عـدنـان قريـش شـيـخ مـلـحـنـي ســـوريا عـلـى مـدى نـصـف قـرن

عـدنـان قريـش شـيـخ مـلـحـنـي ســـوريا عـلـى مـدى نـصـف قـرن

مـــــاذا تــقــول الــتــســعــون?

أحرجتني الدعوة الكريمة التي تلقيتها من (العربي) الغرّاء, للمشاركة في الكتابة لـ (مرفأ الذاكرة)... مرتين:
- الأولى لأنها ستضطرني للتحامل على نفسي, وعلى مرضي, وعلى أعوامي التسعين, فأخطُّ شيئاً من السيرة الذاتية.

- والثانية لأنني لم أكن لأتوقع أن أكتب, أنا, هذه السيرة, بعد الرفض المتواصل لطلبات الزملاء والأصدقاء أن أكتب سيرتي الذاتية والفنية التي اخترقتُ بها القرن العشرين على طوله, فلم أكن يوماً من المتحمسين لكتابة المذكرات, وكنت أفضّل ألا أضع نفسي في صيغة المتكلم, بل أترك للآخرين أن يتحدثوا عني, ويقوّموا تجربتي, حتى لا أكون مثل (مادح نفسه الذي يقرئك السلام).

ولكني, أمام هذا التكليف من المجلة التي تتصدر بجدارة مسيرة الثقافة العربية على امتداد أكثر من أربعة عقود من الزمن, والتي دخلت كل بيت, واكتسبت ثقة القارئ واحترامه على امتداد الوطن العربي وخارج حدوده, لا يسعني إلا أن أنهض من فراش المرض, ومن الحالة التي هي أقرب إلى الكساح, لأحمل القلم بيد مرتعشة, وأدخل (مرفأ الذاكرة), وأنا أتساءل, كما قد يتساءل قارئ سيرتي: ترى... ماذا ستقول التسعون?

البداية مع زوربا

قد يفاجأ القرّاء بأن اسمي الحقيقي ليس عدنان قريش, بل هو (خير الدين عدنان الداغستاني), ويمكن أن نعتبر الاسم الذي اشتهرت به.. أي (عدنان قريش) هو الاسم الفني, إذ كان احتراف الفن في بداية القرن العشرين نوعاً من الخروج غير المقبول, على عادات وتقاليد الأسر المحافظة التي كانت تعتبر الفن (رجساً من عمل الشيطان).

كان ميلادي عام 1911, أي أنني الآن قد تجاوزت التسعين, ولهذا أجد الكثير من الصعوبة في محاولة لملمة أفكاري, والوقوف عند المحطات الرئيسة في مسيرتي الحياتية والفنية, ولكني سأحاول الاعتماد على الذاكرة الواهنة, وعلى ما كتب عني في بعض الصحف والمجلات, فإن أغفلت ذكر اسم أو حادثة, فلي عذري لأن السن لها أحكام.

كنت منذ اليفاع أميل إلى الموسيقى والطرب, وكنت أمتلك كما يقولون (أذناً موسيقية).. أي أن اهتماماتي الموسيقية بدأت في سن مبكرة, وتشاء المصادفات أن أتعرف إلى التركي (شوقي بك زوربا) وكان من أعلام الموسيقى الشرقية في تلك المرحلة, ولما لاحظ تعلقي بالموسيقى, أخذ يدربني وعلمني العزف على أكثر من آلة موسيقية في مقدمتها آلة العود.

علمني الموسيقي زوربا أسس التدوين الموسيقي (كتابة النوتة) أيام كان الكثيرون يعتمدون على السماع في العزف والتلحين.. وهكذا كان زوربا أستاذي الأول.

تجمع موسيقي

أحب أن أستدرك لأقول إن من أسباب ولعي بالموسيقى, كان الجو الذي يحيط بي, والبيئة التي أعيش فيها, فقد كان أخوتي الثلاثة الذين يكبرونني سناً من هواة الموسيقى, والعزف على الآلات الموسيقية كالعود والكمان.. وكنت أسعى لحضور السهرات والحفلات والأعراس, كما كنت المستمع الوحيد لهم عندما كانوا يعزفون في البيت ولهذا, عندما قرر الموسيقار زوربا أن يرعاني ويوجهني ويدربني, وجد بين يديه خامة طيعة وفتى متشربا بروح الموسيقى في تربيته البيتية وبين عامي 1920 - 1923 بدأ ولعي الجديد بحضور الأذكار الدينية التي كانت تقام في البيوت, في حيّنا وفي الأحياء المجاورة, وأصبحت من المدمنين على حضورها, في الوقت الذي كنت أستغل فيه غياب أهل البيت لأواصل تدربي في العزف على آلة العود.

وقام في دمشق أول تجمع موسيقي فني عام 1928 باسم النادي الموسيقي السوري, وقد انتسبت إلى هذا النادي الذي لقيت فيه من أعضائه كل رعاية, وكنا جادين في العمل مما أهّلنا للمشاركة في أعمال المؤتمر الأول للموسيقى العربية الذي عقد في القاهرة عام 1932.

وقد نال أحد أعضاء فرقة النادي الجائزة الأولى في المهرجان, وكان الأستاذ شفيق شبيب, أما المقطوعة التي فازت بالجائزة, فقد كانت باسم (معزوفة الصباح) التي قدمت في إحدى أمسيات المؤتمر في دار الأوبرا بالقاهرة.

فنان رائد

في العام 1932 تعرفت إلى الفنان الكبير والممثل المعروف باسم (القصاص الشعبي) حكمت محسن (أبورشدي) وكان من سكان حي المهاجرين بدمشق, وهو الحي الذي أقطن فيه حيث ولدت وترعرعت فيه ولا أزال أسكنه, وكان حكمت محسن من هواة التمثيل الفكاهي, وقد كتب أول ما كتب رواية من النوع الفكاهي, وكوّن فرقة من أبناء الحي, وقرر أن تقدم الفرقة هذه الرواية, واختارني للمشاركة في التمثيل, ولكني كنت أميل للموسيقى التي أجد فيها نفسي أكثر من التمثيل.

قدمنا المسرحية أمام الجمهور على مسرح أقمناه في حديقة المنشية التي كانت تابعة لبلدية (قطنا), وقد اقترحت عليه أن نقدم في العرض فرقة للموسيقى والغناء, وهكذا كان, أسسنا الفرقة الموسيقية مني, ومن عمر النقشبندي الذي أصبح فيما بعد أشهر عازف عود في سوريا, كما ضممنا للفرقة فيما بعد شابين موهوبين هما: جورج حبيب, وعادل المالح.

وقد حقق العرض المسرحي, ومعه العرض الموسيقي نجاحاً جماهيرياً بادياً, مما شجعنا على الاستمرار في العطاء الفني

إلى الإذاعة

محطة أخرى مهمة أقف معها بإيجاز, كانت عام 1940 عندما ساهمت مع بعض الزملاء في تأسيس معهد جديد أطلقنا عليه اسم (معهد أصدقاء الفنون) الذي عملت فيه باندفاع دءوب على مدى عامين, وفوجئت بعد ذلك بدعوتي للعمل في إذاعة راديو الشرق ببيروت.. وفي الوقت نفسه دعيت للعمل في إذاعة الشرق ببيروت, وقد اشتركت مع النوادي الموسيقية القائمة في دمشق آنذاك, في تقديم برامج موسيقية وغنائية على أثير الإذاعتين, وكان التقديم (على الهواء مباشرة) إذ لم يكن بالإمكان تحقيق عملية التسجيل على أشرطة لم تكن متوافرة آنذاك, وهكذا نجد أن فكرة البث المباشر على الهواء, فكرة قديمة وليست من ابتداع هذه الأيام.

وبعد الاستقلال.. أي في عام 1947, ومع قرار افتتاح الإذاعة السورية الوطنية رسمياً طلب السيد شكري القوتلي, رئيس الجمهورية آنذاك, إلى السيد فخري البارودي, الإشراف على ترتيب دائرة الموسيقى في الإذاعة, فاختار للمهمة الموسيقي شفيق شبيب الذي كان يشغل آنذاك وظيفة رئيس ديوان في الدائرة العقارية, وأصبح الفنان شفيق شبيب أول رئيس لدائرة الموسيقى في الإذاعة السورية, كما تم اختياري ومعي السيد حمدي الزركلي, أحد مدرسي الموسيقى, للعمل في الدائرة, بالإضافة إلى مساهمتنا في العزف والتلحين.

نقلة جديدة

ورأى السيد فخري البارودي أن الإذاعة الجديدة بحاجة إلى كوادر موسيقى أكاديمية, فعمد إلى افتتاح معهد, أطلق عليه اسم (مدرسة) تابعة للإذاعة, في شارع العابد بدمشق لتعليم أصول الموسيقى والغناء للموهوبين من الشباب ليكونوا في المستقبل موسيقيين ومطربين بعد دراسة هذه الفنون بأصولها العلمية.

وكنت أطمع دائماً إلى المساهمة في إحياء وتطوير الموسيقى الشرقية وإحياء التخت الشرقي, فعمدت في عام 1966 إلى تأسيس فرقة موسيقية باسم (الفرقة الشعبية) التي أثبتت وجودها, وبخاصة في الحفلات حيث عملنا على تقديم الألحان التراثية والفولكلورية.

أحب أن أستدرك هنا, للمرة الثانية وأنا أستعيد ذكرياتي من الذهن أن الأستاذ فخري البارودي كان قد اختارني لتولي إدارة المدرسة الموسيقية التي افتتحها في شارع العابد, وكان معي من الأساتذة أسماء لامعة منهم: إبراهيم النصر, وعمر البطش, وشوقي بك زوربا, وسعيد فرحات, ومجدي العقيلي, ومطيع الكيلاني, وعزيز غنام, وفوزي القلطقجي.

ولعل الذين تابعوا تاريخ الموسيقى والغناء في سوريا, يعرفون أن هؤلاء من أعلام الموسيقى العربية في سوريا, وقد خلفوا لنا تراثاً موسيقياً غنياً, إن في التأليف أو التلحين, أو في كتابة البحوث والدراسات الموسيقية.

أما عدد تلاميذ تلك المدرسة فكانوا قرابة الخمسين تتراوح أعمارهم بين العاشرة والخامسة عشرة, وهم من أصحاب المواهب الواعدة والأصوات الجميلة, وقد تفوق بعضهم في هذا المجال وكان في مقدمتهم مطربنا الكبير, اليوم, صباح فخري.

ومن هؤلاء أيضاً برز: أديب طويلة, وفخري الغزي, وعدنان منيني, وزهير منيني, وبهجت الأستاذ, وعمر العقّاد.

وأُلحقت المدرسة بعد ذلك بوزارة المعارف, وأصبحت (معهداً) وتوسع التدريس فيه, واستقدم له أساتذة من الخارج, من تركيا وألمانيا, ودول أخرى, للتدريس فيه, وعلى الرغم من أنني كنت مديراً للمدرسة الموسيقية الإذاعية, فإنني حاولت أن أزيد علمي الموسيقي من بعض أساتذته فأخذت الكثير مثلاً عن الموسيقي الكبير الأستاذ سعيد فرحات. أخذت عنه أصول الغناء العربي والنغمات, وخاصية التواشيح وغناء الموال.

وأذكر الموسيقي الكبير الأستاذ فؤاد محفوظ الذي كنت أتردد عليه قبل أن أنتسب إلى نادي الموسيقى أو الإذاعة وأزداد منه تعلماً للعزف الصحيح على العود, ومعرفة النغمات الشرقية. كما أخذت الكثير من العلاّمة الموسيقي عمر البطش, وكان من أشهر أساتذة الموشح السوري, وكان يذهب إليه كثيرون حيث يقيم في مدينة حلب ليتعلموا منه وهو الذي قال عنه محمد عبدالوهاب (ده الأستاذ الكبير), كما أذكر الموسيقي الراحل عزيز غنام الذي أخذت عنه الكثير من أصول الموسيقى الشرقية وكنت مأخوذاً ببراعته في العزف.

وقد كللت مسيرتي العملية في الإذاعة عام 1967 عندما تم اختياري لرئاسة دائرة الموسيقى في إذاعة دمشق حتى عام 1975 حيث أحلت إلى التقاعد.

وعلى الرغم من إحالتي للتقاعد, فقد بقيت حريصاً على تقديم برنامجي الإذاعي الذي قدمته سنين طويلة باسم (من تسجيلاتنا القديمة) حيث كنت أختار لكل حلقة منه مجموعة من تسجيلاتنا القديمة, أذكر بها جيل الشباب من المستمعين, وكان الإقبال على الاستماع إلى هذا البرنامج كبيراً, وتشهد على ذلك الرسائل العديدة التي كان البرنامج يتلقاها من سوريا ومن بقية أقطار الوطن العربي.

الهودج... والزين

في الخمسينيات انطلق من إذاعة دمشق صوت قوي لمطربة شابة اسمها جميلة نصور, أطلق عليها الملحن والمطرب الفنان رفيق شكري اسم كروان.

انطلق صوت كروان بأغنيتين هما:

- زين يابا زين

- شدّولي الهودج

كانت سوريا كلها ترقص على ألحان هاتين الأغنيتين عندما تذيعهما المذيعة الشهيرة عبلة الخوري, رحمها الله, في برنامج (ما يطلبه المستمعون).

وفي يوم فاجأني أحد الجيران في الحي بقوله: أنت تعمل في الإذاعة.. هلا سألت لي عن اسم الملحن الذي وضع لحني هاتين الأغنيتين اللتين تغنيهما كروان من إذاعة دمشق?

فوجئت بسؤال الجار, وأسقط في يدي, إذ لم أرغب في أن أخبره أنني ملحن الأغنيتين, فوعدته بأنني سأسأل في الإذاعة عن اسم الملحن وأوافيه به, ومرّت أيام جاءني بعدها معتذراً: أرجو أن تعذرني يا جار, فقد علمت أنك ملحن الأغنيتين, وأنا أهنئك من كل قلبي.

وإلى جانب كروان لحنت لأكثر مطربي عقدي الخمسينيات والستينيات أمثال المطربة الكبيرة السيدة نورهان, والمطربين ياسين محمود, ومعن دندشي وغيرهم, كما قمت بكتابة وتلحين الأغاني الضاحكة للفنان الكبير فهد كعيكاتي (أبي فهمي) والفنان أنور البابا (أم كامل), ولحنت لفنان الشعب رفيق سبيعي (أبي صياح) وخاصة الأغنية الشهيرة (زينوا المرجة).. ووجهت اهتماماً خاصاً إلى موضوع إحياء التراث الغنائي الشعبي ونشره,كما قدمت برنامج (حكواتي الفن) مع الفنان رفيق سبيعي.

وتعاملت مع عدد كبير من الشعراء, وخاصة شعراء الأغنية ومنهم أشهر ثلاثة في تاريخ تأليف الشعرالغنائي السوري, وأقصد رفعت العاقل, وعمر الحلبي, وحكمت محسن, بالإضافة إلى المونولوجست الشهير سلامة الاغواني.

وفي لقاءاتي مع إخواني وزملائي الفنانين كنت أحذرهم دائماً من التقليد, فالتقليد في الفن, إن كان في الغناء أو التمثيل, ظاهرة ضعف, وقد يكون التقليد نوعاً من التسلية, أما الفن الحقيقي فهو, في جميع أنواعه, فن الإبداع الأصيل.

بين الماضي والحاضر

شاء الله العلي القدير أن أعيش إلى هذه السن, فأشهد جملة من التحولات في المجتمع وفي الخيال, لم يكن بعضها ليخطر على البال, وخاصة ما يفاجئنا في عالم التقنيات الحديثة, وثورة الاتصالات التي تتجلى على الفضائيات, بالإضافة إلى أمثلة كثيرة يضيق بها المجال.

واليوم, وأنا أقف على قمة أحاسيسي المترعة, وقد جاوزت التسعين, ولزمت سريري بسبب الشيخوخة والمرض, أحاول أن أستطلع, من مكاني هذا ما حدث من تطورات في عالم الموسيقى والغناء والفن ليس بعين الناقد الأكاديمي المتفحص, بل بعين الفنان الذي يحاول أن يستمع ويتذوق ويستوعب.

أجل.. علي أن أستوعب مثلاً مقدرة (الأورغ) الذي يؤدي وحده جميع النغمات, وبأصوات مختلف الآلات, فقد قال لي أحد الموسيقيين وهو يسمعني على شريط آلة تسجيل أغنية المطربة السيدة وردة (بتونس بيك): هل لك أن تقدر لي عدد عازفي الفرقة التي شاركت السيدة وردة في تسجيل هذه الأغنية?

وقبل أن أجيب, رد أحد الجلوس الذي كان يشاركنا السهرة: أنا سأجيب عن الأستاذ عدنان.. فعدد العازفين المشاركين في تسجيل هذه الأغنية لا يقل عن العشرين, ولكن الصديق أصرّ على أن يقف على جوابي, فطلبت إليه أن يعيد الأغنية على آلة التسجيل.. ففعل, وفوجئ بأنني أجبته بأن تسجيل الأغنية تم بمشاركة عازف واحد هو عازف الإيقاع.. أما بقية الألحان المعزوفة والتي رافقت صوت المطربة فكانت آلة الأورغ وحدها.

لا أدعي التفرد والعبقرية في هذا الجواب, فقد عرفته بحكم الممارسة والتعامل الطويل مع الموسيقى, ومع الآلات الموسيقية قديمها وحديثها. وكانت هناك دائماً حوارات تدور بيني وبين الزملاء, وخاصة بعد اختراع الأورغ ودخوله على عدد من فرق التخت الشرقي حول موضوع التخوف من أن تقضي هذه الآلات الإلكترونية المتطورة على وجود الإنسان العازف في الفرقة لتستعيض عنه بالآلة التي يمكن أن يسجل عليها أكثر من إيقاع لأكثر من آلة بحيث تعزف مثلاً العود والكمان والناي وغيرها في آن واحد.

لست متشائماً في هذا المجال, فمهما تطورت الآلة, فإنها لا تستطيع أن تقضي على الإنسان المبدع ولا أن تحل محله إلا في حالات محدودة. فهي لن تستطيع أن تقدم سيمفونية مثلا, ولا تستطيع أن تقدم الليونة والرخامة التي نشعر بها من خلال ألحان العزف الحي.. فاللمسات التي يشعرنا بها عازف العود وتتغلغل من آذاننا إلى بقية خلايا جسدنا, لا يستطيع أن يقدمها لنا التسجيل الآلي للعود والذي نشعر كأنه عزف على آلة يابسة, فالإصبع تحن على الوتر, والوتر يتجاوب مع هذا الحنان الحي, على عكس الآلة.

وأذكر بالمناسبة أن ظهور الكمبيوتر والفضائيات وبرامج الإنترنت كان ينذر باختفاء الكتاب والمجلة والجريدة وغير ذلك من وسائط القراءة المباشرة, ثم تبين أن ذلك لم يحدث إلا بنسبة قليلة بدليل صدور هذا الكم الهائل, كل يوم, وليس كل شهر, من الكتب والمجلات والصحف بأعداد متزايدة.

وأذكر بالمناسبة أن إحدى الصحفيات, زارت أديباً كبيراً في منزله لتجري معه حواراً, فرأته جالساً إلى طاولة خشبية متواضعة يكتب بالقلم, فسألته مستغربة: ألا تزال يا أستاذ تكتب بالقلم... أليس من الأفضل أن تؤلف وأنت تضرب على أصابع الآلة الكاتبة أو الكمبيوتر?

فأجاب: في الكتابة بالقلم على الورق متعة لا يحققها لي الكمبيوتر, ولا تحققها لي الآلة الكاتبة, وهي متعة صرير القلم على الورق وهو يحكه كأنه يريد أن يحرثه ليرمي في خطوطه بذور الإبداع.

شبابية... أو غير !

لا أدري كم هي المرات التي سألنا فيها بعض الشبان والشابات وقد طلعوا حديثاً على عالم الصحافة:

- ما رأيك بالأغنية التي نعرفها اليوم باسم الأغنية الشبابية?

هذا السؤال طرح قبلي على أعداد كبيرة من المطربين والمطربات, ابتداءً من المطربة الناشئة (بنت اليوم), ووصولاً إلى مطربنا الكبير صباح فخري. وكانت أكثر الأجوبة تختصر في كلمات قليلة: ليست هناك أغنية شبابية وأغنية غيرشبابية.. هناك أغنية جيدة وأغنية فاشلة.

وقد يتورط أحد الفنانين في الجواب فيقول: إن الأغنية الشبابية هي أغنية الإيقاع.. وحتى يستعرض ثقافته الموسيقية يتبع جوابه بجملة: (ذات الرتم السريع).. ناسياً أن (الرتم) هي الكلمة الأجنبية لكلمة (إيقاع).

والواقع أن الإيقاع موجود, أو يجب أن يكون كذلك, في أي أغنية, إن كان بطيئاً أو سريعاً.. وليس بالضرورة أن تكون الأغنية ذات الإيقاع البطيء تطريبية أصيلة, والأغنية ذات الإيقاع السريع شبابية أو مهجّنة.

لقد تداخلت عوامل وعناصر كثيرة في واقع الأغنية في السنوات الأخيرة, وخاصة بعد أن خلقت الفضائيات, وقبلها برامج التلفزيون العادية مشهدية بصرية جديدة تستقطب اهتمام المشاهد والمتفرج, حتى في الأعمال الدرامية, وهذا ما نتج عنه ما يسمى أغاني الـ (فيديو كليب) بحيث تراجع الاهتمام بالكلام واللحن لحساب الأداء الحركي من المطرب أو المطربة, فطغت الصورة على المشهد وشغلت المتابعة بالإثارة المعروضة عن معاني الكلام ومستوى اللحن.

خلاصة التجربة

بعد هذا, ما الذي بقي لدى (ابن التسعين) ليقول?

يسألونني دائما ما نصيحتك للجيل الجديد من الفنانين? هل هناك أزمة في الأغنية العربية, وهل هي أزمة نص أم أزمة لحن, أم أزمة أصوات جديدة?!

ويقفز البعض بالأسئلة إلى حياتي الخاصة,وإلى طلب رأي محدد بالمطرب الفلاني, أو بمطربة معروفة, وتتشعب الأسئلة لتصل أحياناً إلى علاقة العولمة بالأغنية العربية. ولست - بحمد الله - عاجزاً عن الإجابة حول هذه الأسئلة جميعها, ولكني بطبعي لا أحب (التنظير) ولا الإدلاء بالنصائح للمبتدئين, إن كانت النصيحة بجمل, أو بالمجان, فالجيل الجديد لا يحب الاستماع إلى آراء ونصائح الشيوخ أمثالي, لأنه يعتبرهم (بضاعة بائتة) تجاوزها الزمن بل يعتبرهم خارج إطار الزمن الحديث.

أما عن الأزمات, فالعالم في أزمة, بل أزمات, منذ بدء الخليقة... وإلا فماذا نسمي واقع الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة وهو يتعرض للذبح اليومي منذ أكثر من نصف قرن من الزمن?!

قال المخرج المصري الكبير صلاح أبوسيف رحمه الله: منذ أن عملت في السينما والصحافة تسألني: هل تعاني السينما المصرية أزمة?

وأنا أذكر أن هذا السؤال طرح عليّ منذ ثلاثين عاماً ولا يزال هناك من يطرحه حتى اليوم.

أما الأسئلة عن الحياة الخاصة للفنان, فهذه مجرد إثارة للتسويق, وإذا كان الفنان شخصية اعتبارية بشكل أو بآخر, فأنا أرى أن اهتمام الصحافة والإعلام بعطائه وإبداعه أكثرأهمية من الاهتمام بحياته الخاصة.

بقيت العولمة... سأعترف لكم, بأنني في عزلتي هذه المفروضة علي بسبب المرض قرأت عشرات المقالات عن العولمة, وأرجو أن تصدقوني بأنني لم أستطع أن أكون فكرة واضحة ومحددة عنها, لا حاضراً ولا مستقبلاً.. أما عن علاقتها بالأغنية العربية, فأنا أحيلكم إلى مصنفات الندوة التي أقيمت منذ مدة بدمشق, مرافقة لمهرجان الأغنية العربية الذي نظمه اتحاد إذاعات الدول العربية, حيث كان محور الندوة حول العولمة والأغنية العربية, ففي تلك المصنفات قد يكون الخبر اليقين, وليس لدى إنسان مريض تجاوز التسعين

 

عدنان قريش







 





عدنان قريش في الوسط مع السيدة ام لثوم في دمشق





نموذج الفونو غراف القديم





عدنان قريش مع صباح فخري





رفيق سبيعي (أبوصياح)