالألغاز والأسرار والتناقضات, النفس القادرة على الحب والكره والعطاء والانتقام وهو عالم يكسر كل حدود التفكير النمطي ونمذجة الشخصيات مما يضفي عليه نضجاً وفهما ويشي بقدرة الكاتبة على التفهم والاستيعاب. بالإضافة إلى ذلك, فهو عالم يدور في أرجاء الكويت وأحيائها وتنهل من ثقافتها الشعبية ولهجتها الدارجة والعادات والتقاليد المتعارف عليها. قهر العائلة وإذا كانت القصص القصيرة قد تميزت بإيقاع سريع خالٍ من الإطناب والتكرار فإن روايات الكاتبة تتميز بتكثيف المشاعرتكثيفا عاليا حاملا لدفقة شعورية عاصفة تكاد تنجح في تجسيد المفاهيم المجردة. يبدو ذلك جلياً في رواية (المرأة والقطة). وهي تدور حول قهر العائلة المؤسسي. مرة أخرى ترسم ليلى العثمان شخصية امرأة - العمة, حاملة لكل القيم الذكورية الشرسة التي تدفعها إلى قتل كل ما يدخل السعادة على قلب أخيها وابنه سالم. فتبدأ بوالدة سالم التي يطلقها الأب ثم تتحول إلى سالم وقطته التي يحبها, فتقتلها, ثم تصب جام غضبها على (حصة) زوجة سالم التي عوضته كل الحنان المفقود. وبهذا يفقد سالم أمه ثم قطته ثم زوجته والتي يتهم بقتلها.يتمحور كل تفكير سالم حول قطته دانة, حتى أن حصة زوجته كانت بالنسبة له تعويضاً عن دانة: (كان وجه دانة هو الوجه الذي أحببته بعد أن غاب وجه أمي. صارت هي سلوتي, ومؤنسي, لم تكن العوض عن أمي. لكنها كانت مصدرا لفرحي. حين أسمع أنفاسها أحس أنفاس أمي تدفئ وجهي. وعندما تموء أتذكر حزاوي أمي وكلامها الحنون). إنها رواية تدور حول معنى الفقد وفي هذا المعنى لا تتوانى ليلى العثمان عن خلخلة كل معتقدات القارئ الراسخة حول القطط, فالقطط في الثقافة العربية تثير عدة دلالات نمطية. فهي أولاً مرجعية تشبيهية للنساء وبالتالي يغدق على النساء (أو عليها) صفات بعينها, كالغدر والخيلاء وإنكار الجميل وغير ذلك من الصفات التي يلصقها المجتمع في اللاوعي الجمعي بالمرأة. وبتقديم القطة دانة في الرواية - بكل تلك الدلالة الإيجابية وبكل ما تمثله لسالم من حب وحنان - تعيد الكاتبة بعض التوازن المفقود في رؤية الرجل للمرأة, فإذا كانت دانة تذكر سالم بوالدته ومن ثم تذكره حصة بدانة فهذا يعني إعادة ربط المرأة بالقطط إيجابيا. فالأربعة - سالم ودانة والأم وحصة - يشكلون منظومة إيجابية في مواجهة شرور العمة. الأربعة يعانون العقد بسبب العمة التي ترمز في كلية شخصيتها وسلوكها إلى مجتمع قاهر قامع. في (وسمية تخرج من البحر) يواجه القارئ إحساس الفقد المكثف نفسه, عبدالله بن مريومة الدلالة يحب وسمية ابنة الحسب والنسب وذلك منذ طفولتهما.عندما يكبر يستمر الحب وينجحان في ترتيب لقاء على شاطئ البحر, ولكن دورية البوليس تدفع وسمية إلى الاختباء في البحر, فتغرق ولا يبقى لعبدالله سوى عباءتها. يبقى عبدالله مع أحزانه التي لا تخففها عنه إلا أمه, ولكن بعد موت أمه يبدأ عبدالله في مناجاة وسمية على شاطئ البحر ومن ثم يلحق بها. تتكثف في العلاقة بين وسمية وعبدالله معاني الحب (الذي يليه الفقد) وتحريك الطبقة مرة أخرى, فالحب الذي يجمع بين الاثنين يتجاوز كل القيود الطبقية والجدران الاجتماعية, ورغم أن وسمية أقوى من عبدالله من ناحية انتمائها لطبقة أعلى فإنها أضعف منه اجتماعيا من ناحية انتمائها لجنس النساء. لا يمكن إذن النظر إلى الجنس أو الطبقة بشكل منفصل. في (العصعص) وهي أحدث أعمال ليلى العثمان, تتكثف مشاعر الأم نحو ابنها سلوم الذي يقطع ذيل كل حيوان يراه ولا ينجو من عقاب أبيه إذ يسبب العديد من المشاكل مع أهل الحي. ولم يتمكن أحد من أفراد عائلة معيوف من أن يفهم سر هذا السلوك الغريب لسلوم.بعد عدة أحداث ينتقم فيها سلوم من فطوم ابنة فرزانة لسلوكها المشين, تقوم فرزانة بالانتقام لابنتها, فقد حرق سلوم وجهها بالخبز الساخن وقام بقص جديلتها. يعود سلوم في النهاية بعد أن يبحث عنه كل أهل الحي وتختفي فرزانة وابنتها. بالطبع هذا اختصار شديد للرواية ولكن الدراسة ليست المقام الملائم للحكي. ما يهم في العصعص أمران: الأول هو التأكيد الذي تعاوده ليلى العثمان على أهمية الماضي في تشكيل الحاضر, بمعنى الصور المخزونة في اللاوعي والتي تتحكم في السلوك الواعي للإنسان. فمعيوف وزوجته يتوصلان معاً إلى سر كره سلوم لكل (عصعص) يراه, إذ كان قد رأى أبيه عارياً من قبل وتصور أنه قد نما له (عصعص) ونتيجة لرفضه صورة أبيه بهذا الشكل, لا يتوانى عن قطع أي عصعص يراه. الأمر الثاني, هو تطور تقنيات ليلى العثمان في هذه الرواية فهي بالإضافة إلى قدرتها على تكثيف المشاعر, أصبح لديها (طول نفس) بالعامية المصرية فقامت بتتبع تاريخ عائلة معيوف - أي أبيه وجده, مما يضفي عمقاً على الرواية إذ يفسر الكثير من سلوكيات معيوف تجاه زوجته وأبنائه, كما أنه يخلق سياقاً وإطاراً واسعين للأحداث. عالم ليلى العثمان هو عالم منسوج من أعصابها ومشاعرها, عالم ممزوج بكل قطرة دم تجري في عروقها, عالم تحدثت عنه كثيرا في (المحاكمة) حيث دفعت الثمن غاليا لكل كلمة كتبتها... كتبت عن الحب الحقيقي والمشاعر الزائفة, كتبت عن الوطن وعن فلسطين, كتبت عن الفقد والاستعادة, كتبت عن قهر المرأة وقهر الرجل, كتبت عن القسوة وانتهاك الجسد, كتبت الخوف الإنساني المشروع, كتبت عن الرغبة في التحرر من الذات ومن الآخر, كتبت عن كل ما يحاول المجتمع - ونحن جزء منه - أن يخفيه, أو في أحسن الأحوال, يتظاهر بعدم وجوده. كتبت عن الكويت الظاهرة والكويت المختبئة في الأزقة والنفوس. ليلى العثمان في أنسنتها للعالم كله, في تبنيها رؤية نسوية إنسانية, في رغبتها في هدم القهر ومسبباته, (طالعة من بحر أزرق أزرق) كما يقول عنها حنا مينه في مقدمته لمجموعة (في الليل تأتي العيون). ليلى العثمان امرأة من الكويت تكتب لكل رجل وامرأة في العالم العربي... عسى الإنسان يلتزم بإنسانيته.
|