انتظار في المكان الخطأ

  انتظار في المكان الخطأ

التقيته في كافتيريا (أي بي سي), كان جالسا عند منضدة في الزاوية, وقد بدا حزينا للغاية, كان رجلا ضئيل القامة نحيفها, ذا لحية طويلة كثة, يرتدي ملابس رثة إلى حد ما, بدا الرجل وكأنه خروف ضال. حالما جلست قبالته, جاءت النادلة لترفع الأطباق الفارغة.

- أمن شيء آخر تأمر به?

نظر الرجل إلى الساعة الجدارية, مسح الطاولة أمامه بعصبية وقال بصوت خفيض:

- أظن.. أظن أني سأتناول طبق بيض مقلي. (طبق بيض مقلي) أكّدت النادلة الطلب ثم اتجهت نحوي, عندما انتهيت من تأكيد طلبي, نظر الرجل نحوي وسأل بتهذيب:

- عفوا, ولكن أيمكنك التلطف بإخباري عمّا إذا كانت هذه الساعة صحيحة?

نظرت إلى ساعتي وأجبت بالإيجاب.

(هذا ما كنت أخشاه) علّق الرجل بعد أن شكرني وكان يبدو وكأنه يود أن يضيف المزيد لو لم تصل النادلة تلك اللحظة حاملة طبق البيض المقلي الذي طلبه. (هذا مؤلم للغاية) قال الرجل, (ما هذا المؤلم) سألت باهتمام, أزاح الرجل طبق البيض جانبا وأمال جذعه نحوي وكأنه يود أن يسرني سرا. (إني أتوسم في وجهك النبل والطيبة) همس لي, وأضاف بعد أن تلفت ذات اليمين وذات الشمال, أظن أني سأتجرأ وأسألك العون. كما ترى فإني منتظر لزوجتي, أها.. (علقت) وهي متأخرة بالطبع عن الموعد, لم لا تنتظر برهة أخرى وترى ما إذا كانت ستأتي, أنت تعلم لاشك مواعيد النساء.

انتظرت قرابة أربع ساعات.

ماذا... أربع ساعات?!

لقد اتفقنا على أن نلتقي هنا في تمام الساعة الواحدة والنصف, وهأنا أنتظر منذ ذلك الوقت, لم أجد ما يمكن أن أعلق به, رغم أني أيضا رجل متزوج, فإني لم أعرف سابقا عن رجل ينتظر زوجته لمدة أربع ساعات, يبدو أنه لاحظ - دون شك - نظرة الإشفاق في عيني, إذ إنه أضاف بسرعة (في الواقع كان يفترض ألا أنتظر كل هذا الوقت, إنني لم يسبق أن انتظرتها أكثر من نصف ساعة, لكن كما ترى, بعد أن مكثت نصف ساعة طلبت وجبة خفيفة, وحيث إنها لم تأت, فكرت أن أذهب للبيت, ولكني اكتشفت أن زوجتي قد نسيت أن.. أقصد.. أني خرجت من البيت دون نقود, وبالتالي لم يكن لدي ثمن الطعام الذي أكلته...

- مؤسف.. ولكن.. (قاطعني الرجل متابعا):

ثم فكرت بأن من المستحسن أن أتناول مزيدا من الطعام, لأن الجرسونات لا يرتاحون لمن يجلس طويلا ولا يطلب شيئا, طلبت سجقا وبطاطس, أكلت طبقي ببطء, حين انتهيت لم تأت زوجتي بعد, جلست نصف ساعة أخرى ثم توجب علي أن أطلب شيئا آخر, وهكذا منذ أربع ساعات, أكلت بيضا مقليا مرتين, بطاطس وسجق, عصير طماطم, عدة أقداح قهوة وشاي وبيرة وعصير الليمون, شرائح لحم ورز, و... و,, وكما ترى الآن فإن من المستحيل علي أن أخرج, إنهم سيغلقون المحل قريبا وسيكتشفون أني لا أملك نقودا, عندئذ سيستدعون الشرطة في الحال وسيكون موقفي مخجلا). ثم دفن وجهه بين يديه وهو يندب بصوت باك, هذه آخر مرة أتواعد معها على اللقاء في كافتيريا (القط الأسود).

- ماذا (القط الأسود), (هتفت باستغراب) ولكن هذا ليس كافتيريا القط الأسود, إنه أي.بي.سي.

قفز الرجل من مقعده مذعورا, ليس القط الأسود, يا إلهي الرحيم لقد قضيت نهاري جالسا في المكان الخطأ, ماذا سأفعل الآن?

بدا الرجل وكأنه يوشك أن يجهش بالبكاء, شعرت بمزيد من الإشفاق عليه, هتــفــت بحــرارة (لا علـيك يا رجل تمالك نفسك, سأدفع ثمن طعامك وشرابك). هدأ روع الرجل مجددا, تنفس الصعداء, أمسك قبضتي المضمومة فوق الطاولة بكلتا يديه وهتف بي بصوت مختنق من اضطراب مشاعر الامتنان (كم أنت طيب أيها الشاب, ليوفقك الله, أرجوك أن تعطيني عنوانك لأرد لك نقودك حالما أعود للبيت) ثم نادى على النادلة بثقة:

(فاتورة حسابي لطفا). جاءت الفتاة بفاتورة الحساب, (ثمانية جنيهات ونصف) علق الرجل بصوت خفيض (ظننتها أكثر) قلت لكيما أخفف عليه مشاعر الحرج, عقب بضع دقائق كان قد سدد فاتورته من القرض التطوعي الذي وهبته له, دس بطاقة العنوان التي سلمته إياها, ومضى مسرعا بخفة الغزال, ومضت الأيام, وذات مساء وإذ كنت أدخل كافتيريا القط الأسود, وإذ كنت أهمّ بالجلوس, لمحت عند الطاولة المقابلة, رجلاَ أنيق المظهر, تبدو عليه سيماء الوجاهة, يجلس قبالته (موليا إياي ظهره) رجل ضئيل الحجم, فجأة سمعت الرجل الضئيل يقول: إني أتوسم فيك النبل والطيبة أيها الشاب, كما ترى فأنا جالس بانتظار زوجتي).

 

كامل السعدون