العولمة ذلك المفهوم المراوغ

العولمة ذلك المفهوم المراوغ

انشغل العالم أجمع خلال العقد الأخير من القرن العشرين حتى يومنا هذا بقضايا العولمة ومفاهيمها وآثارها المستقبلية, واختلف الفقهاء والمؤرخون والكتاب بين موافق ومعارض حول انعكاسات العولمة على الدول النامية ومنها العالم العربي والإسلامي. ولكن وقبل الخوض في هذه الظاهرة العالمية, فإنه لا بد من الحديث بتعمق أكثر عن هذا المفهوم الجديد, والذي أخذ يغزو عالم اليوم بقوة وبسرعة لا تكاد تلاحقها العقول أو ترصدها التحليلات.

كثيرة هي تلك المفاهيم والمصطلحات, وكذلك المقولات الجديدة التي وفدت إلى المعجم المعاصر للعلوم الاجتماعية والإنسانية إثر تفكك منظومة المعسكر الاشتراكي في أوربا الشرقية وانتهاء الحرب الباردة أواخر عقد الثمانينيات, وغدت قوتا يوميا يلوكه الباحثون والدارسون وذوو الاهتمام بقضايا الاجتماع الإنساني والمجتمع العالمي من مختصين وغير مختصين على حد سواء.

ومن بين فيض تلك المستجدات تبرز مقولة (نهاية التاريخ) The End Of History التي طرحها (فوكوياما), و(صدام الحضارات) The Clash Of Civilizations لتشغل موقعا محوريا في محيط اهتمام المحافل العالمية الأكاديمية, ومراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية, فضلا عن دوائر صناعة السياسة واتخاذ القرار على اتساع العالم وشتى الاتجاهات.

ومرجع ذلك - بوجه عام -أن العولمة Globalization مفهوم خلافي مراوغ, يحمل كثيرا من التوجهات والمفارقات التي يتعين الانتباه إليها وإدراك ما تتضمنه أو ترمي إليه من أهداف بعيدة المدى, قد تخفى دلالاتها على كثير من المتحمسين أو الدعاة المناصرين لهذا التطور التاريخي المعاصر. فمفهوم العولمة - من الوجهة النظرية البحت - قد يعني: جعل الشيء على مستوى عالمي, أي نقله من حيز (المحدود) إلى آفاق العالم بأسره. ومن هنا يصبح إطار الحركة والتعامل والتفاعل والتبادل على اختلاف صوره وأبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية والتقنية, وغيرها متجاوزا الحدود الجغرافية المعروفة للدول.

ليس مفهوما نظريا

لكن مفهوم (العولمة Globalization) لا يقتصر على هذا المعنى وحده, بل ينصرف كما يقول الباحث السيد الزيات في مقالة منشورة له في مجلة (تحديات ثقافية), وكذلك حسب ما تشير الأدبيات الأمريكية - إلى ما يعني: تعميم الشيء وتوسيع دائرته, أو بعبارة أكثر دقة وتحديدا: تعميم نمط من الأنماط الفكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية تختص به جماعة ما أو مجتمع معين أو أمة بذاتها على الجميع, أي العالم برمته.

ولأن دعوة العولمة - وفق التصور الأخير - قد صدرت أساسا من الولايات المتحدة الأمريكية فقد بات متفقا عليه أنها تعني: الدعوة إلى تبني النموذج الأمريكي في الاقتصاد والسياسة والثقافة وطريقة الحياة بوجه عام, أو ما يحلو لبعض الباحثين وصفه بـ (الأمركة) حينا و(الكنتكة أو المكدنة) أحيانا!!

ومن هنا لا يكون غريبا ان أحد الباحثين ينتهي إلى أن مؤدى هذا ودلالته الأساسية أن العولمة ليست مفهوما نظريا مجردا أو تصورا ذهنيا مفارقا للواقع العالمي العياني المعيش, وإنما هي مفهوم نظري يمتلك آليات تجسيده عمليا في آن واحد.

فالعولمة - فيما نرى وتؤكده الشواهد العملية - مفهوم نظري يعبر عن توجه أيديولوجي, يعكس إرادة مركزية للاستقطاب والهيمنة على العالم من خلال الدعوة إلى تبني نموذج حضاري محدد, وإرساء دعامات هذا النموذج وتكريسه باستخدام آليات السياسة والاقتصاد والثقافة والاتصال. ومن ثم كان مفهوم العولمة تجريدا نظريا يشير إلى عملية تغيير دراماتيكي كبرى, تحفر مجراها في مسار التاريخ الإنساني الراهن, وتؤثر بعمق بالغ في كل المجتمعات المعاصرة, المتقدمة والنامية سواء بسواء.

أدوات جديدة

والذي ساعد على اكتمال هذا المفهوم للعولمة أنها أولا تنبثق وفي كنفها أدوات لم تعرفها البشرية سابقا, تنبثق في ظل ثورة الاتصال والمعلومات: ظهرت القنوات الفضائية وشبكات الإنترنت وأجهزة الهاتف النقال في أعقاب أجهزة الفاكس والتلفزيون, وقبله الترانزستور, والتي صارت تصل إلى أعداد متزايدة من البشر في مختلف أرجاء المعمورة لتربط عوالمهم بعضها ببعض مباشرة. لقد فتحت ثورة الاتصالات الحالية, ومهما كانت قوة الوسائل الرقابية والحظرية الرسمية, عصرا جديدا من التطور الثقافي للبشرية, جعلت من الممكن لكل الشعوب, مهما كانت درجة نموها الاقتصادي والاجتماعي أن تتعرف على بعضها, وبشكل خاص على نمط الحضارة الراهن, كما تعيشه المجتمعات الصناعية.

إن قيام موجة العولمة - على ما يذهب إليه أحد الباحثين - المعاصرة مرتبط, إلى حد بعيد, بتشابك وتنامي وتسارع انتشار هجرات بشرية متعددة الاتجاهات والمضامين, من الجنوب إلى الشمال, ومن الشرق إلى الغرب وبالعكس, وهو ما يوسع جدا من شبكة التفاعلات الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية بين البشر, ويعمق مداركهم العامة ويطلق مخيلاتهم إلى أبعد الحدود بأشكال ووتائر لم يعهدها البشر سابقا.

وبفضل هذه الأدوات هائلة التأثير, فإن التعدد والامتداد المكاني لإحداثيات العمليات الاجتماعية, وتزايد نشوء وعي الناس بها تنزع إلى خلق مسرح أو مجال أو وسط إنساني جديد يتقاطع مع, يتداخل, يدور حول أو داخل تلك المجالات الاجتماعية التي ظلت تغلف تقليديا, أشكال التنظيم الاجتماعي البشرية, مثل العشيرة والقبيلة والمحلة وسواها.

أوجه إيجابية للعولمة

وعلى خشبة المسرح العالمي الجديد يمكن أن تتواجد, تتوحد, تتنافس, تتصارع, أو تتداخل حيوات اجتماعية متعددة ومتباينة لتصب في قناة بشرية متعددة المشارب والألوان والنوازع والاتجاهات. وبفضل هذا المجال الجديد الذي يخلق إمكان التعرّف على العالم عن قرب والاتصال بثقافات جديدة متنوعة ينضاف بُعد آخر للوعي الاجتماعي غاية في الأهمية. فمن جهة تفرض العولمة على البنية المعرفية للإنسان المفكر اعتبار النسبية, نسبية الفكر والقالب الثقافي والايديولوجيا والتنظيم الاجتماعي, لتضحى فيه الأفكار المطلقة, والتصورات الجامدة, عرضة باستمرار, للعبة التساؤل ومحاولات الإثبات والتشكيك المضاد, ومن جهة أخرى, تكسو العولمة الوعي الاجتماعي قدرة وذكاء أكبر مما سبق لمحاججة بنى سلطوية جاثمة تاريخيا ومساءلة أطر مرجعية قائمة, وفي هذا الجانب يمكننا أن نتبين بعض أوجه العولمة الإيجابية.

فالعولمة ظاهرة قادمة من الغرب من مجتمعات متقدمة حضارية إلى مجتمعات نامية ومتخلفة, والتعامل معها بنجاح يتطلب بناء الذات, والارتقاء بها في المجالات المختلفة حتى يكون التعامل مع تلك الظاهرة إيجابيا. ومن هنا فولادة مجال جيوثقافي جديد, ومن ورائه نظام عالمي للثقافة والتبادل الثقافي, بما يتيحه من قدرة على النفاذ إلى القيم والمبادئ والعلوم والمعارف الجديدة, تخلق فرصا متعددة أمام الثقافات التي تطمح إلى الرفع من كفاءتها والدخول في المنافسة الإبداعية العالمية. وبمواكبة هذه التحولات الثقافية والجيوثقافية الكبرى, سوف تتبدل معطيات التنظيم الاجتماعية ويختلف نوع الطلب على الثقافة ومنتجاتها. وتتمثل العولمة - في نظر بعض باحثيها - في مجموعة التوجهات ذات البعد المستقبلي, وتدور حول قضايا مثل الديمقراطية والليبرالية الغربية واقتصاد السوق الحر... إلخ, ويرى بعض منظريها ومؤيديها أنها تجربة إيجابية في العموم, بيد أن آخرين يرون فيها مخاطر أساسية عدة حيث تثير المسألة عددا من الأسئلة الصعبة التي تنتظر الإجابة مثل: هل ستؤدي العولمة إلى تحطيم الحدود بين الأقطار وإذابة الهوية القومية? وهل سيسود الغرب المتقدم الاقتصاد والوضع السياسي في العالم لحسابه, لعدم قدرة الدول النامية على مواكبة تطور العالم الأول, والتعامل معه نديا على كل المستويات? وهل في إمكان العرب والمسلمين - كجزء من العالم النامي - تطوير أوضاعهم في المستقبل المنظور للتعايش السلمي والإيجابي مع ظاهرة العولمة? هل العولمة جرعة من المصطلحات والمفاهيم التي تظهر في قاموس السياسة والاقتصاد والثقافة بين الحين والآخر, أم هي واقع حتمي معيش وقادم? ومن هنا لا يكون غريبا أن نجد بعض الباحثين يذكر أن كلمة العولمة كظاهرة ونظرية ومفهوم هي الأكثر تداولا واستخداما حتى بين غير المتخصصين في قضايا الفكر والثقافة, وقد شغلت العولمة الناس كثيرا في الفترة الأخيرة, وغدت بمنزلة موجة فكرية أو خدمة إعلامية, وفي كل الأحوال, فقد فرضت نفسها على أجندة الفكر والواقع العربيين, وأنها ستظل كذلك فترة طويلة قادمة.

ولا نعدم أن نجد بعض العلماء المنصفين الذين يحاولون رؤية العولمة بكل جوانبها, ويدعون إلى رؤية موضوعية وحقيقية لهذا الأمر, مثل ما تقوله المفكرة (جانيت أبو لغد): (نحن بحاجة واضحة إلى كثير من التفهم, وعلينا أن نتحلى بمزيد من التسامح تجاه رؤى الآخرين للعالم مهما كانت منفرة في نظرنا, فقد نسفت الاتصالات بلا عودة الطابع المنغلق للحدود الثقافية, ولم يعد هناك مكان للاختباء. ويدرك (والرشتين) في بصيرة راديكالية البدائل الكريهة بين عالمية تقوم على الخوف من الأجنبي وعولمة تقوم على نسبية ثقافية تؤدي إلى الشلل, إلا أنني أتبين إمكان طريق ثالث ولو بشكل رومانسي وهو الإدراك المتبادل والحساسية المتبادلة ومحاولة فهم وتقدير, وليس تقبل عقائد وأفعال الآخرين في مفهومهم هم وليس وفق مفاهيمنا نحن. ولا يتحتم أن يؤدي ذلك إلى نسبية ثقافية باهتة, كما لا يتحتم أن يعني ضياع القيم, في إمكان المرء أن يؤمن وأن يفضل شيئا على شيء وأن ينضم أو يفارق, ولكن عليه أن يتعلم أن يسلم للآخر باكتماله في سياقه الخاص, فما دمنا لا نستطيع العودة إلى الجهل فعلينا أن نتحرك قدما نحو الفهم).

 

بركات محمد مراد