أرقام

أرقام

الـــحـــرب ضـــد (2050)!

في ربيع عام (2002) نشبت الحرب الإسرائيلية - الفلسطينية الخامسة. قبلها كان الطرفان قد خاضا حروب: (48 و67 و73 و82), وقبلها كان العنف والعنف المضاد متصلا ومتصاعداً منذ دخول آرييل شارون إلى المسجد الأقصى ثم توليه الوزارة بعد ذلك.

وفي أكثر من تصريح صحفي وسياسي لرئيس الوزراء الإسرائيلي ردد الرجل كلمة: (لن أعود لحدود عام (67))... يقصد الحدود التي كانت قائمة يوم (4) يونيو من ذلك العام والتي تمثل - من وجهة نظره - خطراً يهدد إسرائيل.

وربما كان النظر إلى الخريطة ينفي هذه المقولة, فالمساحة التي تحتلها إسرائيل تبلغ أضعاف المساحة التي بقيت للضفة الغربية وغزة, وعدد السكان الإسرائيليين يتجاوز تقريباً ضعف عدد السكان الفلسطينيين في وقت نشوب الحرب الخامسة والقوة المسلحة التي تحمي الكيانين لا تقارن.

هذه هي النظرة الأولى للخريطة, لكن نظرة أبعد - ربما بعين إسرائيلية - تقول غير ذلك, فمرتفعات الجولان تتحكم - إن أردنا - في الشمال الشرقي الإسرائيلي... والضفة الغربية في بعض مواقعها (شمال تل أبيب) تقترب من البحر وتستطيع بصاروخ مـــداه عشــرون ميـلاً أن تــقطع شـــمال إســـرائــيل عن غربها, فما بالــنا إذا كانت هنـــاك قوات برية قادرة على قطع هذه المسافة وفصل الشمال عن الجنوب?

قضية الحدود خلفية أساسية للحرب الخامسة التي اجتاحت فيها إسرائيل أراضي السلطة الوطنية الفلسطينية, وجسّدت فيها رفضها لمبادرة القمة العربية بسلام مقابل الانسحاب والتطبيع.

لكن الأهم كانت قضية الأرقام والسكان.

... ثلاثة أخطار سكانية

عند قيام الدولة العبرية واغتصاب الأرض عالج الإسرائيليون قضية الأغلبية السكانية الفلسطينية بالإرهاب وطرد السكان وتهجيرهم, وكانت الصورة عند نشوب الحرب الخامسة: (2ر3) مليون فلسطيني بالداخل في الضفة وغزة و(1ر1) مليون في إسرائيل ونحو (5ر4) من الملايين في شتات الأرض, أي أن فلسطينيي الشتات هم الأكثر مقارنة بمن يقيمون في الضفة والقطاع.

على الجانب الآخر كان عدد سكان إسرائيل قد سجل تفوقاً كبيراً على عدد الفلسطينيين, فأصبح عام (2002) حوالي ستة ملايين.

وهكذا عالجت إسرائيل القضية السكانية التي تعتبرها حاكمة للصراع, فدون البشر لا يتكرس الموجود المادي للدولة, سواء كانت الدولة العبرية أو الدولة الفلسطينية.

حدث التفوّق السكاني العبري, لكنه كان مهدداً بثلاثة أخطار ربما رأت الإدارة الإسرائيلية عند نشوب الحرب الخامسة في ربيع (2002) أنها كافية لإشعال حرب واسعة, وربما - كما رأى بعض المعلقين الاستراتيجيين حينذاك - أنها كافية لنشوب حرب إقليمية تتخطى حدود فلسطين.

كان الخطر الأول هو أن التركيبة السكانية لم تعد - وفقاً للرؤية الإسرائيلية - قابلة للاستمرار, فقد ضم المجتمع الفلسطيني أقلية يهودية, وضم المجتمع الإسرائيلي أقلية فلسطينية, وظن البعض لفترة طويلة أن التعايش ممكن, فلما فجّر شارون عناقيد الغضب وأخرج أسوأ ما في الشخصية الإسرائيلية وهو رفض (الغير) وإذكاء (الكراهية) وإراقة الدماء دفاعاً عن الاغتصاب, عندما حدث ذلك بات واضحاً أن التعايش غير ممكن, ليس من وجهة نظر المتطرفين فقط, ولكن من وجهة نظر رأي عام إسرائيلي باتت شرائح واسعة منه مقتنعة بأنها (أرض واحدة لشعب واحد, فإما أن يكون إسرائيلياً أو فلسطينياً).

قبل المجزرة, كانت الأرقام التي أذاعتها سلطات الإحصاء في كل من فلسطين وإسرائيل والبنك الدولي تقول إن اليهود في الضفة الغربية يمثلون (17) بالمائة من السكان, وأن المسلمين والمسيحيين وأصحاب الديانات غير اليهودية يمثلون (20) بالمائة من سكان إسرائيل, أي أننا أمام تنوع سكاني يحتاج إلى صيغة للتعايش وقبول للآخر من جانب كل طرف, ولكن مع تنمية روح الكراهية والتوسع في إراقة الدماء بات التعايش صعب المنال, مما حدا شارون على طرح فكرة الجدار الذي يحمي إسرائيل, ولكن أي جدار والمستوطنات تبدو على الخريطة مثل بثور منتشرة على الوجه الفلسطيني, وهي بثور لا حل لها إلا الإزالة أو التعايش (وهو ما ينال من الحق الفلسطيني في الأرض).

والمستوطنات باتت من الكثافة بحيث أصبحت إزالتها أمراً صعباً بالنسبة لأي حكومة إسرائيلية.

لقد سمحت الحكومات المتعاقبة بالتوسع في بناء مستوطنات بالضفة والجولان والبعض منها في غزة.. وكان الهدف فرض الأمر الواقع وتمزيق الأرض الفلسطينية واختراقها بحيث تصعب عودتها. ولكن ومع الحلول السلمية والسياسية المطروحة كانت إزالة المستوطنات مطلبا أساسيا, خاصة أنها أصبحت هدفا عسكريا للمقاومة الفلسطينية.

أما الخطر الثاني فهو الفلسطينيون على بوابة إسرائيل, فبينما تخشى إسرائيل فسطينيي الداخل فإن الأرقام تعكس أن فلسطينيي دول الجوار يمثلون دعما بشريا وماديا للداخل عند اللزوم.

على بوابة إسرائيل الشرقية, يوجد (2.56) مليون فلسطيني في الأردن.. وعلى بوابتها الشمالية يوجد نصف مليون فلسطيني في لبنان وعدد يقرب من ذلك في سوريا. بينما يوجد في السعودية, وهي غير بعيدة (296) ألف فلسطيني.

الفلسطينيون إذن يحيطون بأرضهم, فإذا كان كل فلسطيني في الداخل بات قنبلة موقوتة ضد الاحتلال فإن فلسطينيي دول الجوار يدخلون المعادلة بالضرورة, كما أن أعدادهم الكبيرة تحول دون قبول الدول المضيفة للمزيد من أعمال التهجير والطرد.

يحدث عام (2050)

ويبقى الخطر الثالث, وربما يكون الأساس, فهو خطر المستقبل وطبقا لتوقعات المراكز الإحصائية والتي نشرتها (النيوزويك) في أبريل الماضي فإنه بحلول عام (2050) سوف يزيد عدد الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية عن عدد الإسرائيليين.

إنها عود على بدء, ورجوع للموقف الذي شهدته الساحة عام 1948 وعالجته إسرائيل بالحرب والإبادة والتهجير.

سوف يصبح الفلسطينيون أغلبية وبصرف النظر عن عودة اللاجئين, أي بالنمو الذاتي لسكان الضفة والقطاع والقدس الشرقية.

وفي التفاصيل يبدو متوسط العمر للفلسطيني مرتفعا (72 عاما) وتبدو خصوبة المرأة الفلسطينية عالية (6.1 طفل لكل امرأة), وذلك في مقابل معدل مرتفع أيضا لتوقعات الحياة عند المولد في إسرائيل (79 عاما في المتوسط) ومعدل منخفض للخصوبة (2.6 طفل لكل امرأة).

المرأة الفلسطينية إذن تحسم الموقف والخطر السكاني هو ما يخيف إسرائيل, ومن ثم كان الطفل الفلسطيني هدفا عسكريا لقوات إسرائيل, وكان اقتراح الزعيم الليبي معمر القذافي بإقامة دولة علمانية تضم الشعبين وتحمل اسم (إسراطين) اقتراحا غير واقعي لأنه عندما تكون الغلبة للفلسطينيين فقد زالت فكرة (أرض الميعاد) والاستقلال الذي تقول إسرائيل إنها قد حققته عام 1948.

القنبلة السكانية, والتي تمثل وعاء التجنيد العسكري ووعاء المقاومة وذراع القوة الاقتصادية والتكنولوجية. هذه القنبلة هدف رئيسي يفسر ما دار في الحرب الخامسة.

أي أن القضية حين رفضت الحكومة الإسرائيلية قبول الأمن مقابل الانسحاب, لم تكن أننا أمام شخصيات تعشق الدماء ويفتنها غرور القوة فقط, ولم تكن القضية أن هناك من يصدق أن هناك إرهابا فلسطينيا فالكل يعلم أنها مقاومة مشروعة سوف تتوقف حين يتم الجلاء ويعود الحق الفلسطيني. لكن القضية كانت استراتيجية ومتصلة بمستقبل الدولة العبرية.

حرب الحدود, وحرب السكان خاضهما شارون على طريقته الخاصة فشن حملته العسكرية على ثلاثة محاور:

الأول: إغلاق باب الأمل في عودة اللاجئين, ومن ثم حصر المشكلة في الكتلة السكانية الموجودة على الأرض.

الثاني: الدخول في حرب إبادة لكل ما هو ومن هو على الأرض الفلسطينية.. من بشر وزرع ونخيل وأشجار ومنازل ومرافق, وبالتالي لم تكن الحرب ضد ما يكسر روح المقاومة فقط وعن طريق تصفية الامكانات العسكرية أو شبه العسكرية الفلسطينية ولكنها ضد (الحياة) بكل أشكالها.. و.. على طريقة المباريات الرياضية اعتبر العدو الإسرائيلي أنه يكسب عن طريق النقاط فكلما سقط فلسطيني, أو أزيلت بنية أساسية كسبت إسرائيل نقطة ضد الخصم!

أما المحور الثالث فهو استخدام أقصى العنف عله يكون دافعا للفلسطينيين للهجرة. إنه النزوح المستهدف والذي تقاومه دول الجوار (مصر والأردن ولبنان), وهو نزوح يرى بعض الإسرائيليين أنه لن يتم بتشديد الضربات ضد الفلسطينيين, ولكنه يتم - بدرجة أكبر - من خلال حرب إقليمية تنتشر فيها الفوضى ويتم فيها النقل القسري للفلسطينيين إلى أراض مصرية وأردنية ولبنانية يتم غزوها لبعض الوقت.

إنها الجريمة كشفت عنها الحرب الخامسة فليس ما جرى مجرد رد على المطالبين بالتحرير, وليس ما جرى مجرد تحسين موقف تفاوضي يقبل فيه الفلسطينيون دولة مدجنة محاصرة منزوعة السلاح والإرادة.

الأرقام والخرائط كانت حاسمة, وكانت تقف في خط النار وراء كل دبابة ومدفع وطائرة. إنها الحرب ضد عام (2050) خاضها شارون عام (2002)

 

محمود المراغي