ليلى محمد صالح و (عطر الليل الباقي)

ليلى محمد صالح و (عطر الليل الباقي)

تتألف هذه المجموعة من ثماني قصص تدور حول الهموم الاجتماعية والسياسية التي يعيشها الإنسان في عصرنا الحاضر, وقد اتسعت دائرة هذه القصص من الهم الذاتي لتشمل هموماً عامة.

عبر الأنساق التي اختارت فيها المؤلفة ليلى صالح شخصياتها يبدو أن نموذج المرأة التي تعيش حالة من الحلم, يغدو نموذجاً يعيش حالة مأساوية مسكونة برعب الواقع الذي لم يتخلص من التقاليد والأعراف ويضح حداً لقتل أحلام الفرد المتمثل بالمرأة التي لم تستطع أن تتزوج من تريد والرجل الذي حالت القيود دون زواجه ممن يريد أيضاً. إن هذا الوضع قاد إلى تقديم النموذج الإنساني المسكون بهواجس الحزن لعدم تحقيق الهدف, ولذا تتجلى الذات الأنثوية في قصة (الليل الباقي) في محاولة التغلب بالانتصار على الانكسار وذلك بانفتاح المرأة على أفق الحلم الأخضر المتوهج بالأمل والوعد.

ويبدو أن المؤلفة تضع يدها على موضع صارت له إشكالاته في المجتمع العربي عامة وهو موضوع الزواج من (الأجنبية) وذلك في قصتها الموسومة بـ(الذي قد كان كان) ولذلك يكون حضور الشخصية الرئيسية في القصة حضوراً موزعاً بين تجليات الانفتاح على العالم الغريب والانجذاب إلى لحظات الماضي عبر تذكر الشخصية لجزئيات حياته في وطنه: ترابه ورمله وزرقة سمائه, كلمات أمه التي مازال رنينها صراخاً يدوي في أعماقه وهي تدعو له وتوصيه بعدم الزواج من الأجنبيات, وعندما يخسر ابناءه في حادث سير وترفض زوجته العودة إلى وطنه, تجعل المؤلفة الشخصية تترفع على جراحها وتقبل على آمال جديدة.

حالة من الذكرى

وتتكثف العاطفة الإنسانية في قصة (الصورة المعلقة) المتمثلة بالقاصة التي تتحدث عن تجربة واقعية, وهي موت أمها, وهي قصة تتجلى فيها حالات من الشعور والوجدان الإنساني الذي يعيش كل لحظة شعوراً حزيناً لكنه حزن مغلف بالإيمان, الذي يوقن بأن فراق الإنسان لأمه وأبيه لا بد أن يتحقق, وهي حقيقة لا بد منها.

وفي قصتها (شموخ قمر العارضية) تتجسد تجربة إنسانية تحاول أن تبرز التفاني في الدفاع عن الوطن وحمايته من الغزاة, فقد كشفت هذه القصة عن نموذج الإنسان الذي يدافع عن وطنه, وهي قصة تحكي ما فعله الغزاة من قتل وفتك, لكنها في المقابل تقدم نموذج الإنسان البطل الذي يصمد في وجه المحتل, وهو نموذج واقعي, إنه نموذج الشهيد الذي يولد من جديد حاملاً معه إشارات النصر والفرج, وهذه القصة استطاعت أن تطرح تجربة حب الوطن والتفاني في حبه.

وتتجلى في قصة (للوظيفة أبواب) عوالم القلق والاضطراب, حتى أن المؤلفة لم تستطع أن تخفي هاتين الصفتين عن بطلها, فعندما تحدثت عنه برزت صفتا القلق والاضطراب في انتظار مقابلة الوكيل للحصول على الوظيفة, ولكن يبدو أن الأمل بالحصول عليها قد تحطم منذ أن تحققت المقابلة, لأن الإحساس بالظلم وغياب العدالة حاجز يمنع الإنسان من تحقيق ذاته. وبرغم أن الكاتبة عبرت عن هذا الإحساس, فإنها تعاطفت مع بطل قصتها فجعلت الانفراج يتحقق بالحصول على وظيفة, وتحاول هذه القصة أن تعبر عن عيب اجتماعي يهيمن على وجود الإنسان الحالم بالحصول على حقوقه.

الوفاء والغدر

وتتكشف في قصة (الزواج ولكن) عوالم في تبدل الشخصيات وتغيرها, ففي حين تصور القصة نظرة الفتاة إلى الزواج فإنها تقدم رؤية أمها المغايرة وعندما تتزوج الفتاة تكتشف أن زوجها يخونها, ونموذج الخيانة الزوجية نموذج ماثل في انحطاط الإنسان الذي يسعى لمقابلة الوفاء بالغدر, وتنسحق المرأة الوفية عبر لامبالاة الزوج الذي أدار لها ظهره واضطرت للانفصال عنه, وتضطر بعدها للزواج من رجل آخر, ولكن هذا الرجل لم يستطع أن يتخلص في علاقته بها من أن هناك رجلاً آخر كان في حياة هذه المرأة.

وتتجلى في قصة (للسفر لون آخر) تجربة إنسانة حالمة بالسفر ولكنها وهي تستعد للمغادرة بعد أن جهزت كل الأشياء الضرورية للسفر تتعرض لحادث اصطدام مع سيارة أخرى, وفجأة ترى نفسها في المستشفى غير قادرة على الحراك. وإذا كانت الكاتبة تريد أن تشير إلى تدخل القدر في صنع الحدث وتوجيهه الوجهة التي يريد فإنها تدرك وهي تعالج ظاهرة يومية وهي حوادث السير, أن السعادة معدومة في الحياة, عبر سؤالها: (لماذا الحياة تبخل علينا بالفرح.. لماذا لا تريد أن يكون الإنسان سعيداً جداً?).

تقنيات السرد

وقد اعتمدت الكاتبة سلسلة من التقنيات السردية بحيث يظهر حديثها بلغة الأنا الساردة, أو أنها تراوح هذا السرد وتجعله على لسان شخصياتها التي اختارتها من الواقع, حتى جعلت الواقعية الممزوجة بالوصفية صفة أساسية من صفات القص عندها. وإذا كانت الشخصيات قد استمدت من الواقع بصورة واضحة, فإن الموضوعات التي تطرحها هذه المجموعة القصصية على تنوعها استطاعت أن تمزج بين خيوط الرومانسية وخيوط الواقعية بشكل كلي. وتتجلى واقعية هذه القصص من خلال الأطر المكانية التي اختارتها القاصة فقد دارت أحداث هذه القصص في أماكن متعددة من الكويت مثل بيان والجادة الثانية عشرة والقطعة السابعة (ص13). وقرطبة (ص28), ومدرسة المرقاب (ص42), ومستشفى مبارك (ص44), (ص101), والعارضية (ص51), (ص52), والمباركية (ص93), والسرة (ص98), وجسر حولي والدائري الرابع (ص98) والجابرية (ص98).

ومما يتجلى في هذه المجموعة كثرة ورود المشاهد الوصفية المغلفة بالإطار الرومانسي الحالم, ويتجسد مثل هذا الأمر في قصة (سقوط القمر) إذ تتكشف اللغة عبر ميزتها الرومانسية تقول مخاطبة القمر: (سيدي وسيد الليل.. يامظلم كنفسي الحزينة.. ومعتم كالأماني المستحيلة.. لو لم أكن رومانسية مثلك أيها النقي المرسوم في عمق المدى. لما انعكست مرآة روحي في مراياك الملونة.

ولما احتميت بك كحمامة مستسلمة. ولما استطعت أن أتجاوز معاناة الخوف والقلق والنشوة لأسمعك مع خيوط الفجر الأولى. وفي هذه الساعة التي تقترب من الثانية بعد منتصف ليل أغسطس. وأنا أبحر من الليل ليلاً. ومع الصمت صمتاً...)

وقد تكررت هذه المشاهد التي يبدو بها بوح الذات والكشف عن الأسرار المدفونة في تلافيف الروح, لتعبر فيها الكاتبة على لسانها أو على لسان شخصياتها, إذ تنداح الكلمات لتشكل دوائر من الأمل والألم والتفاؤل واليأس, والاخضرار والسواد والإشراق والانطفاء, والحلم والواقع, وهي ثنائيات تعيشها الذات الساردة والشخصيات التي اختارتها.

ولم تستطع الكاتبة أن تتخلص من هذه الثنائيات وهي تتحدث عن شخصياتها, فهي شخصيات موزعة بين ثنائيات أيضاً, وقد تمكنت أن تتغلغل في نفسيات هذه الشخصيات وتكشف عن أعماقها وما يعتمل في دواخلها من هواجس وأحاسيس تقول عن الشخصية الرئيسية في قصة الليل الباقي: (الجالسات في مجلس العزاء يسترقن النظر نحوها.. الموت هنا يبدو غريباً الصمت مطبق وقاتل.. للحركة طقوس.. أدركت أن ليس من حقها أن تظهر حزنها.. أو أن يبدو منها شيء مما يعتمل في داخلها.. حملت الأحزان وأحلام الغياب والانتظار بجفنيها.. آه لو أموت معه ثم يعاد خلقنا.. سيكون الحب جديداً وجميلاً لنا وحدنا.. لكن الموت قدر.. في اللحظة التي يموت فيها إنسان يولد إنسان آخر..).

توظيف مفردات الواقع

وقد عمدت الكاتبة إلى توظيف بعض الأغاني المشهورة من مثل أغاني فيروز والأغاني الشعبية الكويتية التي تغنى في المناسبات المختلفة, وأهازيج الصبا ووظفت مقطعاً من شعر الدكتورة سعاد الصباح تتغنى فيه بالوطن, وكل هذه الأشياء أضفت على القصص طابع التماس مع الواقع الكويتي بوجه خاص عبر تجربة تسعى لأن تنقل من خصوصية التجربة إلى عموميتها, وبالإضافة إلى ذلك فقد ذكرت الكاتبة مثلاً شعبياً هو: (حلاة الثوب رقعته منّه وفيه)..

وقد استخدمت الكاتبة اللهجة العامية في بعض الأحيان لتجعل الشخوص تتحدث بمستوياتها الثقافية وقدراتها المتفاوتة, وهذا أمر يعطي الشخصية ميزة أكبر للارتباط بالواقع ولذلك عندما تستدعي الشخصية ذكرياتها في قصة (الذي قد كان كان) يأتي صوت الأم ليوقظ في نفس الشخصية ارتباطها بالوطن, وذلك عندما تستدعي صورة الأم قائلة: (عسى الله يوفجك يا وليدي وتقر عيني بضناك.. إياك يا وليدي والزواج من الأجنبيات)..

واستطاعت الكاتبة أن تستخدم أسلوب القطع وانتقال السرد من حالة الى أخرى ومن موقف الى آخر ومن زمن إلى زمن آخر جديد ومن مكان إلى مكان ومن عالم إلى آخر وهكذا.. وقد استطاعت أن تترك للقارئ مسافة للتأمل والإكمال من خلال استخدام أسلوب الحذف الذي تكرر مرات عدة في هذه القصص. تقول مثلاً في قصة (الذي قد كان كان): سافرت مع ولديها.. ومزيج من المشاعر طافت بها.. الفرحة.. البهجة.. القلق.. الحزن.. كانت حزينة على فراق زوجها وحبيبها والمكان الذي تعودت عليه.. وفرحة لأنها سترى وطنها وأهلها.. و..و.. و..

الشخصية والواقع

واللافت للنظر في هذه القصص أن الكاتبة تتعاطف مع شخصياتها بشكل كبير, وقد تجلى ذلك في معظم القصص من مثل: (الليل الباقي), و(الذي قد كان كان), و(شموخ قمر العارضية), و(للوظيفة أبواب), و(الزواج ولكن), و(للسفر لون آخر) وتعاطفها مع هذه الشخصيات يصنع الآمال والطموحات, والأجواء الجديدة المنفتحة تجعل من الكاتبة قادرة على نمذجة شخصياتها التي لا تريد لها أن تنكسر وأن تظل محتفظة بانكساراتها, لكنها تريد لها أن تتجاوز ذلك لتحلق بها في أجواء حالمة تفيض أملاً وتفاؤلاً وإشراقاً.

إن تجربة ليلى محمد صالح في (عطر الليل الباقي) تجربة جسدت موضوعات وأفكاراً ورؤى وأحلاماً ومزجت الواقع بالخيال الحالم والتعاطف مع الشخصيات بشكل يسعى إلى إعادة الحلم وفتح باب الأمل المغلق بشكل محكم, وإذا كانت الانتقالات المفاجئة إلى النهايات غير المتوقعة شيئاً يوقف القص والسرد, فإن ذلك قد يشكل ميزة وطابعاً خاصاً تمتاز به هذه المجموعة عبر معالجتها لموضوعات متعددة تكشف عن رؤى الكاتبة ومواقفها من الأشياء التي تحيط بها.

 

موسى ربابعة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




ليلى محمد صالح