الفرحة المنقوصة واسـتقـبال ديوان (أقول لكم)

الفرحة المنقوصة واسـتقـبال ديوان (أقول لكم)

لم يستقبل ديوان (أقول لكم) بالحفاوة نفسها التي استقبل بها ديوان (الناس في بلادي), وبدا واضحا أن الديوان الثاني ديوان إشكالي حتى في دائرة المتحمسين لصلاح عبدالصبور وشعره. وقد اتضح ذلك في موقف لويس عوض الذي كتب مقالة دالة بعنوان (الطريق المسدود) في جريدة (الجمهورية) (الجمعة 30/6/1961), وكانت بداية المقالة إعلانا عن فرحة منقوصة بعد قراءة الديوان, فقد توقع لويس عوض - فيما يقوله - أن يجد في الديوان ما يرد به من الحجج الدامغة على شتى الفرق التي تجمعت لمحاربة الشعر الجديد. وأن يجد ما يطمئنه على أن الشاعر نما وتطور وسار إلى نضج شامل بعد كل ما قدّم من بواكير ناضجة, ففي هذا النضج أو التطور أو النمو ما يعد تزكية للشاعر وللحركة الشعرية التي ينتسب إليها, ومن ثم إثبات أن القوالب الجديدة والبلاغة الجديدة والمضمون الجديد أشياء يمكن أن تنمو وتتطور وتسير إلى نضج, ولكن توقع الناقد أحبط, ولم يجد في الديوان كثيرا دامغا, يرد به على ما ساور نفسه من شكوك كثيرة منذ أعوام قليلة, أي (منذ أن عاثت مدرسة الأدب الهادف في أدبنا الجديد, تسخّره لشعار الكفاح ولكفاح الشعارات).

وأولى علامات الإحباط التي يراها لويس عوض هي أن الشاعر لم يتطور كثيرا عمّا كان عليه منذ ديوانه الأول, ومظهر ذلك أنه لايزال ينظم في الشكل الجديد مشاعر يمكن التعبير عنها بالشكل العمودي القديم, كما حدث في قصيدة (الشيء الحزين) التي أحسّ لويس عوض أمامها أنه قبالة نفس شاعرة تنسج الشعر كما ينسج العنكبوت نسيجه, ولكنك لا تجد شيئا معينا يبرر خروج الشاعر على عمود الشعر, فما في القصيدة شيء لا يمكن التعبير عنه برباعيات الرجز مثلا أو خماسياته.

ولكن لويس عوض لا يمضي مع هذا المنظور إلى النهاية, إذ سرعان ما يستدرك على نفسه, مؤكداَ أن الطريق ليس مسدودا أمام الشعر الجديد لحسن الحظ, والدليل على ذلك قصيدة (الظل والصليب) الموجودة في الديوان, فهي (خير ما في ديوان صلاح عبدالصبور, وهي من أجمل شعره قاطبة, بل هي من أجود ما قرأت من الشعر في لغات عدة).

وهي دليل ناصع على أن طريق الشعر الجديد طريق غير مسدود, طريق يفضي إلى آفاق طليعية لا تحد بحدود, حيث الوحي الجديد يلزم بالنغم الجديد, وحيث النغم والوحي يمكن أن يرتفعا إلى أعمال فنية يصعب ارتقاؤها بحبيس العروض. ولا يعيب قصيدة (الظل والصليب) - فيما يرى لويس عوض - أن فكرتها الأساسية مقتبسة من قصيدة للشاعر الفرنسي المشهور أراجون, وهي من أعظم ما نظم هذا الشاعر العظيم, ومن أجمل ما يبلغ به الشعر أعمق العمق وأسمى السمو حتى وهو يفيض بالكآبة والمرارة. وجوهرها أن الإنسان يحمل صليبه في داخله, وأن صليب الإنسان هو الحب, فالوجود كله مصلوب بقانون أزلي هو قانون الحب. حتى في لحظات السعادة العليا حين يفتح الإنسان ذراعيه ليعانق الحبيب نرى ظله مرتسما على الجدار وراءه كأنه الصليب.

زمان السأم

وقد أخذ صلاح عبدالصبور هذه الفكرة ثم بنى عليها من عنده شيئا. فهو يقول:

هذا زمان السأم
نفخ الأراجيل سأم
لا عمق للألم
لأنه كالزيت فوق صفحة السأم
لا طعم للندم
لأنهم لا يحملون الوزر إلا لحظة.
ويهبط السأم
لغسلهم من رأسهم إلى القدم

وهنا نحس بأننا نواجه صلاح عبدالصبور في قمة فنه, حيث علمنا أن يمزج بالمكر الشديد الوحي بالصناعة. والطبيعة بالفن, والتلقائية بالعقل.

فمراد الشاعر أن يقول اننا نفعل ما نفعله بدافع السأم والرغبة في قطع السأم بالعمل المثير أكثر منه بدافع الشوق إليه, والفكرة كلها طبعا ليست جديدة, فهي فكرة الأغنية الوجودية المشهورة التي تغنيها مغنية الوجوديين المشهورة جولييت جريكو, واسم الأغنية: (أنا أمقت يوم الأحد). وهي تمقت يوم الأحد لأنه يوم السأم الأبدي الذي يتجلى في كل لحظة من لحظاته, فالناس حين يخرجون للنزهة إنما يفعلون ذلك من باب السأم, فمن ذهب منهم إلى الكنيسة ذهب إليها من باب السأم أيضا, وهكذا إلى بقية الأغنية, وبعد هذه المقدمة عن السأم, يتقدم صلاح عبدالصبور إلى موضوعه في وثوق واطمئنان:

أنا رجعت من بحار الفكر دون فكر
قابلني الفكر, ولكن رجعت دون فكر
أنا رجعت من بحار الموت دون موت
حين أتاني الموت لم يجد لدي ما يميته, وعدت دون موت
أنا الذي أحيا بلا آماد
أنا الذي أحيا بلا أمجاد
أنا الذي أحيا بلا ظل, بلا صليب
الظل لص يسرق السعادة
ومَن يعش بظله يمشي إلى الصليب في نهاية الطريق

بهذه القصيدة وحدها يبرر صلاح عبدالصبور ضرورة الشعر الجديد لأنها من الحياة الجديدة, ويستوي لدى لويس عوض في هذه القصيدة أن يلزم الشاعر القافية أو ينساها, ويستوي لديه فيها أن يلزم الشاعر التفاعيل المنتظمة أو لا يلزمها, لأن الناقد لا يبحث فيها عن قواف أو عن تفاعيل, لأن فيها ذخرا من الموسيقى الباطنية التي تغني عن كل جرس وإيقاع رتيب, فهذا الشاعر الذي يمشي بلا ظل, يحيا أيضا بلا صليب, وهو فقد ظله وضاع منه صليبه لأنه يعيش بلا حب, ويحيا بلا وثاق يربطه بالبشر, كأنه النبي الكفيف تيرسياس في روايات اليونان, هذا الشاعر الذي (انفصل) عن معشر المصلوبين بالحب كما يسمينا, وضع يده على سر قوة الإنسان الجديد, تلك القوة التي جعلته سيد الحياة, ألا وهي قوة السأم, فبالسأم يملك الإنسان شخصه ولا يضيع بالحب, ويقول لويس عوض إن الشاعر يقترب من الهدف في الحركة الثانية من القصيدة:

قلتم لي
لا تدسس أنفك فيما يعني جارك
لكني أسألكم أن تعطوني أنفي
وجهي في مرآتي مجدوع الأنف

وفي هذه الفقرة القصيرة يفشي صلاح سرا خطيرا من أسرار الشاعر, ألا وهو الالتزام. وهنا تأخذنا الحيرة, لأن الشاعر رغم ادّعائه بأنه غير مرتبط بأنه فقد ظله أو صليبه نجده في باطن الأمر مرتبطا كأقوى ما يكون الارتباط, وهو رغم ادعائه بأنه فقد ظله وتخفف من صليبه نجده فقد أكثر من ظله وصليبه, فقد أنفه, عقابا له على أنه دس أنفه في شئون الناس, أي عقابا له على الالتزام.

بين الحكمة والتفلسف

ويكتب فؤاد دوارة في صفحة الأدب في مجلة (الإذاعة) (12/8/1961) عن (أقول لكم وخطر مدرسة إليوت على الشعر الجديد). يقول إن محاولة الديوان لا غبار عليها. وهي ليست كبيرة كالشعر أو الفن أو الحياة فحسب, وإنما تجاوزت بطموحها كل ذلك إلى الحكمة. والتفلسف, وإزجاء النصح للأجيال, ومن هنا بدت الهوّة عميقة بين كبر المحاولة وطموحها وبين إمكانات الشاعر المحدودة بحكم السن والخبرة والعمل في الصحافة, فجاء التعبر نثريا في أجزاء غير قليلة, لا تربطه بالشعر إلا أوهى الأسباب, كمثل هذه الأبيات من قصيدة (موت فلاح):

والصخرة السمراء ظلت بين منكبيه ثابتة
كانت له عمامة عريضة تعلوه
وقامة مديدة كأنها وثن
ولحية الملح والفلفل لوناها
ووجهه مثل أديم الأرض محدور...
والفأس والدرة في جانبه تكوما
وجاء أهله وأسبلوا جفونه
وكفنوا جثمانه وقبلوا جبينه

وارتفع صوت الشاعر في أبيات أخرى تنشر الحكمة ذات اليمين والشمال في نغمة لم تخل من الخطابية التي طالما عابها النقاد على شعرنا القديم, وفي أجزاء ثالثة انبهمت الصور والرموز عند الشاعر بحيث يصعب فهمها حينا, ويصعب الربط بينها داخل الجو الذهني للقصيدة حينا آخر.

ويسترسل فؤاد دوارة في ذكر ما يراه بمنزلة سرقات صلاح عبدالصبور من إليوت ليصل إلى نتيجة مؤداها أنه لم يعد لديه شك في شدة تأثر صلاح عبدالصبور بالشاعر الإنجليزي الكبير. وهو تأثر يمثل خطرا واضحا عليه وعلى حركة الشعر الجديد كلها باعتباره واحدا من أهم أعمدتها. ولا ينبعث هذا الخطر من مجرد التأثر والاقتباس, ولا من انفصال تجربتنا ومشاعرنا وتراثنا عن التجربة والمشاعر والتراث التي صدر عنها إليوت. ولكن يضاف إلى ذلك اعتبار آخر مهم. وهو أن إليوت يمثل مدرسة منهارة في الفكر الأوربي الحديث في رأي فؤاد دوارة الذي كان لايزال معتزا باقترابه من الواقعية الاشتراكية. ولذلك يقول إن ديوان صلاح عبدالصبور الجديد إذا كان قد تميز على ديوانه الأول بعمق الفكرة ولوعة التعبير, فعنده أن (الناس في بلادي) يتميز بحرارة التجربة الذاتية واتساع مداها إلى خارج الذات في نطاق إنساني رحب نكاد نفتقده تماما في الديوان الجديد رغم ما فيه من حكم مبثوثة, ومواعظ تملأ الكثير من قصائده.

الشاعر والقضايا الخالدة

وقد جاء الرفض الأقوى في وضوحه من أحمد عباس صالح في المقالة التي نشرها بجريدة الجمهورية (في 17/7/1961). وهو يبدأ بتأكيد أن أخطر شيء على الكاتب الفنان أن يشحن عمله الفني بشطحات فلسفية ليست في مستواه, فالفنان ليس فيلسوفا, وعندما يفعل ذلك لا يرتفع إلى مرتبة الفيلسوف, ولا يحتفظ بكيانه الفني, ويمضي قائلا: إن المرحلة التي يكتسب فيها الفنان قدرة الفيلسوف مرحلة متأخرة جدا في حياته, لا تأتيه إلا بعد مجالدة طويلة للحياة والتفكير والتعبير, وأنه حتى في أقصى نمائه الذهني لا تعلو صيحة الفيلسوف على نغمة الفنان, بل لا يدرك قارئ العمل الفنان ملامح الفكرة الفلسفية الجديدة إلا من خلال صخب الحياة الساذج ومؤثراتها الانفعالية التي تبدو أبعد ما تكون عن التأملات الفكرية والتوليدات الذهنية. ويؤكد أحمد عباس صالح أن صلاح عبدالصبور يقتحم ميادين من الأفكار الكلية الضخمة التي ارتادها من قبله أئمة المفكرين والفلاسفة, وأوسعها الفكر الإنساني تأملات راقية ودراسات بعيدة المنال. وهي قضايا خالدة لا يقربها المفكر والفنان إلا إذا أتى فيها بجديد. ولكن صلاح عبدالصبور يقفز فيستعير ثياب المسيح, ويقف على قمة الجبل ليكمل الناموس. إنه يتحدث بجرأة طفلية ساذجة عن حكمة الوجود والحب والحرية والموت والقداسة والسوق والسوقة. باختصار, عن كل شيء في الحياة الإنسانية, فإذا هيكل قصيدته (أقول لكم) هيكل ضخم مهيب تتردد فيه الروح التي أملت على المسيح أن يقول للشعب: قد سمعت أنه قد قيل للقدماء, أما أنا فأقول: ولكن المسيح قال كلمته فاستقرت في جوف الإنسانية شريعة وفلسفة ألفين من السنين, أما صلاح عبدالصبور فبدا تائها في فراغ الهيكل الكبير, يجأر ببضع كلمات من مألوف الكلام.

إنه مثلا يتناول قضية من أخطر القضايا الإنسانية, هي المفاضلة بين العقل والإيمان, بين التفكير والانفعال, كوسيلتين للمعرفة والكشف عن الحقيقة, يقول صلاح عبدالصبور ويستشهد بمقطع القديس ورحلته ليصل إلى اليقين, وكيف رمى كتبه للنيران, ويعلن أحمد عباس: (إنها رحلة خطيرة, رحلة عمر طويل بين الكتب والتفكير والتأمل والبحث عن الحقيقة. رحلة استغرقت كتابا كاملا من فيلسوف آخر هو الغزالي صاحب (تهافت الفلاسفة) الذي ناقش وهدم ودلل وجرب. ولكن شاعرنا يكتفي بأن يسخر مجرد سخرية بلا دليل من أن حقيقة الدنيا ثوت في كهف, وأن حقيقة الدنيا هي الفلسان فوق الكف), ثم يكتب في الهامش أن هذه الأبيات من أباطيل فلسفة أفلاطون, وماركس وأرسطو وأصحاب نظرية الحلول والسوفسطائيين وفيثاغورث, بهذه البساطة الراعنة التي لا يمكن أن تشد قلوبنا, فيما يقول أحمد عباس صالح, يتوقع الشاعر أن ننفعل معه.

خنق التجربة الحية

ويمضي أحمد عباس صالح في تعداد الأمثلة ليطرح على نفسه السؤال: هل ما يقدمه صلاح عبدالصبور شعر? هل الشعر مجرد قضايا منظومة? إن أبرز ما في الشعر هو العدوى الانفعالية التي ننتفض بها عندما نردد تلك الكلمات المثقلة بالظلال, وسخونة التجربة التي تلمس القلب, فنستشعر الشجن أو الفرح أو الألم, فالشعر هو تلك الكلمات التي تجمع إلى خفة النغمة العذبة سحر الصورة المجسّدة وخلايا التجربة الحية في أشف انطباع لها. ولكن ذلك غير موجود في شعر (أقول لكم) فهو شعر يخنق التجربة الحية بالفكر غير الحي. ولا يستثنى أحمد عباس صالح من حكمه إلا قصيدة واحدة, وقف فيها الشاعر وقفة صاحب النبوءة إلا أنه صدر عن نفسه, وابتعد عن مزالق القضايا الكلية المجردة. هذه القصيدة هي قصيدة (الظل والصليب) التي نلتقي فيها بالشاعر الذي أوشك أن يغتاله طموح بلا بصيرة, فيعود إلينا بكل ما فيه من حماسة ومرارة وانفعال.

ويؤكد أحمد عباس صالح أن هذه النفثة الغاضبة تترجم نفسها شعرا يحمل كل دخان العدوى, لكن هناك إحساسا عاما ينتاب قارئ أشعار صلاح عبدالصبور في الديوان كله بوجه عام, وهو إحساس يرجع إلى كلف الشاعر بمحاولة إعطاء كلماته رموزا, وهو كلف يشبه محاولات شعراء البديع والجناس عندما ظنوا أنهم يجمّلون بهما الشعر. ولعله يرجع أيضا إلى استعاراته لصور في أعمال أدبية أخرى لم تحدث أثرها إلا لاستمدادها خيوط معانيها من ذات العمل, فانظر - مثلا - إلى ختام (الظل والصليب):

هذا زمن الحق الضائع
لا يعرف فيه مقتول من قاتله ومتى قتله
ورءوس الناس على جثث الحيوانات
ورءوس الحيوانات على جثث الناس
فتحسس رأسك
فتحسس رأسك

فصورة الناس الذين تحوّلوا إلى حيوانات هي زبدة مسرحية يوجين أونسكو (الخرتيت). وهو لم يتوصل إلى تجسيد هذه الصورة إلا بمقدمات عدة في المسرحية ذاتها. وإذا كان الشعراء الأوربيون يستهلّون الميثولوجيا اليونانية والأساطير الشعبية في أشعارهم دون أن يحدث سوء فهم. فلأن هذه أعمال قديمة ومتداولة, ولهذا يحدث التشبيه أو الاستعارة أثرهما المطلوب. وكم يكون أكثر صوابا أن يغوص الشاعر أو الفنان أيا كان ميدانه في ضمير شعبه يستكنه أسراره ويعيش رموزه قبل أن يبدأ الخطاب.

الشيء الحزين

ومن حيث ينتهي أحمد عباس صالح, يبدأ محمد مندور في مقال مضاد بعنوان (الشيء الحزين) في (الجمهورية) (19/7/61). ويتوقف عند مقال لويس عوض الذي يصفه بالإمتاع ومقال أحمد عباس صالح الذي يذكر مقاله بلا صفة. ويقول إن المقالين يثيران بعض القضايا الفنية التي يخالف فيها الكاتبين, ويتيح الديوان فرصة توضيحها وتعميقها, وبخاصة أنه ديوان يعتبر من معالم الطريق في نهضة التجديد الشعري المعاصر.

والقضية الأولى هي ما ذهب إليه لويس عوض من أن هناك ما يصلح للنسق الموسيقي الجديد وما لا يحسن له ويحسن أن يصب في القوالب العروضية التقليدية. ويرى مندور في ذلك فرضا يجب تحرير الشعر منه. ويؤكد أن قوالب الشعر لا تحددها جدة المضمون أو قدمه, وإنما تحددها جدة التعبير عن الوجدان وضرورة الملاءمة بين نغمات هذا الوجدان والقالب الموسيقي المختار, وسيان بعد ذلك أن تكون عناصر هذا الوجدان جديدة أم قديمة قدم الدهر, فالإنسان قد تغنّى, وسيظل يتغنى أبد السنين, بالحب والجمال وأشواق الروح وانفعالات الضمير. وليس المهم عندئذ هو جدة أو قدم المضمون بل جدة أو قدم طريقة التعبير واختيار القوالب التي تعزز من قوة هذا التعبير وقدرته على التأثير والنفاذ إلى القلوب والضمائر.

ويختلف مندور مع صديقه لويس عوض في تفسير قصيدة (الشيء الحزين) والحكم عليها, فهو لم يحس بما أحس به لويس عوض من أن معاني وأحاسيس هذه القصيدة الجميلة قديمة معادة أو مكرورة, بل بالعكس, أحسّ أنها جديدة وأصيلة لأنها مرتبطة ارتباطا وثيقا بوجدان الشاعر الذي نلمسه في عدد كبير من قصائد الديوان, بل وأحس أنها مرتبطة بوشائج خفية وعميقة بقصيدة (الظل والصليب) التي يمجّدها الدكتور لويس عوض, فالشيء الحزين الغامض الذي يحسه الإنسان المعاصر, ويبحث عبثا عن مصدره في الذكريات أو الندم أو خلو النفس من الحماسة والانفعال والإيمان بشيء محدد, كل هذا لا يستطيع أحد أن ينكر اتصاله الوثيق بالإحساس بالسأم الذي تدور حوله القصيدة (الظل والصليب) بحيث لا يرى مندور - والأمر كذلك - وجها لأن نبيح اختيار القالب الموسيقي الجديد لـ (الظل والصليب) ونستذكره في قصيدة (الشيء الحزين). ويجادل مندور قائلا إنه لو سلّم بأن (الشيء الحزين) ليست شيئا جديدا على الإنسان المعاصر كجدة السأم, فإنه لا يرى في ذلك مبررا لأن نستنكر استخدام القالب الموسيقي الجديد في التعبير عن هذا الشيء الحزين تعبيرا جديدا نافذا موقعا على نحو يقوي من تأثيره ويشحذ من مضائه, ويدلل على صحة دعواه بالمقطوعة الأولى من القصيدة التي يصفها بالجمال:

هناك شيء في نفوسنا حزين
قد يختفي ولا يبين
لكنه مكنون
شيء غريب غامض حنون

موضحا أن القصيدة قائمة على تفعيلة الرجز (مستفعلن). ولكن الشاعر عدل عن وحدة البيت ليوزع تفاعيله على النحو الذي يبرز دقائق الأحاسيس ومفارقاتها, ويعبّر تعبيرا دقيقا عن الحال النفسية التي يصفها بكل تفاصيلها ونسبها, دون أن يضطر إلى حشر لفظة يكمل بها البيت أو يوقع القافية. ولذلك لا نحس في هذه المقطوعة بلفظ دخيل, كما نحسّ بأن إفراد التفعيلة في سطر واحد - وهو (لكنه مكنون) - يبرز التعارض العميق الذي يحسّه الشاعر بين اختفاء الحزن وعدم إبانته من جهة, ووجوده فعلا ولكنه مكنون داخل النفس, وهو حزن غريب وغامض, ومع ذلك حنون, وقد أبرز الشاعر كلا من هذه الصفات لأنه يعنيها, ولا يرصّها حشوا في بيت شعر أو استكمالا لوزن أو قافية, وكل هذه هي عناصر الجدة في التعبير, وطرائق تلك الجدة التي تبرز هذا القالب الجديد.

إثراء الثقافة العربية

أما الأستاذ أحمد عباس صالح, فيرى مندور أنه يستنكر على صلاح عبدالصبور أمرين: أولهما إدخال الفكر أو ما يسميه الفلسفة في الشعر. وثانيهما: استخدامه بعض الصور والتشبيهات المأخوذة عن الغرب وأساطيره. ويقول مندور إنه يحمد لأحمد عباس غضبته المضرية للعربية والعروبة, ولكنه يخشى أن تكون غضبته سيئة تذكّرنا بالدب وصاحبه, لأننا إذا كنا نريد أن ننهض بتعبيرنا الأدبي إلى المستوى العالمي, فلماذا نحاول أن نحجر على أدبائنا الاستفادة من طرائق التعبير العالمية وإثراء أدبنا المعاصر بها? وإن صلاح عبدالصبور وأمثاله من المتصلين بالثقافة العالمية - فيما يؤكد مندور - لا يقلون غيرة على العربية والعروبة من أحمد عباس وأمثاله, ولكنهم أكثر فطنة ووعيا بالوسائل الأدبية والفنية الحقة التي يستطيعون بها أن يخدموا عروبتهم وعربيتهم عن طريق إثرائها بكل ما هو سليم ونافع وجميل في الآداب العالمية, فجميع الآداب قديما وحديثا قد أخذت عن بعضها ولاتزال تأخذ, ويا ويلنا من مركبات النقص وضيق الأفق?!

 

جابر عصفور