المنطق المحال إذا ما استمرّت (ما بعد الصهيونية)

المنطق المحال إذا ما استمرّت (ما بعد الصهيونية)

إنه تيار فكري (جنيني) آخذ في النمو بين أوساط أكاديمية إسرائيلية ويهـــودية, البعـــض يعتــــبر أطروحاته فكـــــراً يتجـــاوز الفكــــر الصهيــــوني, فهــــل حقاً استــــطـاع هذا التــــيار أن يتجــاوز الصهـــــيونية, أم أنــــــــه مـــــازال يدور في الفلك نفسه?

كتب أحد الكتّاب الإسرائيليين (أفرام تاري) مقالة بعنوان (معنى إسرائيل) في ملف نشرته مجلة (الأزمنة الحديثة) الفرنسية التي كان يصدرها ويرأس تحريرها جان بول سارتر, غداة حرب الـ67, وكانت إسرائيل قد قطعت شوط عقدين في محاولة إثبات (جدارة) المشروع الصهيوني على بناء دولته, كتب قائلا: (غدت الصهيونية قوة سياسية منذ القرن التاسع عشر, ولم يكن في ذلك الوقت أي وجود لحركة وطنية عربية. لم يكن هناك سوى بعض المجموعات العربية المثقفة, التي كانت تقوم بنوع من النشاط المعادي للوصاية العثمانية, لكنها لم تكن ترتكز إلى أي قاعدة شعبية. أمّا بالنسبة لفلسطين نفسها, فإنّ مجموع السكان العرب الذين كانوا فيها عندما ابتدأ الاستعمار العمالي اليهودي, يمكن استيعابهم اليوم في زاوية من زوايا إسرائيل. وكان ثمة قوى اجتماعية متغايرة من إسلامية (شيعية وسنية) وشركسية ومارونية ويونانية وأرثوذكسية, تعيش جميعاً جنباً إلى جنب في الأرض المقدسة. وفي الواقع لم يكن هناك سوى بعض العائلات من الفلاحين اليهود الذين لم يغادروا بلدهم مطلقاً منذ تهدم الهيكل الثاني, والذين كانوا قد أنشأوا في الجليل قريتين تقليديتين. فالتوجّه الذي ابتدأه ببطء شعب دون أرض قوامه بنوع خاص جموع يهود أوربا الشرقية المحرومين من الميراث, حوالي نهاية القرن الماضي, إنما كان يتجه نحو أرض دون شعب).

واليوم وبعد مضي أكثر من عقود ثلاثة على هذا الكلام يقول يوسف غورني (رئيس معهد حاييم وايزمن لدراسة الصهيونية) في جامعة تل أبيب ما يلي: (حققت الصهيونية خلال المائة عام منذ تأسيسها معظم أهدافها. وربما تكون حققت أكثر مما أملت به. خمسة ملايين يهودي في إسرائيل, كان حلماً طوباوياً, والآن سيتحقق أيضاً سلام (مع الفلسطينيين العرب). لكن مع أن الصهيونية حققت أهدافها فعليها أن تستمر في عملها, لأن من يعتقد أنه يوجد شعب يهودي يعرف أن البقاء اليهودي في العالم مازال يمثل مشكلة, ولا أرى ما يمكن أن يحافظ على وحدة الشعب اليهودي في المنفى سوى الأيديولوجية الصهيونية).

مثل هذا الكلام الذي يحوز إجماع الصهيونيين, يساراً ويميناً, لايزال يبدو هو الخطاب الثابت الذي يعي أزمة إسرائيل اليوم في مشروع السلام وتداعياته واستتباعاته المتناقضة ومخاطره على منطلقات الصهيونية من جهة, وعلى بنية إسرائيل (كدولة يهودية) متجاذبة بين أطروحات الفكر العلماني والليبرالي الحديث من جهة ثانية, وأطروحات الفكر الأصولي الديني من جهة ثالثة, فيصر على استمرار أيديولوجية الصهيونية بثوابتها ليمنع تفجّر الأزمة المستجدة بالإقفال عليها عبر ثوابت الصهيونية كحركة استعمار استيطاني.

الجدد والخطيئة

غير أن اتجاهاً جنينياً فكرياً, بدأ ينمو في الأوساط الأكاديمية على قاعدة مناهج تاريخية, وعلوم إنسانية وتأثيرات ليبرالية أمريكية, وأخذ يبحث عن صيغ جديدة نقدية تطمح إلى أن تؤسس لمرحلة جديدة أطلق بعضهم عليها مرحلة ما بعد الصهيونية, أو ما بعد الأيديولوجيا. وهذا البعض هو ما يطلق عليه (الباحثون الجدد) وفيهم مؤرخون وعلماء اجتماع (جدد).

يقول أحد كتّاب هذا الاتجاه (اتجاه ما بعد الصهيونية), إيلان بابه, وهو أستاذ محاضر في العلوم السياسية في جامعة حيفا: (من وجهة نظر فلسطينية تمّت ولادة دولة إسرائيل بخطيئة, وفي رأيي, تمت الولادة في جوانب معينة منها بخطيئة, لكن كانت هناك مسارات أنتجت هذه الخطيئة).

ويوضح كاتب إسرائيلي آخر من الاتجاه نفسه معنى هذه (المسارات) أي (معنى الخطيئة) التي ارتُكِبت تجاه الفلسطينيين فيقول: (أعتقد أن الكارثة التي حلّت باليهود على يد النازية كانت خطيئة أكبر من الخطيئة التي اقتُرفت بحق الفلسطينيين, ويمكن القول إننا باستيطاننا هنا جنّبنا اليهود كوارث كبرى أخرى, من الممكن تبرير الظلم الذي ألحق بالعرب على هذا الأساس).

بين الخطاب الإسرائيلي الصهيوني (القديم أو الثابت) الذي كان يطمس كليا وجود مشكلة شعب آخر, ويرفض أن يعترف أن عنفا قد مورس على هذا الشعب, وإذا ما اعترف فهو عنف الدفاع الذاتي (دفاع الحمل) الذي يضطر أن يتحوّل (ذئباً), بين هذا الخطاب وخطاب (ما بعد الصهيونية) ثمة اعتراف أن (خطيئة) قد اقترفت. لكن هذه الخطيئة تقاس (بالكم) (خطيئة كبرى أو صغرى?) كما تقاس أيضا بمعيار اللاسامية الأوربية, وخاصة معيار النازية الألمانية, فلو أن (خطيئة) الصهاينة اقترفت تجاه الألمان الذين انضووا تحت لواء النازية وأيّدوها, لكان من المبرر الحديث عن (الخطيئة الكبرى) التي تبرّر (الخطيئة الصغرى), لكن ما علاقة عرب فلسطين بما حدث لليهود في أوربا? وهل يبرر الظلم الذي لحق بالعرب على يد اليهود بالظلم الذي لحق باليهود على يد النازيين? هذا المنطق الخُلف الذي تنحو نحوه بعض الكتابة الإسرائيلية الجديدة لتبرير سيكولوجية (الضحية - الجلاد) في الوعي اليهودي الجديد, وللتخفيف من آلام وأحزان الضحية العربية, لايزال يعبّر في حقيقة أمره - رغم الاعتراف بالذنب - عن منطق داخلي في المشروع الصهيوني لا يحيد عن ثوابت الصهيونية - العنصرية, ولا يخرج عن حيّز استثمار اللاسامية بأدواتها ومناهجها, وإن اعتُرف اليوم بتأثير الانتفاضة الفلسطينية في الداخل وتأثير ثورة الحجارة وأطفالها - بوجود شعب فلسطيني لم ينشأ عن (فراغ وطني وديمغرافي) وإنما كان له مساره هو في المأساة, وهو غير مسئول عن مسار مأساة اليهود في أوربا, فتبرير المأساة بربط (المسارات) منطق محال, ويضع شعار (ما بعد الصهيونية) وفقاَ لهذا المنطق في داخل الصهيونية نفسها.

إن مراجعة تاريخ تلك المسارات تتطلّب إدانة مسببي الظلم الذي لحق بالعرب على يد اليهود, كما تتطلّب إدانة مسببي الظلم الذي لحق باليهود على يد اللاساميين, والنازيين منهم بشكل خاص. وهذا منطق إذا ما سار وفقاً لمآله ومآل الإرادات العلمية والإنسانية الطيبة, أضحى يتطلّب من المؤرخين الإسرائيليين الجدد إدانة الصهيونية التي استثمرت الهولوكوست بمفعول (الأضحية - المحرقة) (الإلهية) وبأسلوب التواطؤ الضمني مع النازية, باعتبار هذه الأخيرة منفّذاً للإرادة الإلهية في الأيديولوجية الدينية للدولة اليهودية التي يكشفها ويفضحها بعمق وجرأة إسرائيل شاحاك, أو باعتبارها لدى (الصهيونيين العلمانيين) الحليف - الضمني المسكوت عنه في الاستراتيجية والتكتيك الصهيونيين.

اتجاهات مختلفة

إن تعبيراً عن (عقدة ذات) تجاه (مشكلة لاجئين) أو تجاه أطفال الحجارة - لدى مثقفين إسرائيليين نما حسُّهم الفردي والإنساني في إطار ثقافة حقوق الإنسان, والليبرالية, فأخذوا يبحثون عن (دولة مواطنين) تتجاوز امتياز المواطنية اليهودية وحصرية الأيديولوجية اليهودية للدولة - هو عمل ذو مؤشرات ودلالات قد تذهب باتجاهات مختلفة في مسارات الثقافة السياسية الإسرائيلية اليوم.

أحدهم يعبّر عن أحد هذه المسارات (بني موريس), صاحب كتاب (ولادة مشكلة لاجئين), وهو يكشف عن (وجه مخبوء مظلم للصهيونية), فيقول: (إنما هو يقوم بعمل صهيوني) أيضا ولمصلحة الصهيونية (مجلة الدراسات الفلسطينية) (شتاء 98).

غير أن آخرين, وهم يعيدون النظر في الصهيونية ومنطلقاتها, لا في بعض مظالمها, إنما يؤسسون لتاريخ جديد لا يمكن وصفه بـ(ما بعد الصهيونية). فالتأريخ الجديد إذا كان يبحث عن عدل, ويتحرّك بهمّ العدل وقلقه, كما فعلت بعض التواريخ الأوربية عندما أعادت النظر بلاساميتها, فإنه لا يمكن أن يقوم إلا على رفض الصهيونية ومعاداتها وباعتبارها أيضاً الوجه الآخر للاسامية.

ولعلّ هذا ما يذهب إليه مؤرخ إسرائيلي آخر (موشيه زيمرمان) عندما يشبّه ممارسات المتطوّع الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين بممارسات النازي تجاه اليهودي, أو عندما يرى أولاد المستوطنين يُربون كما ربيت الشبيبة الهتلرية, أو عندما يندّد باستخدام إسرائيل للمحرقة, أو عندما يشبّه الرأي العام الألماني الذي صـــوّت لهـــتلر بالرأي العــــام الإسرائيلي الذي لا يحتج على أخلاقيات الاحتلال وممارساته.

مثل هذا التوجه النقدي قد يكون البديل لصيغة (ما بعد الصهيونية), فهذه الصيغة الأخيرة التي قد تزيّن لبعض المثقفين في العالم أنها تجاوز للصهيونية, هي في حقيقة أمرها تعبير عن المأزق الذي آلت إليه الصهيونية بعد أن بنت كل ما بنته في إسرائيل من مشاكل جديدة خلال نصف قرن, إنها محاولة حلّ لمأزق الصهيونية وتجديد أسلوبها - في إطار السلم الدولي - لبناء دولة إسرائيل على قاعدة قومية إقليمية (Territorial) وشرق أوسطية, لا على قاعدة (قومية يهودية) دينية, فالليبرالية الفردية المحركة لبعض قطاعات محدودة في المجتمع الإسرائيلي, ومناهج التجديد في التاريخ والعلوم الاجتماعية والسياسية التي تتبناها أوساط أكاديمية قليلة - أيضا - في الجامعات الإسرائيلية, مداخل جيّدة للمراجعة والنقد, ولكنها محكومة بثقل التراث الصهيوني المؤسّس والمهيمن, من جهة, ومحكومة أيضاً بعقدة حل الإشكال الديمقراطي وإشكال المواطنية في ظل البحث المحال (هوية لدولة إسرائيلية تكون لجميع مواطنيها), إلا إذا تخلّت هذه الدولة وذاك المجتمع السياسي عن صهيونيتهما المؤسسة, وهذا ما لا يجرؤ ولا يرغب في طرحه من يُطلق على نفسه (ما بعد صهيوني).

بل إن محاولة بعض المؤرخين الإسرائيليين الجدد إخراج مجازر إسرائيل في العام 1948 إلى حيز البحث التاريخي وبالتالي وعي التاريخ بما هو (خطايا) مضت, يعود شارون اليوم ليجدّدها بشكل أعنف وأكثر وحشية وإيذاءً للضمير الإنساني, إنها دراما العنف والإرهاب التي لا خروج منها إلا بالخروج من الصهيونية وإدانتها ومحاكمة رموزها السابقين والحاليين كمجرمي حرب ضد الإنسانية.

 

وجيه كوثراني