عندما تباع الأمومة

عندما تباع الأمومة

مع تطور تقنيات الإخصاب لعلاج العقم بوسائل لم يألفها البشر عبر تاريخ تكوينهم الطبيعي الممتد, نشأت معضلات أخلاقية وروحية ونفسية لم تتوقف عند حدود الغرب الذي ابتدع هذه التقنيات, بل امتدت إلينا كذلك.

كان ميلاد طفلة المعمل (لويز براون) في عام 1978, حدثا تاريخيا ارتجت لسمعه الأوساط الطبية والعلمية, ووقع من سكان المعمورة موقع المعجزة التي يصعب على العقل تصديقها - على الأقل للوهلة الأولى. فقد كانت (لويز براون) أول مخلوق بشري يولد من بويضة مخصبة في المعمل, فيما لم يسبق له نظير في حياة الإنسان على هذا الكوكب!

وكان ابتكار طريقة الإخصاب في المعمل يهدف إلى حل مشكلة العقم عند النساء. ولكن الابتكار الطبي الفذّ تحول في غضون سنوات قلائل إلى كابوس أخلاقي واجتماعي وقانوني! وبات علاج العقم قضية ساخنة في أوربا الغربية والولايات المتحدة, ينغمس فيها رجال السياسة والدين, ويحمل وزرها الأطباء, ويعيى بحلها رجال القانون.

أطفال المعمل

العقم (أي العجز عن الإنجاب) مشكلة قديمة, قِدَم البشرية وقدم الحياة على الأرض. وأغلب ما يكون العقم عند النساء, حين يعجز مبيض الأنثى عن إنتاج (بويضة) (Ovum) كل شهر, أو حين تكون القناة الموصلة بين المبيض والرحم مسدودة, فلا تجد البويضة طريقها إلى الرحم, وبالتالي يستحيل إخصاب البويضة بماء الزوج.

ومن بين المحاولات العديدة لعلاج العقم, برزت طريقة واحدة باعتبارها (فتحا تاريخيا) لعلاج العقم. ومبتكر هذه الطريقة هو طبيب أمراض النساء والتوليد (باتريك ستيبتو), الذي عاونه في ابتكاره باحث في فسيولوجيا الجهاز التناسلي اسمه (روبرت إدواردز). (كلاهما إنجليزي).

وتعتمد طريقة (ستيبتو - إدواردز), على استخراج البويضة لدى نضجها, من مبيض السيدة موضع العلاج. ويتم ذلك بجراحة بسيطة تحت التخدير الشامل, حيث يتم إدخال (منظار البطن) Laparoscope من فتحة صغيرة في جدار البطن, إلى التجويف الداخلي للبطن. ولأن هذه الآلة - كما يوضح اسمها - تعين على رؤية الأحشاء الداخلية, فيمكن عن طريقها رؤية الحويصلة الناضجة في المبيض, وهي تلك المحتوية على بويضة ناضجة. ويمكن تمييز الحويصلة الناضجة بسهولة - على الأقل للمتدرب على استخدام المنظار - لأن لونها يكون مائلا للزرقة (أي للون الأزرق) مما يجعلها متميزة بين أنسجة المبيض.

وتسحب البويضة الناضجة داخل محفظتها, بواسطة أنبوبة رفيعة تشبه إبرة المحقن. وفورا توضع في سائل مغذ, يماثل تركيبه الكيميائي سوائل المبيض الطبيعية, عند درجة حرارة مماثلة لدرجة حرارة الجسم الطبيعية (37ْم). وبينما تكون البويضة الناضجة في صحن صغير في المعمل يوفر المواصفات المذكورة, يجرى إخصابها بحيوان منوي من ماء الزوج.

وبعد أربع إلى ست ساعات من إخصاب البويضة في المعمل تبدأ في الانقسام إلى خليتين, ثم إلى أربع خلايا, وهذا, تماما, كما يحدث في حال إخصاب بويضة داخل جسم أنثى. وعندما تنقسم البويضة المخصبة إلى ثماني خلايا, تؤخذ من صحن المعمل, وتزرع في رحم السيدة صاحبة الشأن. فإذا قدر النجاح لهذه الخطوات كلها, تستمر النطفة في النمو في الرحم إلى مرحلة الجنين الكامل. وفي النهاية يولد طفل يطلق عليه (طفل المعمل).

هذه الطريقة في الإخصاب, والتي كانت تعرف في البداية باسم (طريقة ستيبتو - إدواردز), يطلق عليها اليوم (الإخصاب في المعمل) (In- Vitro Fertilisation). وتعرف اختصارا في الإنجليزية بالحروف (IVF).

تطور طرق الإخصاب

بعد نجاح د. ستيبتو في تنفيذ طريقته بالإخصاب في المعمل, افتتح لنفسه عيادة خاصة لعلاج العقم, في ناحية (كامبريدج) (في بريطانيا). وكانت هذه العيادة نواة لعدد من العيادات الخاصة التي افتتحت في نواح متعددة من بريطانيا. ثم انتشرت طريقة الإخصاب في المعمل انتشار النار في الهشيم, فافتتحت عيادات مماثلة في فرنسا وألمانيا الغربية وأستراليا وكندا والولايات المتحدة.

وسرعان ما اتضح لتلك العيادات المتكاثرة, أن طريقة الطبيب البريطاني في الإخصاب عقيمة! إذ تعتمد على الظروف الطبيعية لنضج بويضة الأنثى. وهذا يعني انتظار شهر كامل (هي فترة الدورة الشهرية عند الأنثى) للحصول على بويضة واحدة. فإذا فشل إخصاب تلك البويضة فيتعين الانتظار لشهر جديد, وهكذا. لذلك, أخذت عيادات علاج العقم في ابتكار وسائل لحث مبيض الأنثى على إنتاج عدد أكبر من البويضات. وبالعلاج بهرمونات معينة أمكن حث المبيض لإنتاج أعداد متزايدة من البويضات في شهر واحد. وأكبر عدد أمكن الوصول إليه إلى الآن هو إحدى عشرة بويضة من مبيض واحد, في شهر واحد!

وطبيعي أنه إذا استخلصت تلك البويضات الناضجة الكثيرة من المبيض, فلن يمكن إخصابها وزرعها في الرحم دفعة واحدة. ومعنى ذلك أنه لا بد من الاحتفاظ بتلك البويضات في المعمل, وإجراء المحاولات عليها واحدة إثر أخرى, إلى أن يتحقق النجاح المطلوب فتحمل الأنثى صاحبة الشأن.

كيف يمكن الاحتفاظ بالبويضات في المعمل?! بالتبريد! بتجميد البويضات وتخزينها في ثلاجات. ولا بأس بهذا الحل, إذ يعفي السيدة موضع العلاج من الخضوع مرة كل شهر لجراحة تحت تخدير كامل, ويرحمها من المضاعفات المحتملة لجراحات متكررة لاستخراج البيض من المبيض.

إلا أن طريقة التخزين بالتبريد فتحت باباً جديداً: هذه المرة لتخزين الحيوانات المنوية في ماء الزوج. ما هو الدافع?! توفير المشقة على الزوج بإعطاء عينة من مائه بين الحـــين والآخــــر. كما أن تــــوافر الحيوانات المنوية في المعمل يسهل على العاملين محاولات إخصاب البويضات, إلى أن يتحقق النجاح المنشود.

على أي حال, فإن تخزين الحيوانات المنوية زاد من احتمالات نجاح الإخصاب في المعمل. ففي الظروف الطبيعية, يلزم أن يتوافر شرطان في ماء الزوج لكي يمكن أن يخصب بويضة أنثاه. الأول أن يكون عدد الحيوانات المنوية في ماء الزوج ثلاثين مليونا! أما الشرط الثاني, فهو أن تكون الحيوانات المنوية سليمة وكاملة, بمعنى أن يكون رأس الحيوان المنوي متصلا بجسمه, والجسم متصلا بالذيل. وفي المعمل, أمكن الاستغناء عن الشرط الأول إلى حد كبير, إذ يمكن إخصاب البويضة ولو انخفض عدد الحيوانات المنوية في ماء الزوج إلى نصف مليون فحسب!

أم للإيجار!

كثير من الناس لا يرى غضاضة في استخدام طريقة الإخصاب في المعمل لعلاج العقم. فالبويضة من الزوجة, والحيوان المنوي من الزوج. وكل ما يجري ليس إلا محاولة للتغلب على عائق طبيعي, هو انسداد قنوات الزوجة.

وعند هذا الحد, كان الإخصاب في المعمل وسيلة طبية مقبولة لعلاج العقم. والأطفال المولودون نتيجة ذلك, أطفال شرعيون في ظل القوانين الوضعية للبلدان التي تتبنى علاج العقم من ذلك الطريق.

على أن المحاولات الكثيرة للإخصاب, والتي قامت بها عيادات العلاج المتعددة, كشفت في السنوات الأخيرة عن سبب جديد للعقم, لا يمُتّ لانسداد القنوات عند الأنثى بصلة. وذلك السبب هو عجز بعض النسوة عن الحمل أصلا.

والحل?! الحل عجيب بحق: أمّ للإيجار! كيف ذلك?! بالاتفاق مع الزوجين صاحبي الشأن, تعلن العيادة التي تباشر العلاج الحاجة إلى أنثى بالغة, لتحمل في أحشائها بويضة مخصبة لامرأة أخرى, لقاء مبلغ باهظ من المال!

على أن الأمر قد يمضي خطوة أخرى مع الأم المستأجرة. فأحيانا لا تكون الزوجة عاجزة عن الحمل فحسب, بل قد يكون مبيضها عاجزا عن إنتاج بويضة.

وفي هذه الحال يطلب من الأم المستأجرة أن تتطوع ببويضة من عندها, يتم إخصابها في المعمل بحيوان منوي من ماء زوج المرأة الأولى! ثم تحمل المرأة المستأجرة البويضة التي أخصبها رجل غير زوجها, لتلد في النهاية طفلا تدفعه إلى المرأة صاحبة الإعلان!

هل هناك أعجب من ذلك?! نعم. فكما تُستأجر أم للحمل, فيمكن استئجار رجل للإخصاب! كيف ذلك?! قد يكون سبب عجز زوجين عن الإنجاب أن حيوانات الزوج المنوية غير سليمة. وفي هذه الحال يطلب من رجل - أي رجل - أن يتطوع بعيّنة من مائه! وفي العيادة التي تباشر العلاج, يتم إخصاب بويضة من الزوجة بماء الرجل المتطوع! ثم تحمل هذه الزوجة تلك البويضة التي أخصبت بماء عابر سبيل, لتلد لبعلها طفلا, يفترض أنه أبوه!

إلى هنا, لم تعد الأمور مثيرة للعجب, بل أصبحت مثيرة للاشمئزاز. وانتشرت رائحة (الاتفاقيات العفنة) التي تبرمها عيادات علاج العقم مع متطوعين للإخصاب ومتطوعات للحمل لقاء مبالغ باهظة من المال. وشاعت الرائحة العفنة في أوساط المجتمعات الغربية, لا سيما الولايات المتحدة, فضجّ بها الساسة والأطباء ورجال الدين ورجال القانون.

الكابوس!

يوجد اليوم من عيادات علاج العقم بالإخصاب في المعمل عدد كبير. وتنتشر تلك العيادات بوجه خاص في بريطانيا وفرنسا وألمانيا الغربية وكندا وأستراليا والولايات المتحدة. كما توجد عيادات مماثلة في باقي بلدان الغرب الصناعي.

وعلى الرغم من انقضاء سنوات على افتتاح تلك العيادات, إلا أن الصفة اللاحقة لها غير محددة إلى اليوم! هل هذه العيادات مؤسسات طبية علاجية, أم هي مراكز للأبحاث? أم أنها شركات استثمارية?! الحكومات في البلدان المعنية لا تعالج المصابين بالعقم في تلك المؤسسات, وترفض دفع النفقة لمن تسوقه قدماه إليها! وشركات التأمين ترفض تغطية التكاليف الباهظة, بحجة أن هذا النوع من العلاج يعتبر تجريبيا. وللعلم, فإن تكاليف محاولة الإخصاب الواحدة في بريطانيا تصل إلى ألفين وخمسمائة جنيه استرليني (2500 جنيه) أو ما يزيد على ثلاثة آلاف وخمسمائة دولار (3500 دولار أمريكي).

وفي الولايات المتحدة تتراوح التكاليف ما بين ثلاثة آلاف وخمسة آلاف دولار!

كذلك ترفض الحكومات المعنية تمويل تلك العيادات من منطلق الزعم بأنها مراكز للأبحاث! وعلى ذلك, فإن هوية تلك العيادات تبقى غير معروفة على وجه اليقين.

وإذا وصلت الأمور إلى طرق العلاج المتبعة في تلك العيادات, فإن أكثر من علامة استفهام كبيرة تطل برأسها في حيرة. أبسط هذه الأسئلة: من هي الأم: مَنْ تحمل الجنين أم التي تقدم البويضة?! ومن هو الأب: الزوج أم الحيوان المنوي?! إلى من يُنْسب الطفل المولود: إلى المرأة التي أعطته خلية الحياة أم إلى المرأة التي حملته في أحشائها?! إلى الرجل الذي أعطى خلية الحياة أم إلى الرجل الذي دفع النفقات?!

إنها أسئلة بالغة التعقيد. ذلك أن أي إجابة عليها تعني ضمنيا قلب المعايير الأخلاقية والاجتماعية التي درج عليها الناس! بل أكثر من ذلك, فإن اللغة لا تسعف لوضع مسميات للعلاقات الناجمة عن مثل ذلك التوالد! من تكون عمة الوليد وخالته, ومن يكون عمه وخاله, ومن يكون شقيقه ومن تكون شقيقته?!

خذ مثلا هذه الحالة: زوجان عاجزان عن الإنجاب, تمكنا عن طريق إحدى العيادات من الحصول على بويضة من امرأة متطوعة. وفي المعمل أخصبت البويضة بحيوان منوي من الزوج. ثم حملت البويضة المخصبة امرأة أخرى نظير مبلغ من المال. وبعد ميلاد الطفل أعطي للزوجين صاحبي الشأن! من هي الأم الحقيقية للطفل في هذه الحالة?! وهل يجوز أن يكون للطفل الواحد ثلاث أمهات?!

ولا تتوقف أبعاد الكابوس عند هذا الحد. فقد عجز أساطين القانون في الولايات المتحدة عن وضع حل لمشاكل الميراث التي يمكن أن تترتب على التوالد الصناعي. وفي المثال سالف الذكر, هل يرث الوليد الأم التي أعطته خلية الحياة, أم الأم التي حملته, أم الأم التي قامت على تربيته?! والسؤال نفسه يمكن إثارته بطريقة معكوسة, بمعنى أن الوليد إذا كبر وجنى ثروة في حياته, ثم قضى نحبه قبل أيّ من النسوة, فكيف يكون توزيع الأنصبة?! ويثور السؤال ذاته عند وفاة الزوج - الذي هو الأب في المثال المذكور. هل توزع تركته على الوليد والنسوة الثلاث?! أم كيف يمكن تقسيم تركة الزوج?!

على أن أبشع جوانب الإخصاب الصناعي بالطرق التي تتبناها عيادات علاج العقم, أن تقادم الزمن على ذلك العبث يمكن أن يؤدي يوما برجل إلى الزواج من ابنته, وبفتاة إلى الزواج من أخيها, وبصبي إلى الزواج من أمه! وهذه الاحتمالات واردة بقوة, خصوصا أن الطرق المتبعة في التوالد الصناعي ينشأ عنها خلط مروع في الأنساب. ومع وجود ما يسمى (بنوك الحيوانات المنوية) اليوم, حيث تختزن عينات السائل المنوي مشابهة لتلك المستعملة في بنوك الدم, بمعنى التأكد من سلامة العينة المتطوع بها وإغفال اسم صاحبها, فالمؤكد أن خلط الأنساب يقع لا محالة! (عند نقل دم إلى مريض من متطوع, لا يقال للمريض هذا الدم حصلنا عليه من فلان بن فلان. وتنحصر مسئولية جهة العلاج في التأكد من سلامة الدم المنقول إلى المريض. والشيء نفسه ينطبق على عينات السائل المنوي التي يتطوع بها أصحابها لإخصاب بويضات في المعمل!).

رجال الكنيسة في الغرب المسيحي عارضوا, ومازالوا يعارضون, الإخصاب في المعمل, منذ ميلاده. ولكن (المجتمعات المتقدمة) تحررت إلى درجة خطيرة من سلطان الدين. لذلك, تكاد صيحات رجال الكنيسة تذهب أدراج الرياح! ومازال رجال الدين يخوضون حربا ضارية مع مجتمعات متحللة, دفاعا عن قيم الدين وذودا عن معايير الأخلاق.

أجنّة التجارب

لم تكتمل فصول الكابوس الذي ولدته عيادات علاج العقم بالإخصاب في المعمل. وآخر الفصول - أو بالدقة أحدثها, فقد تلا فصولا أخرى - هو إنتاج أجنة بشرية لإجراء التجارب عليها!

هذا التفكير نابع من توافر عناصر الحياة لكثير من المعامل, حيث توجد بنوك الحيوانات المنوية, وبنوك البويضات. وهل أول الحياة إلا بويضة يخصبها حيوان منوي, فإذا توافرت البويضات والحيوانات المنوية, وتوافرت مع ذلك طرق الحضانة الصناعية, فلماذا لا تنتج المعامل أجنة بشرية?!

هكذا, بمنتهى البساطة, يتساءل بعض المشتغلين بالبحث العلمي في الغرب!

وحجتهم وراء ذلك التساؤل أن المعرفة المتاحة عن الإنسان لاتزال ناقصة في جوانب كثيرة. فمازال المعروف عن الوراثة قليلا, والمعروف عن حدوث التشوهات الخلقية عند الأجنة ضحلا, والمعروف عن تأثير الجينات المختلفة في حث نمو الخلايا وانقسامها نزرا يسيرا. ويمضي المطالبون بإنتاج أجنة بشرية للتجارب في سرد حججهم إلى مدى بعيد, فلا يدعون شيئا يجهله الإنسان عن خلق الإنسان, إلا وزعموا أن التجارب على الأجنة ستحل مغاليقه! بل أكثر من ذلك, زعموا أن التجريب على الجنين البشري سيحل حتى مغاليق الأمراض التي يبتلى بها بنو الإنسان!

إذا جرت الرياح بما ينادي به هؤلاء القوم, فلن يكون عجيبا أن نسمع عن افتتاح (مزرعة بشرية), و(معمل للتفريخ البشري)! ولن يكون غريبا أن نقرأ عن إعلانات بيع الأجنة البشرية! ومن يدري, ربما تكون هناك (تنزيلات) في الأسعار في بعض الأوقات والمواسم!!

وإن يكن عجيبا أن يطالب قوم بإنتاج أجنة بشرية لإجراء تجارب عليها, فأعجب من ذلك أن يطالب قوم آخرون بإنتاج سلالة بشرية ممتازة من أطفال المعمل! وأصحاب النداء الأخير هم المشتغلون بهندسة الجينات. وهم يرون في أطفال المعمل فرصة لاستعراض عضلاتهم في القدرة على انتخاب أفضل الصفات, وغرسها في جيل من أطفال المعمل يكون نواة لسلالة ممتازة! إلى هذا الحد هانت الحياة والأحياء?! إلى هذا الحد ماتت القيم وضاعت المعايير?! هل هذا هو التقدم الذي يتشدق به أهل الغرب ويتطاولون به على باقي سكان المعمورة?!

إن كان هذا هو التقدم, فإننا نحمد الله كثيرا على التخلف!

من الطبيعي أن المرء لا يملك إلا أن يتساءل: أين دور الحكومات في تلك المجتمعات?! ولماذا ترك الحبل على الغارب, فوصلت الأمور إلى ما وصلت إليه?! ويعود المرء يتساءل: هل يمكن أن تخضع قيم الدين ومعايير الأخلاق لأهواء الناس ونزواتهم?! هل يجوز بدعوى الديمقراطية وبدعوى احترام الحرية الفردية, أن يُطلق العنان لجماعة من السفهاء لهدم بنيان المجتمع والقواعد التي يقوم عليها?!

لاتزال القوانين التي سنتها الحكومات في البلدان التي ظهر فيها الكابوس, غيركافية لوقف النزيف الأخلاقي. ومازال العقلاء في تلك المجتمعات يطالبون حكوماتهم بوضع التشريعات والضمانات اللازمة لحماية المجتمع والأخلاق, قبل قوات الوقت. فهل ستلقى الصيحات العاقلة أذناً صاغية, أم ستذهب سُدى?!

مؤسف حقا أن يتحول انتصار علمي إلى مهزلة سافرة لاغتصاب القيم.

ومؤلم حقا أن تمتهن كرامة الإنسان - بدعوى التقدم العلمي - إلى هذا المدى البعيد. ومرة أخرى, إذا كان هذا هو التقدم, فالحمدلله كثيرا على ما نحن فيه من تخلف!

 

عبدالرحمن عبداللطيف النمر