جمال العربية
جمال العربية
مـن شـعـر المقاومة الفلسطينية في صدارة المشهد الشعري الفلسطيني تتقدم قصائد محمود درويش وسميح القاسم. كل منهما يبدع بطريقته, ويضيف إلى الرصيد العربي من شعر المقاومة والنضال والصمود, والتشبث بالأرض والهوية, ويفتح نوافذ جديدة للشعراء الفلسطينيين والعرب من بعده. وظلت طاقة كل منهما الشعرية هادرة فائرة, لا تعرف الشحوب أو التكرار, كالبحر العميق الزاخر, يقذف دوما بلآلئه ولا ينضب. وبينما كانت الذاكرة تتسع لشعر محمود درويش وسميح القاسم, وتفسح لهما, كان شعر غيرهما من شعراء المقاومة - في داخل الأرض المحتلة - يبتعد ويتراجع. وفي المقدمة من هذا الشعر شعر توفيق زياد الذي ولد في مدينة الناصرة عام 1929 وامتدت حياته حتى عام 1994, بعد أن أنهى دراسته الثانوية في مدارس الناصرة, واختير رئيسا لبلديتها, ثم نائبا في الكنيست. وخلّف لنا شعره في ديوانه - ديوان توفيق زياد - الذي يضم مجموعتيه الشعريتين اللتين تنتميان إلى شعر الستـــينيات وهما: أشدّ على أياديكم (1966) وادفنوا أمواتكم وانهضوا (1969). في شعر توفيق زياد غنائية شجية, ووخز جارح, ويقين راسخ بحتمية الانتصار وتجاوز أجواء النكبة والنكسة وكل الانكسارات المتتابعة واحدا بعد الآخر. لغته الشعرية لا تعرف الإبهار أو التزويق, حادة مصوّبة إلى الهدف, تتدفق في عفوية - تكاد توحي بأنه ليس ثمة إحكام يؤازرها - لكن القراءة الفاحصة سرعان ماتكتشف بنية شعرية قوية, وتشكيلا شعريا يستتر خلف العفوية والتلقائية والانثيال. يقول توفيق زياد: أجيبيني. وتوفيق زياد هو صاحب هذه الكلمات المتوهجة بالتحدي والعزم والتصميم, معلنة عن موقف, ومؤكدة هويّة نضال, ومتشبثةً بأرض ووطن, يقول فيها: بأسناني لن نجد نشيدا يمكن أن يردده الفلسطيني المنتفض والمناضل والمضحّي بدمه والمستشهد في كل يوم كهذا النشيد الذي تشتعل كلماته وتنغرز فواصله - قاطعة كالنصل - في لحم الاحتلال الاستيطاني الصهيوني. لكن شعر توفيق زياد يفاجئنا بوجه آخر, آسر الرقة والحنوّ والشفافية, عميق الارتباط بمفردات الأرض الفلسطينية وصورها وظلالها, ولغتها الشعبية, وحسّها الفطري التلقائي - يفاجئنا بهذا الوجه في رسالة شعرية يُبدعها باسم كل فلسطيني إلى أمه - التي تعيش خلف الأسوار والحواجز وبوابة مندلبوم(1) - يسألها عن الحال, والخيمة السوداء, والأصحاب, ويبثها نجواه وأشواقه وأخباره, وحديثه عمن رحلوا وغابوا, وعن الباقين الصامدين كالفولاذ والصخر وفي دمهم أنفة النسر وكبرياؤه. وتمتلئ رسالته الشعرية بفيض أكبر من الرقة والعذوبة عندما ينقل إلى أمه أخبار زواجه من بنت الجار, فلم يعد وحيدا كما خلّفته أمه, هذه الزوجة التي يصفها بأنها (نعنعةُ البلدة), وهو يعتذر اعتذارا بريئا عن عدم التوجيه لأمه لحضور زفافه, فيقول - وكأنه يقدم سببا لا يستوقف أحداً بالدهشة أو التساؤل - فالدربُ منسدة! أليست هاتان الكلمتان البسيطتان: الدرب منسدة خلاصة الخلاصة لقضية وطنه وشعبه وأرضه وتاريخه وحاضره ومستقبله? ولقد مرّت السنوات, وأصبحت الأم جدّة, يزف إليها الخبر - عله يدخل على قلبها بصيصا من السعادة والفرح - وله الآن من لحمها بنيّة صغيرة سماها فهدة لكنها - ككل الأطفال الصغار الممتلئين والممتلئات بالحيوية - قردة, تسأل في كل صباح بلهجتها الفلسطينية أيْنها الجدة? وفي لغة شعرية شديدة البساطة والسهولة - لكنهما البساطة والسهولة الممتنعتان - يُنهي توفيق زياد رسالته إلى الأم بأن طفلته الصغيرة تحبّ فيروز, خصوصا: غِنْوة (العودة). ويالها من خاتمة تحدث رجفة واهتزازة عميقتين في الوجدان, وارتدادا - مفعما بالشجن والتوتر, مُبلّلا بندى الدموع - إلى مستهل الرسالة, نعيد قراءتها وتأملها من جديد, واستكناه أغوارها الإنسانية العميقة, في معنى الأمومة عندما تصبح صورة للوطن, ومعنى الوطن حين يتجسّد في التلّة والزيتونة والسدرة والوردة والفلّة, ونتأمل السطر النثري الذي وضعه الشاعر في مستهل قصيدته وكأنه مفتاح لعالم شعري يفضي بنا إلى كنز مكنونات الشاعر وذخائره النفيسة الباقية وهو يقول: (لعل أحد الذين ابتسمت لهم (بوابة الأحزان) هذا العام يحملها إلى أمه)! يقول توفيق زياد في قصيدته (رسالة عبر بوابة
مندلبوم): لك مني مئتا قبلة *** أمّاه... هذا الشاعر الفلسطيني المقاوم - الذي يُجسّد روح شعب لا ينهزم, وكبرياء أرض لا تهون, وهويّة مرسومة عبر الوجوه والحروف والكلمات والأشجار والألوان - هو هو فـــــي عـــــُرام ثورته وتمرّده وتحدّيه, وفي وداعته وإنسانيته وتبسّطه - الممزوجة بالمرارة والسخرية والوخز المستتر - يجمع بين اللهب والماء, بين العاصفة والنسيم, بين البحر الهائج والجدول الرقراق, مؤكدا أنه في الحاليْن باقٍ صامد كالجدار: كأننا عشرون مستحيل
|