لم يُخْطئْ جنونُكَ أيها الجميل

لم يُخْطئْ جنونُكَ أيها الجميل

ها أنتَ تنهضُ من ظلامِ دمائكَ السوداءِ
أبيضَ عالياً كالبدر مكتملاً ومشتملاً على أسماءِ
مَنْ غَسَلوا عذابَكَ أو غَسَلْتَ عذابهم بالماءِ
أو برصاصةٍ خرساءَ لم تصطَدْ بها طيراً ولكنْ
أجملَ الغزلانِ, رأسَكَ في دوائرِهِ النبيلةِ
حينما صوّبْتَ لم تخطئْ ولم يخطئْ جنونُك يا جميلُ
ويا مُشَعَّثُ يا جميلُ غَلَبْتَ مَن عاشوا بموتِكَ
شاهقاً كالنسرِ حين يدقُّ في صخرِ الجبال ضلوعه
ليعيش منتشراً على الأَكماتِ في لبنـانَ منتشياً
بريشِ جناحه المنشور في الظلمات كُلُّ قلامَةٍ
نجمٌ وكُلُّ دمٍ تَفَجّرَ من منابع هذه الأرضِ القديمةِ
في مهاوي لحمِكَ الريّانِ أرْغُنَةٌ أتسمعُ ما يردّدهُ
الرعاةُ على الفلاةِ من الغناءِ فيطربوا وَلَعاً? ويُفتَحُ
في انسداد الريح صوتٌ صارخٌ كالريحِ ها إنّي أتيتُ
من الغياب لكي أهزّ حضوركم وأصبّ في الكأسِ
القديمةِ ما تجمَّعَ من مدامعكم هي الأمطارُ تهطلُ
من سماء قروحكم على شَفَتي فيشربها فمي الظمآنُ لا غفرانَ.
لستُ أكثرَ من جريحِ صدودكم وجريح جرحي لا مفرَّ
من الرصاصةِ في مدى عُنُقي ألا انبثقي إذنْ يا كبرياءَ أبي
وَجَدّي في الجرود وكبريائي فالمدى ذئبٌ وأيُّ مخالب الذئبِ
الطويلةِ في الشوارعِ سوف أقطعُها? ولي مأوايَ أمْ لسوايَ?
للوحشِ الذي يهوي كعاصفةٍ ويزحفُ كالجرادِ على البلادِ أم الصغارِ?
أنا معلّقةُ النهار على ظلامٍ دامسٍ كالنفس في ظلماتها في الليلِ
ألمعُ مثل برقٍ ثم أقطعُ ما تقادَمَ من وريدي إنني مَلِكٌ
ولي فَلَكٌ على الأزمانِ يا أزمانُ يا أزمانُ هل هرموا? وهل
صَدئ الملوكُ على الصكوكِ وهل تباعَدَ سرُّهُمْ كدبيب آثار النمالِ على
المدى? وأنا وَهُمْ وحملتُهُمْ نقشاً على جسدي فَعَطّلَهُ
الغبارُ ومعصماً لم يعصموهُ فصار كالأغلالِ لستُ فتى على الأطلالِ
يبكي أو ينوحُ بعبرةِ الخنساءِ أو قيس العليل مكوّماً كالظلّ
عند جدار ليلى وتبول فوق عيونِهِ الآرام والأغنام أو أنّي
كدرويشٍ يدور على الديار ولا ديار فيكتفي بالقول إني عاشقٌ
والأرض عشقي وهي أبعد من نشيدي لستُ أحمدُ أو محمّد أو كيوحنّا
ورأسي في الإناءِ, أنا انحنائي كي أضمّك يا سماءُ ويا... قليلاً ما
تجود عليَّ أقدار السماء بمثل ما جادَتْ عليَّ من الحبور وَلي الثريّا
وهي أصعبُ من منازلها ومن أسمائها وجميع مَن ماتوا لكي يصلوا وما
وَصَلوا وإنْ سألوا: وماذا السرُّ? كدتُ أجيبهم لكنني آثرتُ
أن أدَعَ الكلام لسحرِ صمتي حين أعشقُ لا أقولُ, وحين أومئ لا أجيبُ
وحين أمشي لا أغيب, وكيفََ لي يا أيُّها الجَبَلُ الذي اشتَعَلَتْ بِهِ
أحشاؤهُ أن أستجيبَ لغير موتي فيكَ, إني عاشق الجبل المطهّمِ
كالحصان وعاشق امرأةٍ على جبل هناكَ تنامُ مثل الثلج في حَرَمون
أصعد ما صعدت, فإن وصلتُ فذاكَ أني لم أصِلْ إلاّ إلى وَجَعي
وأحبُّ أن أبكي ولي وَلَعي بأنْ - حينَ احتدامِ الرعد في كانون والبرق
المدوّي في السماءِ, وبعلبك وبعض صيدا والجنوب - بأنْ أغنّي
للجرود وللّتي يمشي على آثار خطوتها دمُ العاصي, وتنسحب الخمائلُ من
تنقّلها على البستانِ (كلْدستانُ سعدي) بعضُ لفتتها وللخيّام في
شرع الصبابة خمرتان وإنّ لي وحدي ثلاثاً لي بريقُ عيونها (كأساً)
ولي إشراقُها (شمسا) ولي ما ليسَ يُروى من بهاء الروح في هذي
القبابِ العامليّة إنّ لي حَجَلي على جبلي, ولي نهرانِ من لبنٍ ومن
عسلِ, ولي أيضاً شرودي في مسالكها البعيدة واشتهائي أن أضيع
ولا أُرى إلاّ غريباً في اشتهائي, وأنا الإمام وكلّ من عشقوا ورائي
وأنا قتيلُ محاجر الغزلان أرحل في الزمان وقلبهم مازال يخفق في ردائي

 

محمد علي شمس الدين