أفلام هوليود وتحويل الهزائم إلى ملاحم

أفلام هوليود وتحويل الهزائم إلى ملاحم

تــمـجـّد الـبـطـل الـفـرد وتـطـارد الـعـدو

لاتزال هوليود تصنع أفلام عنف وحرب, لتمجيد بطلها السينمائي الخارق, على الرغم من أن هذا البطل الخارق اختفى, كليّا, في الحادي عشر من سبتمبر 2001. فهوليود ترى في هذا النوع السينمائي منجماً ذهبياً يدرّ عليها ملايين الدولارات. وإلا, فما معنى إطلاقها العروض العالمية لمجموعة من الأفلام الحربية, التي تدور في فلك تمجيد البطل, ورفع شأنه عاليا, على الشاشة الكبيرة, على نقيض الواقع المزري? وما معنى كثرة المشاريع الحربية?

بعد الاعتداء الشهير على الولايات المتحدة الأمريكية, في الحادي عشر من سبتمبر الماضي, طرح سؤال عن مستقبل الصناعة السينمائية في هوليوود, وعن النوع السينمائي الذي يمكن أن يكون بديلا عن أفلام الحرب, تحديدا, التي برعت عاصمة الفن السابع العالمي في تحقيقها. عشية الاعتداء, استعدت هوليود لإطلاق مجموعة من الأفلام الحربية, وأخرى اتخذت من نيويورك وبرجي (المركز العالمي للتجارة) مسرحا لأحداثها أو خلفية ما. لكن الحدث المأساوي أجّل كل شيء, ودفع مديري شركات الإنتاج والتوزيع والاستوديوهات إلى إجراء تعديلات, جذرية أحيانا, على المشاهد المصوّرة, أو على الملصقات.

لكن, ما الذي جرى بعد ذلك? لم تستطع هوليود أن تلغي مشاريعها السينمائية التي تدرّ عليها أرباحا خارقة. أدركت أن إطلاق العروض المحلية (في الصالات الأمريكية) لأفلام الحرب والعنف, غداة (الثلاثاء الأمريكي الأسود), يساهم في إثارة النقمة الشعبية والنفور الجماهيري, بسبب سطوة المأساة وقوة حضورها في المجتمع. تبدّلت أحوال هذا المجتمع, بعد أشهر قليلة. بات يمكن إطلاق سراح أفلام لم يملّ صانعوها من تقديس البطل الأمريكي المناضل, بشهامة وإنسانية ونقاء روحي وأخلاقي, ضد (الإرهابيين) الذين يعيثون فسادا وفوضى ودماراً, بالولايات المتحدة وبمصالحها في أرجاء العالم. (إرهابيو) الأفلام هذه, ومجرموها, ينتمون إلى جنسيات مختلفة: صوماليون , صرب, كولومبيون, أوربيون شرقيون, عرب وفيتناميون, أقلّه في أفلام جديدة بدأت, أخيراً, عروضها التجارية في الصالات الأمريكية والأوربية وبعض العربية, وهي: (سقوط الصقر الأسود) لريدلي سكوت, (خلف خطوط العدو) لجون مور, (كنا جنودا) لراندال وألاس, (ضرر جانبي) لأندرو دايفيز و (لعبة جاسوس) لتوني سكوت.

لعلّ السمة المشتركة بين هذه الأفلام كلّها, تكمن في إعادة تصوير البطل الأمريكي, بكل الصفات الحسنة والخيّرة والإنسانية. هذا البطل لا يرغب في الحرب. إنه رجل السلام والمحبة, متصالح مع الآخرين كلّهم, لأنه متصالح مع نفسه, ربّ عائلة أمريكية نموذجية أو مثالية, أو شاب في مقتبل العمر, مليء بحماس لافت للنظر لخدمة وطنه, بفضل التربية الأخلاقية والوطنية التي تلقّاها. دائما يجد البطل نفسه في موقف لم يختره هو, بل فرض عليه فرضا. صحيح أنه جندي انتسب إلى المؤسسة العسكرية بملء إرادته, حبا بالوطن ورغبة في تحقيق الحلم الأمريكي والرفاهية الاجتماعية والإنسانية. لكنه ليس من دعاة الحرب, إلا حين يتعرّض الحلم الأمريكي, كتجسيد للأمة الأمريكية للخطر. لا يعلن حربه على أحد, أبدا, إلا حين يتعرّض للهجوم من قبل هذا (الأحد), فإذا به يتجاوز الأعراف كلّها, والأخلاقيات كلّها والحسّ الإنساني, بهدف (إصلاح) الخطأ, وإيقاف المعتدي عند حدّه, وإبادة الأشرار الإرهابيين بمختلف أنواع الوسائل الممكنة, من دون أدنى رادع إنساني أو أخلاقي, تربّى عليها سابقا, والسبب أن (العدو) مارس عنفا لا يمكن إيقافه إلا بعنف مضاعف.

تصرّ هوليوود, إذن, على تمجيد بطلها الخارق. لا تستطيع أن تتوقف عن إنتاجه, بأشكال مختلفة, وإن بدت هذه الأشكال متشابهة, لا يمكنها أن تعيد النظر, جذريا, بالصورة الخيالية التي صنعتها عنه, فهو المنقذ من الخراب الذي أصابها على الشاشة الكبيرة. أما في الواقع, فالمشهد مرعب للغاية: اختفى أبطالها الخارقون, لحظة الهجوم الانتحاري عليها. مع هذا, لا تريد هوليوود (تصديق) الغياب المطلق لأبطالها المزعومين. ها هي تعيد صوغهم مجددّا, تعيد النبض إلى أجسادهم والروح إلى ذواتهم, إنها تعيد أيضاً تصوير أمجادهم وبطولاتهم. في المقابل, يستمرّ البطل الأمريكي نفسه في تجسيد الصورة المعهودة: الفرد يثأر للجماعة. الفرد الموغل في إنسانيته وهدوئه ومثاليته وبساطته ومحبّته للآخرين. الفرد ربّ العائلة الذي يعشق زوجته, ويحب أولاده, ولا يتردد لحظة عن إنقاذ الآخرين من الموت, مضحيا بنفسه وروحه, إذا لزم الأمر (غير أن هوليود تتحاشى موته على الشاشة, كي لا تجرح مشاعر جمهورها الأمريكي, تحديدا), الفرد الوطني المؤمن بعدالة أمّته وشرعية الحلم والتفرّد الأمريكيين.

مع هذا, فإن أحداث (الثلاثاء الأمريكي الأسود) كشفت الهوّة السحيقة بين هذا النوع من السينما والحياة: البطل المنتصر للحقّ الأمريكي, المدافع عن الشعب والمجتمع والتاريخ والحضارة والحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والأخلاق الحميدة والخير, هذا البطل نفسه الذي قدّمته هوليوود, للمرة المليون, في شكله الإنساني المفرط في إنسانيته, والشرس في دفاعه عن أمته, في الوقت نفسه, غاب عن الواقع ولم يستطع أن ينقل بطولاته من الشاشة إلى الحقيقة, لأنه ببساطة لم يكن سوى بطل وهمي, أغرق جمهوره في أحلام باهتة, فإذا بالصدمة لا تحتمل: لا وجود للبطل, مهما حاولت هوليوود وغيرها (الإدارة السياسية أو العسكرية في الولايات المتحدة, الإعلام الأمريكي, الثقافة الجماهيرية, إلخ) أن تمعن في تجسيده بطلا لا يقهر, لكن على الشاشة فقط, أي في المتخيّل.

حتى لو اقتبست بعض هذه الأفلام من قصص واقعية, مثل (سقوط الصقر الأسود) و (كنّا جنودا), إلا أن الآلة السينمائية في هوليود قادرة على تحويل الهزائم العسكرية الأمريكية الواقعية, إلى بطولات خارقة على الشاشة الكبيرة, قادرة على إلغاء الآخر, أي (العدو) بالنسبة إليها, وعدم إظهاره على الشاشة إلا قاتلاً سفّاحا يريد الموت لأمريكا وجنودها وشعبها.

ترفض السينما الأمريكية في هوليود أن تقر بالواقع, لأن الواقع مؤلم. صحيح أن (سقوط الصقر الأسود) التزم حقائق عدة جرت أحداثها إثر التدخل الأمريكي العسكري في الصومال, في العام 1993, للقضاء على محمد فارح عيديد. غير أن صانعي الفيلم أبرزوا الجنود الأمريكيين أبطالا وشجعانا لا يخافون المخاطر, مادام الهدف نبيلا وإنسانيا: إنقاذ الصوماليين من (هتلر الصومال) كما وصف عيديد من قبل الإدارة الأمريكية. حتى وهم يواجهون موتهم بسبب أخطاء فادحة في المعلومات وتنظيم المعركة وإجلاء الضحايا والجرحى, ظل (العدو) الصومالي بعيدا عن التصوير المباشر, لأنه ليس إلا شبحا مجرما يريد قتل الأمريكيين, والفيلم لم يكشف, مثلا, الأسباب الحقيقية للغضب الشعبي الصومالي ضد الجنود الأمريكيين, ولم يسمح لهم بالتعبير عن رأيهم في الأحداث الداخلية, ولم يفسح مجالا أمام وجهة نظر مخالفة للتدخل الأمريكي البربري. علما أن الدقائق القليلة جدا التي استمع الجمهور السينمائي, في خلالها, لكلام صومالي ما, لم يكن على المستوى التاريخي للحقائق والوقائع.

هذا ما حصل, أيضا, في (كنا جنودا:): العودة, مجددّا, إلى الحرب الفيتنامية, التي مني فيها الأمريكيون بخسائر لا تعدّ ولا تحصى, بالأرواح والأموال والهيبة. لاتزال آثار الحرب هذه فاعلة ومؤثرة في المجتمع الأمريكي, إلى اليوم. أمراض نفسية وإصابات في الجسد والروح. ومع هذا, لا تأبه هوليود بذلك كلّه: همّها الأول إعادة صوغ الأحداث بما يتلاءم مع سياستها المتطابقة, إلى حدّ بعيد, مع سياسة الإدارة الأمريكية والمؤسسة الرسمية (ازداد التطابق بينهما, في مرحلة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر). أكثر من ذلك, أمعن صنّاع الفيلم في الانتقاد الساخر والعنيف ضد الفرنسيين, الذين خاضوا المعركة نفسها في الموقع نفسه قبل وقت طويل, فإذا بالجنود الأمريكيين (يثأرون) للهزيمة الفرنسية, وينقضّون على العدو الفيتنامي (البربري, الوحشي, العنيف, غير الأخلاقي, إلخ), و(ينتصرون) في معركة قتل فيها عدد كبير جدا منهم. كان على صنّاع الفيلم أن يلتزموا بعض الحقائق, إذ إن جنودا كثرا قتلوا في المعركة. غير أن التصوير السينمائي المحترف يتقن عمله: دفع الأمريكيون ثمنا غاليا من أجل انتصار الحق والعدالة والخير والسلام, بالمفهوم الأمريكي البحت.

لا تقلّ الأفلام الأخرى ادّعاء باهتا بالبطولة الوهمية. في (خلف خطوط العدو), مثلا, حقّق البطل الفرد انتصاراً ساحقاً على الصرب, الذين برزوا وحوشا وقتلة. في حين أن (لعبة جاسوس) نقل البطولة من الجيش إلى أجهزة الأمن والاستخبارات, مشدّدا على (الملاحقة الأمريكية الدائمة لأعدائها, في مدن وعواصم مختلفة), ولعلّ (ضرر جانبي) يختلف عن الأفلام السابقة, إذ إن بطله لا ينتمي لا إلى المؤسسة العسكرية, وإلا إلى أي جهاز أمني: إنه إطفائي فقد زوجته وابنه في حادث (إرهابي), فبدأ رحلة الانتقام, خصوصاً بعد أن تخلّت الإدارة الأمريكية عنه, بسبب اهتماماتها السياسية والاقتصادية.

هناك مفارقة لابدّ من التوقّف عندها, قليلا: الجودة الفنية والدرامية لغالبية هذه الأفلام. التصوير الحربي بات لافتاً للنظر في هوليوود, البارعة في استخدام علاقاته الوطيدة بالإدارتين السياسية والعسكرية في الولايات المتحدة, اللتين تؤمنّان لها كل ما تحتاج إليه من معدات وأدوات وخطط وثكنات ومراكز أمنية (بعضها سرّي أحيانا). غير أن هذه الجودة الفنية والدرامية لا تلغي الرسالة المبطّنة التي تبثّها هوليود في استخدامها, أن تحجب الركاكة الفظيعة التي سقطت فيها هذه الأفلام, شكلا ومضمونا. فمنذ اللحظات الأولى, بدا واضحا أن المنتجين يلقّنون المشاهدين دروسا في الوطنية والأخلاق والإنسانية, قبل أن يتعرّض الأمريكي لهجوم وحشي من (الآخر), العدو الذي تتغيّر جنسيته وشكله ولونه, بحسب ما تراه هوليود (والإدارة الأمريكية) ملائما لسياساتها. لا تهمّ جنسية العدو (ربما لأن أعداء أمريكا كثّر): فالولايات المتحدة تعرف كيف تصنع أعداءها, في الواقع كما على الشاشة الكبيرة, تلتقط التحوّلات العالمية (إن لم تكن طرفا فاعلا فيها), وتجيّر كل شيء لمصلحتها: انتصارات حلفاء لها, أو هزائمها هي. لا تتردد في تزوير الحقائق, أو بالأحرى في (تحويل) الهزائم الحقيقية والتاريخية إلى معان سامية في البطولة والأخلاق الحميدة والسعي إلى تحقيق الخير والسلام والعدالة, سينمائيا. تعود إلى الحرب العالمية الثانية (بيرل هاربور, إنقاذ الجندي راين, مثلا) أو حرب فيتنام (كنا جنودا). تلتقط ما حصل في الحرب البوسنية - الصربية, من وجهة نظرها هي (خلف خطوط العدو), وتصنع من هزيمتها في الصومال (سقوط الصقر الأسودّ), ملحمة بطولة لـ(شهدائها) الأبرار. في ذلك كلّه تعيد هوليوود صوغ الحكاية الأمريكية على طريقتها الخاصة. تكتب تاريخها, بحرية أكبر, على الشاشة الكبيرة, حيث يمكنها أن تلغي ما تشاء, وترفع من شأن من تريد, وتسخر من الجميع, بمن فيهم مشاهدو أفلامها. لا تأبه لمآزقها الداخلية, فهي تعرف كيف تقدّم الحلول لها: بتجاهلها على الشاشة الكبيرة. بعدم التطرّق إلى دلالاتها. بلا مبالاة فاقعة. هذا ما يحدث في هوليوود, في حين أن الأمر مختلف في خارجها, خصوصا في إطار ما يعرف بالسينما المستقلّة, أو بالنسبة إلى مخرجين كبار, يعملون في هوليوود ولا يلتزمون (دائما) نظامها, فهم النقيض الفعلي لها, لأنهم اختاروا معاينة الواقع والحقيقة, وتشريحهما فنيا ودراميا وإنسانيا.

 

نديم جرجورة







آرنولد شوارزينجر في (ضرر جانبي) لأندرو ديفيز: الفرد يثأر لمجتمعه.





مل جيبسون في مشهد من فيلم (كنا جنودا) لراندال والاس: تزوير بعض التاريخ.





روبرت ريدفورد وبراد بيت في (لعبة جاسوس) لتوني سكوت: بيروت مسرحا لحروب الاستخبارات الأمريكية