الطفل الكامل

الطفل الكامل

قصة مترجمة
للكاتبة الأمريكية: كريستين أليسن

افعلي هذا الآن أو فيما بعد, افعليها في الخامسة والعشرين أو في الأربعين, كل اختيار وله مخاطره, وكل اختيار فيه جزء من المصادفة, هذا هو ما فشل والداها في فهمه, لم يدركا أن العالم الذي تواجهه يختلف عن العالم الذي كانا يعرفانه.

وقفت (جيسي) وقد باعدت بين قدميها في ممر قطار الأنفاق, أمسكت الحاجز المعدني, العربة نصف فارغة ولكن كل المقاعد كانت مشغولة, كانت تحب تلك الوسيلة العتيقة في الانتقال عبر مدينة نيويورك رغم أنها لم تتجدد منذ حوالي مائة عام, لقد سمعت زملاءها وهم يقولون إن نيويورك قد أصبحت أول مدينة أوربية في أمريكا, زحام شديد, وأماكن ضيقة, والأرض قد أصبحت مليئة بالحفر بعد أن كان العشب يغطيها ذات يوم.

مازال والداها ملتصقين في (ديس مونيس), يحيط بهما العشب من كل جانب, ولكنهما لا يستطيعان أن يفهما لماذا تحب هذه المدينة, وضعت رأسها على الحاجز المعدني, أحست به باردا, كان يجب أن تحدث أبويها بالأمس, اتصلا بها ثلاث مرات بعد أن قامت بالاختبار, ولكنها أرادت أن تنتظر حتى تظهر النتائج, حتى يكون عندها شيء جديد تقوله لهما بدلا من أن تواصل معهما المناقشة نفسها غير المجدية, إنها في الخامسة والعشرين من عمرها, كبيرة بما يكفي لتتخذ قراراتها ولترتكب أخطاءها.

يظن والداها أن إجراء الاختبار هو الخطأ رقم واحد, فهو عالي الكلفة بما فيه الكفاية, ولكن الطبيب قال إنه ينصح به لأي اثنين ينويان الزواج, فلو لم يكن هناك توافق بين الجينات - كما قال - فإن أمامهما الفرصة لإنهاء العلاقة, أو اللجوء إلى وسائل أخرى لإنجاب الأطفال.

حرية الاختيار, هذا هو الأمر الذي لم يستطع والداها أن يدركاه, ولكن ماذا عن النتائج, تقلبت معدتها, لماذا أصبح كل شيء سريعا إلا نتائج الاختبار, أوشك شهر كامل أن يمر الآن, قال لها الطبيب إنه بينما زادت سرعة الاتصالات في كل شيء, فإن هذا الأمر لم يحدث في الطب.

توقف القطار في ميدان (التايمز), خرجت من الممر الضيق المزدحم, بهرت المدينة عينيها, الضوء الساطع وهو يتسلل من بين البنايات, وصوت السيارات, وصياح الناس, كانت أمها تقول دائماً: كيف يمكن أن تربي طفلا في مثل هذا المكان? وكانت جيسي تقول لها: توجد هنا الملاهي والمتاحف وفرق الموسيقى, وتقول أمها: وكيف ستتحملين تكلفة ذلك يا عزيزتي? أمامها كان يسير طفل أشقر ذو عينين زرقاوين. كان يمسك أباه بيد بينما الأخرى تمسك بخيط في طرفه بالونة, كانت تود أن تسأل الأب: هل استعددت من أجل إنجـاب هذا الغـلام, أم انتـــظرت حتى تهـــبك الطبــيعة إياه بمحض المصادفة?

دخلت إلى باب جانبي, باب معدني يطل على شارع برودواي الرئيسي, سارت في ممر خلفي يقود إلى شباك بيع التذاكر داخل أحد المسارح الذي تغير اسمه أكثر من مرة في السنوات الأخيرة, كان المكتب حارا, لم يكن مكيف الهواء كافيا لتبريد المكان, وضعت على أذنيها السماعات حتى تستطيع أن تتلقى المكالمات الهاتفية دون أن تزعج أحدا, أشعلت جهاز الكومبيوتر, كان قديما بعض الشيء ولكن كل مقاعد المسرح كانت ظاهرة بألوان مختلفة, بدأت العمل بإيقاع بطيء, تذاكر قليلة تباع, وحجوزات معدودة, عمل ممل, العمل الذي يقوم به خطيبها (بريان) أفضل بكثير, إنه يعمل في محل لإعداد الوجبات السريعة بالقرب من جسر (واشنطن), وهو يعود إلى البيت في الوقت الذي تغادره فيه إلى عملها, ولا يقضيان معا سوى بعض الأمسيات.

خلعت جهاز السماعات من على رأسها, كانت يداها ترتجفان, يبدو هذا اليوم أطول مما ينبغي, فهي تعرف أن النتائج يمكن أن تأتي اليوم أو غدا أو الأسبوع القادم, النتائج, يسألها أبوها: (ماذا سوف تفعلين بها, افترضي أنه كان هناك شيء سيئ, ماذا ستفعلين, هل ستقررين مستقبلك بناء على عدة أرقام أو نسب مئوية? إنها أشياء تبدو بلا معنى.

لم تكن تملك إجابة عندما سألها للمرة الأولى, وهي لا تملك إجابة الآن, أخذت تراجع الرسائل الموجودة على الكومبيوتر, لم تكن هناك أي رسالة شخصية, حاولت أن تملأ ذهنها بالمسرحية التي يقدمها المسرح الآن, إنها آخر مسرحية كتبها أوسكار وايلد بعنوان (قيثارة فوق السطح) يقوم بتمثيلها (ماميت) ذلك الممثل العجوز المدهش.

وأخيرا جاءت المكالمة, كانت قد نحت الاختبارات عن ذهنها, لذا أدهشها أن تسمع صوت (بريان) وهو يتحدث إليها, كان يعلم أن المكالمات الشخصية ممنوعة, لذلك أخذ يتكلم في سرعة:

- لقد وصلت النتائج, قابليني في المكان الخاص بنا.
سألت وهي عاجزة عن التقاط أنفاسها:
- إلى أي حد هي سيئة.

لم تفطن إلى مدى سوء حالتها هي حتى سمعت صوتها الأجوف, لقد دفعت من أجل هذه اللحظة, من أجل أن تعرف المستقبل الذي سوف تأتي به. ولكنه لم يجب عليها, كان يعرف إلى أي مدى يحتاجان إلى أجرها وأن المكالمات الخاصة ممنوعة, لذلك أسرع بوضع السماعة. أخذت نفسا عميقا, شعرت بالهواء وهو يدخل ويخرج من رئتيها, كانت قد شعرت بجسدها في مرة أخرى غير هذه, في المعمل عندما اخترقت إبرة التحاليل جلدها لتأخذ عينة من الدم, قالت لها المرأة إنها غير مؤلمة, لكن الوخزة هي الوخزة, حادة ومفاجئة. راقبت جيسي قطرات الدم, داكنة وكثيفة, وتساءلت, أيّ سر سوف تكشف عنه هذه القطرات?
الآن سوف تعرف, بريان يعرف بالفعل, وسوف يجعلها تنتظر ساعتين كاملتين قبل أن يخبرها.

مكانهما في حديقة (واشنطن سكوير), كانت تعمل بالقرب منها, وتعودت أن تذهب إليها لتتناول الغداء, تحضر معها دائماً سندوتشات الهوت دوج والهامبورجر أو أي شيء متيسّر, ما تأكله لم يكن مهما, كانت لحظات قليلة خارج العمل, حتى ولو كان يعني الجلوس في حديقة كتل الإسمنت فيها أكثر من العشب والأشجار وكان الهواء فيها جافا.

بريان يعمل بالقرب منها أيضا, وكانا - قبل أن يتعارفا - يجلسان على الأريكة نفسها, لم يتحدثا أبدا, حتى كان ذلك اليوم الذي جاء فيه إلى الحديقة اثنان من السياح من (إيوا), الولاية نفسها التي جاءا منها معا. لم يكن السائحان يعرفان كيف يستخدمان كاميرتهما الجديدة, وكانا يرغبان بشدة في التقاط صورة يرسلانها للعم (سيد), مازال بريان وجيسي يذكران هذه الحادثة وهما يضحكان, إنها التكنولوجيا التي عرفت كلا منها على الآخر, وتضيف جيسي دوماً: معظم الناس لا يفهمون ماذا تعني التكنولوجيا.

إنهما اليوم يواجهان الجانب الآخر من التكنولوجيا, وسوف تقول لها لو أن الحياة التي تريدها سوف تحقق ما تتمناه أم لا?

كانت تريد أن تركب سيارة أجرة, ولكنها تذكرت كل التكاليف المطلوبة منهما, قطار الأنفاق كان قديما, وكان دائم الارتجاج, وكانت صديقتها (جوان) تقول إنه يوما ما سوف تنفصل عرباته عن بعضها البعض, ومع ذلك داومت على ركوبه. لم تشتر غداء, كانت تعرف أنها لن تقدر على تناوله, جلست على أريكتهما المعهودة في انتظار قدوم (بريان), الذي تأخر بشكل واضح.

هل يجلسان ليقررا هنا الشكل الذي سيكون عليه طفلهما? أم أنهما يتقابلان حتى يصلا إلى اتفاق إن كان قدوم هذا الطفل إلى العالم سيكون مكلفا أو مثيرا للفزع?

لم تكن تحب الانتظار, ولحسن الحظ أنها أخبرت رئيسها أنها سوف تتأخر بعض الشيء, كان يعرف أنها لحظة مهمة بالنسبة لها, ويتفهم ذلك, امتلأت الحديقة بالأطفال, نائمين في العربات, أو على أذرع آبائهم, أو يجرون وسط مقاعد الحديقة, إنهم ليسوا الأطفال الكاملين الذين تعودت رؤيتهم, بشرتهم سيئة, وملامحهم غير وسيمة, وحتى عيونهم جميعا مصابة بالحول, إنهم ليسوا كاملين ولا يبدو على ملامحهم أي نوع من الذكاء, هؤلاء هم أولاد الفقراء, ينجبونهم بدافع من اليأس, لا يستمعون إلى كلام الأطباء, ولا يقدرون على دفع أجورهم, يعتقدون أنهم يمكن أن يخوضوا تجربة الحمل دون أي اهتمام بالنتائج, ولا يدرون إن كان أطفالهم سوف ينشأون صالحين لمواجهة المستقبل أم لا.

ربما اختار بريان المكان لهذا السبب, ليذكرها بمدى تكلفة الاختيار الخاطئ, رأته أخيرا وهو مقبل من باب الحديقة, يسير وهو ينظر إلى ما حوله دون اهتمام, كأن هناك تاج صغير فوق رأسه, كان يقول ساخراً قبل إجراء الاختبار إنه لن يسمح أبداً لأولاده بأن يكونوا أغبياء, لم يقل هذه الدعابة منذ أسبوع, سار متجها إلى المقعد دون أن يلقي أي نظرة على الأطفال, وعندما وصل إلى الأريكة لم يحاول أن يلمسها, وبدلا من ذلك ناولها جهاز كمبيوتر في حجم الكف, كان مفتوحاً بالفعل وصفــحة البريد الإلكتروني واضحة على شاشته, مرت بسرعة على الكلمات وتوقيعات الأطباء ووصلت إلى النتائج نفسها.

امتلأ ذهنها بالنسب المئوية, نظرت إلى أعلى معدل فيها متوقعة الأسوأ, هل ستكون هناك تشوهات خلقية, هل سيكون هناك عته في الشيخوخة, لم تر أي شيء من هذا, كل النسب العالية كانت سخيفة: 97% أن يكون الطفل أشقر الشعر, 96% يكون ذا عينين عسليتين, 98% أن يكون طويلا.

بعد ذلك تأتي نسبة المشاكل التي سوف يواجهها الطفل, 47% أن يحصل على معدل ذكاء فوق 120, 36% في أن يكون لديه موهبة فنية, 24% في أن يكون له قابلية قوية للألعاب الرياضية. متوسط نتائج الاختبار يؤكد أن طفلها سوف يكون متوسطا في أفضل التوقعات.

أخذت تبحث في البريد الإلكتروني عن أي شيء إيجابي, أي شيء يمكن أن يصلح هذه الأنباء المحيّرة, وبدلا من ذلك رأت تفسيرا لكل النسب التي لم تعجبها, كان معدل ذكائها أقل من بريان وقد أثر هذا في النتيجة النهائية, كان جسده أيضاً أضخم منها, كما أن المواهب التي يتمتعان بها كانت متعارضة, لم يكونا متوافقين على مستوى الجينات, هكذا قبل أن يحدث أي حمل, فشلا كزوجين.

لم ترفع رأسها, لم تكن تريد أن ترى الأطفال وهم يلعبون من حولها, كانوا يضحكون, لا أحد منهم يعرف أن فقرهم سوف يمنعهم من أن يكونوا شيئا ما, كان أبوها قد قال لها عندما أخبرته عن الاختبارات: ما لم تفهميه يا عزيزتي أن هناك أطفالاً أكثر عددا من الإحصاءات.

وأضافت أمها: أنا أتذكر أول ابتسامة حقيقية لك, وكلما كنت حزينة أتذكرها.

وقال أبوها: أحيانا تكون أفضل الإنجازات هي أصغرها.

تناول بريان الكمبيوتر الصغير منها, وضع إصبعه تحت ذقنها, نظر في عينيها, كانتا عسليتين, قالت:

- ربما كان علينا فقط أن نعود لبلدتنا, وننسي المتاحف وهذه الحديقة, وسوف يحب والدانا الحفيد الذي ننجبه, مهما كان نوعه.

وضع إصبعه على شفتيها, بدت رائحة جلده من الليمون والثوم, قال في صوت خافت:

- هذا لن يفيد, لسنا الاختيار الصحيح لبعضنا البعض, أنت تحتاجين لأحد يضيف شيئاً إلى درجاتك, وكذلك أنا.

أرجعت رأسها للخلف بحيث لم يعد اصبعه يستطيع لمسها, قالت:

- دعنا نفكر في ذلك.

- كلا, أريد طفلا أفخر به, لا أريد...

أشار إلى رضيع نائم في عربة متحركة تمر أمامهما, كانت أذناه كبيرتين بالنسبة لوجهه الصغير, وأكمل كلماته:

-... شيئا آسف عليه.

كان أبوها يقول: الإحصاءات هي مجرد إحصـــــاءات, إنها ليست دليـــلا على شـــيء, مــــاذا لو كانت خاطئة?

- لا يمكن أن تكون خاطئة يا أبي.

يقول: حسنا, أحيانا البشر يتغلبون على الحقائق.

تقول لبريان: ربما كان علينا أن نحاول.

وضع الكمبيوتر الصغير في كفه وهو يقول:

- كنت أخشى ذلك, كنت قلقا من أنك لن تصدقي هذه النتائج, نحن في حاجة إلى دعم كبير يا جيسي, ربما لو كنا أغنياء بعض الشيء.

- نستطيع الانتظار, ربما تحصل على عمل أفضل, أنا أيضا يمكنني أن أحاول.

هزّ رأسه:

- ألاتتذكرين ما قاله الأطباء, سوف تتدهور بويضاتك مع الوقت, وسوف تكون النتائج أسوأ.

بويضاتي وحيواناتك المنوية, التدهور لا يصيب الأنثى فقط, لم تقل له ذلك, لقد قرر أمره, وسوف يقوم بهذا الأمر دونها, قال:

- يمكنك القيام الآن بكل الأشياء التي تودين القيام بها, يمكنك أن تقومي بالتمثيل بدلا من الجلوس في شباك التذاكر, ربما تصبحين شيئاً ما. شيء يستطيع أن يدفع من أجل طفل كامل, الطفل الذي كانت تريد مشاركته مع بريان, قالت:

- كلها مسألة مصادفة, مخاطرة, ربما كان علينا أن نفعل بالطرق القديمة كما كان يفعل والدانا.

أومأ برأسه ولكنه لم ينظر إليها, احمرت وجنتاها, أدركت فجأة أنه قرأ التقرير جيدا, الخطأ ليس منه, ولكن منها, الطريقة التي يتفاعل جسدها معه سوف تثير خجله, كلما نظر إلى طفلهما, نهض واقفا وبدا أنه على وشك الانصراف دون أن يتحدث إليها, ثم قال:

- ربما كان علينا أن نبحث بجدية عن شركاء آخرين.

وبدأ يخطو مبتعدا فوق العشب, حدقت جيسي في الأطفال الذين يلعبون أمامها, هل يمكن ذات يوم أن تنسى تلك الأرقام التي دمرت حياتها وتنجب طفلا فيه كل عيوب الدنيا ومع ذلك تحبه, كانت تعرف أنها لن ترى بريان مرة أخرى, وأنها سوف تبكي طوال الليل, ظلت جالسة في مكانها, تنظر للأطفال وتستمع إلى أصواتهم وتنتظر أن يحدث شيء ما.

 

محمود صالح