أوراق فاطمة حسين... سيرة ذات أم وطن?

أوراق فاطمة حسين... سيرة ذات أم وطن?

يمت كتاب (أوراقي) بصلة للسيرة الذاتية ولكنه أقرب للذكريات والمذكرات, فهو أقرب للذكريات المرفقة بالصور والرسائل والوثائق الشخصية وقصاصات الصحف القديمة.

قد يحار القارئ في العثور على تصنيف ثابت لهذه الأوراق, لأنها تتشبه بالسيرة الذاتية بوصفها حسب تعريف الفرنسي (فليب لوجان) (Philippe Lejeune): (حكي استعادي نثري, يقوم به شخص واقعي وذلك عندما يركز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته). لكن بحكم عدم توافر الخيط الرابط الذي تنتظم فيه وقائع السيرة الذاتية, قد نميل لتصنيف كتاب (أوراقي) للكاتبة الكويتية فاطمة حسين ضمن كتب الذكريات, وتحديدا في ذلك النمط المخصص للشهادات ذات المنحى التاريخي, وهنا قد تلتقي الذكريات مع كتابة السيرة الذاتية, ولئن اختلفت عنها. وقد اختارت فاطمة حسين هذا المنحى في أوراقها وأعلنت عنه في فصل التمهيد بوضعه في شكل سؤالين جوهريين: لماذا? وكيف? وقد كانا بمنزلة توضيح لدواعي الكتابة وللكيفية التي توختها في انتقاء موضوعاتها, وكأننا بها قد تعمدت تهيئة نوع من التقاطع والتشابك بين (لماذا) و(كيف) وعندما تقول: (مهمتي اليوم أن أصف حركة وطني (الكويت), من خلال حياتي, لأن تطور الوطن قد ترك بصماته على مسار حياتي). يتجلى هذا التواشج الجدلي بين (لماذا) التي تحيل على دواعي الكتابة ومبرراتها, و(كيف) التي تحيل على نمط من الكتابة يقوم على المزج بين الذات والوطن, أي بين الخاص والعام أو بين الذاتي والموضوعي, وهو ما يتجلى أيضا في قولها: (أظن أنني واحدة من جيل شهد متغيرات حضارية متسارعة, وهذه الحقيقة قد تؤهلني لأن أكون شاهدة على العصر. وكلمة (قد) تعني لي الكثير لأن المصدر الأساسي والوحيد في هذه الشهادة إنما هو ذاكرتي).

ولا يخفى ما لهذا الموقع, موقع الشاهد (ة) الذي راهنت عليه الكاتبة من أهمية, إذ يعتبر حسب (فليب لوجان) (وهو من النقاد المختصين في دراسة هذا الصنف من الكتابة بمختلف أنواعها), عنصرا رئيسيا لنجاح الكتاب. وقد تنبه لأهمية وخطورة دور الشاهد د.سليمان العسكري في مقاله (السيرة الذاتية.. خيط رفيع بين الحقيقة والفضيحة), حيث يقول: (علينا أن ندرك أن السيرة الذاتية هي شهادة الشخص التي يرويها على العصر الذي يعيشه, من أجل ذلك فإن عليه أن يكون شاهد عدل يقدم للأجيال تجربة تقترب من الحقيقة وتبتعد عن إثارة الخصومة وتصفية الحسابات).

إن دور الشاهد على العصر يعد من أصعب الأدوار التي يقدم عليها العديد من كتاب السيرة الذاتية واليوميات والذكريات والمذكرات, بحكم اختلاف وتنوع ردود أفعال وأحكام القراء حول أهلية الكاتب للاضطلاع بدور الشاهد ومدى مصداقيته وأمانته. وإذا ما وضعنا في الاعتبار قلة عدد الكاتبات اللاتي أقدمن على هذا الصنف من الكتابة (السيرة الذاتية والمذكرات واليوميات) نتبين جسامة المهمة التي أقدمت عليها الكاتبة مما يجعلها في موقف لا تحسد عليه, على الأقل لسببين اثنين:

- أولهما, خطورة وصعوبة دور الشاهد على عصره.

- ثانيهما, كيف تجرؤ امرأة على منافسة الرجل في الاضطلاع بدور الشاهد في مجتمع ذكوري غير متجانس كغيره من المجتمعات العربية, فيه من باركوا ارتقاء المرأة إلى مستوى المواطنة, وفيه من مازالوا يشككون في أهليتها وشرعية شهادتها على عصرها, وفيه أيضا من ينزعجون من هذه الشاهدة, لا لشيء إلا لكونها تصر على امتلاك سلطة الكتابة.

إن الطريقة التي قدمت بها الكاتبة وقائع من سيرة حياتها تفصح عن وعيها التام بحجم التحديات والصعوبات المطروحة أمامها, لذلك أخذت عدتها اللازمة لإقناع القارئ بأنها لم تقدم على مغامرتها تلك من لا شيء, وبأنها صاحبة تجربة حياتية ترشحها عن جدارة لدور الشاهدة على عصرها, مما يقربها من التعريف الذي ساقه (فرنسوا ماسيرو) (Franïois massero) عن مؤهلات كاتب السيرة الذاتية, إذ يقول: (هو الكاتب الذي عاش حياة فيها من المعاناة والمثال الذي يحتذى به مما يخول له عرضها على جمهور القراء). وإلى جانب توافر هذا الشرط الأساسي في كتاب (أوراقي) يكتشف القارئ أن تلك الأوراق تمتلك إضافاتها الخصوصية لكونها صدرت عن كاتبة عاشت بعمق تجربة امرأة (على خط التماس ما بين الحداثة والتقاليد).

من التعليم التقليدي للانطلاق

ولعل ما أفصحت عنه هذه الأوراق خير دليل على ذلك, فقد حددت الكاتبة تاريخ ولادتها اعتمادا على تاريخ ظهور أول مدرسة للبنات في الكويت سنة 1938. ورغم أنه ثمة جيل من النساء سبقنها للدخول إلى التعليم العمومي في مرحلته التأسيسية, فإن أي واحدة منهن لم تقدم على التوثيق والشهادة على هذا الحدث المهم, وهنا تتنزل القيمة التوثيقية لهذه الأوراق, إذ صورت لنا الكاتبة الطرق التعليمية الموجهة للبنات في مرحلة ما قبل الطفرة, ممثلة في التعليم التقليدي الذي كانت تتلقاه البنات في بيت المطوعة, بطرقه التلقينية وأخطائه. كما صورت لنا من ناحية أخرى, التعليم المخصص للبنات في المدارس العمومية في تدرجه من المقررات المحدودة - أو فيما أطلقت عليه الكاتبة (منهج التربية النسوية) يتحدد غرضه في إعداد البنت لتصبح ربة بيت - إلى مناهج تعليمية أكثر شمولية ومواكبة لطرق التعليم العصري, ولقد أطلقت الكاتبة على هذه النقلة في مناهج التدريس الموجه للبنات تسمية (مشوار التحدي) الذي يعود الفضل في تطبيقه للدكتورة اللبنانية نجلاء عز الدين, فقد ساهمت هذه المدرسة وبشهادة الكاتبة, في (نقل التعليم من خانة العادية إلى خانة الحداثة), فهي لم تر فيما تتعلمه البنت - في نظرها - تعليما حقيقيا, بل هو مجرد شغل لوقت الفراغ, وبنت الكويت كانت تحتاج إلى تعليم أساسي, تحتاج إلى العلوم والرياضيات واللغات والتاريخ والجغرافيا, وكان اصطدامها بالهيئة المشرفة على تعليم البنات حول موضوع (من أين نبدأ).

وإذا ما وضعنا في الاعتبار أهمية التعليم بوصفه مكونا أساسيا من مكونات الشخصية, وإليه يعود الفضل في النقلة التي شهدتها منزلة المرأة الكويتية في أواخر الأربعينيات, نتبين أهمية هذه الشهادة على الصعيدين الذاتي والموضوعي. ولئن نحت الكاتبة إلى تغليب الموضوعي على الذاتي, وفي هذا السياق لم يفتها أن توثق للدور الذي اضطلع به الرجل الكويتي في مساندة المرأة ودفعها لتحصيل المعرفة, سواء على مستوى الأسرة أو على المستوى الرسمي (فقد أتى تعليم البنت بقرار رسمي, ولئن تأخر بخمس وعشرين سنة عن تاريخ البدء بتعليم الرجال). وقد ذكرت الكاتبة أسماء رموز من الرجال كان لهم الفضل في دفع تجربة تعليم البنات وتطويرها لتثمر أول بعثة للبنات سافرت للقاهرة سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف لإتمام الدراسة الجامعية, من هؤلاء الرموز الشيخ عبدالله الجابر الصباح والشيخ يوسف بن عيسى القناعي وعبدالعزيز حسين. لقد كانت الكاتبة ضمن بعثة البنات المذكورة التي أعطت للكويت أولى الرائدات في مجالات اختصاصاتهن. وقد اختارت صاحبة (أوراقي) مجال الإعلام فدخلت قسم الصحافة بكلية الآداب بجامعة القاهرة وذلك (رغم عدم وجود أي صحيفة في الكويت سنة 1956).

كان للحياة الطلابية في مصر دور مهم في توسيع آفاق الكاتبة ودعم استقلالية شخصيتها, وقد تأتى لها ذلك من خلال تجربة الاختلاط مع الجنس الآخر في الجامعة ومواكبة الحياة الثقافية والعمل السياسي, حيث انخرطت في حركة القوميين العرب, هذا إلى جانب ولعها بالرحلات. هذه العوامل جميعها هيأت الكاتبة للخروج من المجموعة الصامتة, فالعمل الإعلامي يفرض على صاحبه إلى جانب الكفاءة والخبرة والمعرفة, الحضور والمواجهة والتأثير في الواقع المعيش. ولم تخف الكاتبة طموحها الشرعي في امتلاك موقع المؤثر: (كنت أريد أن أكون مؤثرة في تشكيل الرأي العام, وأقود بل أساعد إخواني في قيادة مجتمعنا الخاضع للتغيير...).

تجربة إعلامية

كانت صاحبة (أوراقي) مسكونة بهاجس التأثير, لذلك فهي لم تتعاط مع العمل في الإعلام المسموع والمرئي والمكتوب على أنه مجرد حرفة بمقابل مادي, بل أصرت على أن تكون لها بصمتها ورؤيتها وإضافاتها, وقد تحدثت الكاتبة باستفاضة عن تجربتها الإعلامية وعلى الخصوص في التلفزيون ووضحت مقومات النهج الإعلامي الذي سلكته, كما حددت شروط التميز وما حف بتجربتها مع التلفزيون من صعوبات ومشاكل ومنغصات, وما حداها في نهاية المطاف على مغادرة التلفزيون والتوجه للإعلام المكتوب, بدءا بإدارة تحرير جريدة (الوطن), ثم تأسيس ورئاسة تحرير مجلة (سمرة). ولم تكن طريق الإعلام المكتوب مفروشة بالزهور, هذا ما أدركته الكاتبة منذ بداية تسلمها لإدارة تحرير (الوطن).. (كيف لي أن أرأس من يمكن أن يكونوا أساتذتي في الفن الصحفي? كيف لي أن أواجه ابن البلد - بالذات - المعتد بنفسه إلى حد الغرور? كيف لي أن أجعله يرضى برئاسة امرأة)?

وأمام العثرات التي واجهتها, اختارت الكاتبة التخلي عن إدارة تحرير (الوطن), من أجل مشروع عزيز على نفسها, ألا وهو مشروع تأسيس مجلة (سمرة), وقد اكتسبت خبرة في العمل التطوعي والجمعياتي, وعلى الأخص تجربتها مع (الجمعية الثقافية الاجتماعية النسائية), إلى جانب برنامجها (دنيا الأسرة) في التلفزيون, مما جعلها تهتدي لتحديد الاتجاه المناسب للمجلة الوليدة, ممثلا في هذه المقولة البليغة: (رؤية عصرية لقضية أزلية). ورغم النجاح الذي عرفته مجلة (سمرة) وبعد خمس سنوات من عمر هذه التجربة الإعلامية بخصوصياتها وإضافاتها, تنجم صعوبات وعراقيل, قررت الكاتبة على إثرها, أن تغادر شارع الصحافة, فقد أتت فجيعتها في ابنها (سامي) لتضع حدا لقدرتها على المواجهة والتصدي للعراقيل.

لكن كيف لامرأة اعتادت العمل والعطاء أن تتقوقع على ذاتها?

لقد أتاحت لها المسافة التي اتخذتها فرصة لتقييم تجربتها وموقعها وعلاقاتها بالآخرين, ولمزيد من التمعن في خلفيات المشهد الإعلامي ومنطق الأحلاف والمصالح. فالإعلام كما لا يخفى, يمثل سلطة نفوذ تمتلك قوانين لعبتها, وقد لا تجدي معها في كل الحالات, مسألة الكفاءة المهنية والحرفية العالية والجدية والانضباط في العمل, إن لم يكن صاحبها خبيرا بطرق التعامل مع الآخرين وبأساليب المناورة واصطياد الفرص المواتية. وهذه تعتبر من البديهيات التي تتحكم في تسيير الآلة الإعلامية في كل بلدان العالم.

لقد صعب على الكاتبة أن تتقبل هذا المنطق أو أن تتفهم دواعيه لأنها تصر على أن تكون كما هي, وهو ما عبرت عنه بصريح العبارة عندما أقدمت على الترشح لانتخابات مجلس الإدارة في جمعية الصحفيين الكويتية, حيث قالت: (ذهبت إلى الجمعية أحمل وضوحي وبساطتي, وربما سذاجتي أيضا, وسجلت اسمي كمرشحة للانتخابات ولم أكلف نفسي بمعرفة الآخرين إن كانوا كتلة أو فرادى, وقلت لنفسي: لأخض التجربة ولم أقم بعمل أكثر من تسجـيــل اسـمـي, إذ كـنـت أرى حـتـى طـلـبـي ممن أعرف أو لا أعرف, أن يـعـطـيـني صـوتــه, إنـمـا هـو اسـتـجـداء أرفـضـه...).

قد يتساءل القارئ في قرارة نفسه, كيف لامرأة امتلكت تجربة إعلامية طويلة امتدت بين سنتي 1963و1995 أن ترفض الانسجام مع منطق اللعبة السائد في المشهد الإعلامي وتتوقع في الوقت ذاته أن يتعامل معها أصحاب المشهد من موقع الاستثناء? كيف تقدم على (فرفشة) قانون اللعبة وتستغرب ردود أفعال أصحاب اللعبة الذين يعتبرون أنفسهم في موقع دفاع شرعي عن مصالحهم الشخصية استجابة منهم لدواعي الصراع من أجل الحفاظ على مواقع النفوذ, ذلك الصراع الذي لا يرحم, ولا يعترف بضرورة إفساح المجال للأكبر تجربة وكفاءة لا للأكبر سنا?

هذه البديهيات لم تكن خافية على الكاتبة. وقد ألمحت إليها إثر المعركة الانتخابية الثانية التي انتهت بها إلى عضوية مجلس الإدارة في جمعية الصحفيين: (غادرت شارع الصحافة لأكتفي بتمثيل الشبيبة هناك بعضوية مجلس إدارة جمعية الصحفيين الكويتية, أحاول من موقعي الجديد مع زملائي, أن أحل بعضا من تلك الأسلاك الشائكة والمتشابكة لمهنة ظاهرها الجاذبية والجمال وباطنها الإرهاق والضنى, حتى شاءت الجمعية أن تنقلني نقلة نوعية عندما رشحتني لتمثيلها في لجنة قضايا المرأة..).

قضية المرأة وخصوصيتها

المتابع لسيرة حياة فاطمة حسين من خلال (أوراقها), يكتشف مدى وعيها بملابسات خصوصية قضية المرأة عندما يفرض الظرف ذلك, لأنها لم تختر الاكتفاء بتلك القضية رغم إيمانها بها, وخير دليل على ذلك, تنوع أنشطتها ومشاركتها في الحياة العامة وفي العمل التطوعي والنضال السياسي خلال فترة الغزو (في الكويت, السعودية, لندن, أمريكا). والمتابع لكتابات فاطمة حسين يدرك أن قضية المرأة في منظورها, كانت جزءا لا يتجزأ من قضية الأسرة وقضية المجتمع, دون أن تجرّدها من خصوصيتها. ولعل أفضل ما يعبر عن موقفها هذه المقولة المختزلة: (... أصبحت أجيب وأستجيب على كل علامة استفهام تواجه المرأة من المطبخ حتى الحق السياسي).

لاشك في أن قارئ (أوراقي)سيقف على المزيد من التفاصيل المتصلة بقصة الحياة العامة التي خاضتها الكاتبة في مختلف وجوهها, حيث يطغى ذلك التواشج الجدلي بين الذات والموضوع, بين الشخصية والعالم الخارجي ممثلا في البيئة والمجتمع, مما قلّص من الحيز المتاح للحميمي والذاتي. فالكاتبة لم تبح لنا إلا بالقليل عن حياتها الخاصة, فهي قلما تترك العنان لخيالها ووجدانها, ثمة رقابة ذاتية صارمة إذا ما تعلق الأمر بإثارة جوانب من الحياة العاطفية, على غرار قصة الحب التي جمعتها بشريك حياتها, أو العلاقة الوجدانية بالأبناء وفاجعة فقد ابنها الأصغر سامي في عز شبابه على أهمية هذه الوقائع في بعديها الذاتي الإنساني, فقد اختزلتها الكاتبة إلى أبعد الحدود, رغم أن السيرة الذاتية تخول شرعية الاحتفال بالذات في كل تجليّاتها باعتبارها قلعة من قلاع الأنا بامتياز.

في كتاب (أوراقي) نكتشف الكثير عن فاطمة حسين الشخصية الاجتماعية والقليل عنها في فرديتها, وإذا ما وضعنا في الاعتبار أن فن السيرة الذاتية يقوم على الفردية وعلى امتلاك الفرد لكل مقوماته الإنسانية بصفة مستقلة عن المجموعة, ندرك سر ازدهار هذا الفن لدى الغرب بصورة عامة وهو يعزى لإرساء قيم الليبرالية التي تعترف بحرية الفرد واستقلاله. والفردية ظاهرة غربية ترجع كل أنواع النشاط للإنسان ذاته, وذلك على خلاف مجتمعاتنا العربية التي مازالت تنذر الفرد للذوبان في المجموعة.

رغم تسرب الكثير من قيم الحضارة الحديثة ومنها بالأساس الوجه الليبرالي, فنحن مازلنا نستنكف من كلمة (أنا) لهذا قد يلتمس القارئ الأعذار للكاتبة. ألم يحجم الكتاب الرجال هم أيضا عن تعرية (الأنا), فلم يبوحوا بأسرار ذواتهم إلا بمقدار? فما بالك بكاتبة امرأة ظلت على مدى تاريخها تلك الصدفة المنغلقة على ذاتها. وإذا ما أتيح لها مجال الانفتاح, فإن ذلك يبقى مرتهنا بحدود وخطوط حمراء, فالأمر يتعلق بسيادة منظومة قيمية لاتزال على قدر كبير من المحافظة, رغم المتغيرات الطارئة على الواقع, لكن فيما يخص كتاب (أوراقي), لم تكن الذات في فرديتها قضية الكاتبة الأولى, بل التوثيق للشخصية الاجتماعية لتحقيق غاية بعيدة المدى, ألا وهي الانتصار على النسيان والموت, وتخليد الذات بما حققته من إسهامات في بناء مجتمعها, فضلا عن غايات أخرى من أبرزها: توضيح المواقف وتصحيح الأوضاع, لغاية رد الاعتبار للذات التي لم تخف شعورها بالضيم الذي نالها من مجتمعها. وقد كانت هذه (الأوراق) بمنزلة محصلة توسلت بها الكاتبة لطرح هذه المعادلة: (ماذا أعطيت? وماذا جنيت?).

وقد عبّرت الكاتبة عن اعتزازها بمكانتها الشعبية أو بمكسبها الشعبي (مما جعل الناس يتصوّرون أنني الناطق الرسمي بلسانهم بالقلم عبر المقال أو اللسان عبر الإذاعة أو الصورة عبر التلفزيون), كما لم تخف ألمها تجاه الأوساط الرسمية التي لم تولها في أغلب الحالات المكانة أو المركز الذي تستحق: (أما في المجال الرسمي, فأعتقد أنني قد تعرضت للكثير من الظلم والغبن, إذ إن كثيراً من الفرص التي منحت لغيري كانت مفصلة تفصيلا لشخصي وفي اللحظة الأخيرة. ولغاية في نفس يعقوب, تخرج صورتي من الإطار وتوضع صورة أخرى مكانها..).

رسالة عتاب

في مواضع مختلفة من كتاب (أوراقي) يكتشف القارئ مكونات رسالة عتاب موجهة لأطراف متعددة, إعلاميين ونشطاء وناشطات في المجتمع المدني ومسئولين في سلطة الإشراف. تنشد الكاتبة من وراء هذه الرسالة المبثوثة في سطور الكتاب وما بين سطوره, رفع الالتباس أو سوء التفاهم الذي قد يكون من أهم أسباب توتر العلاقات المهنية والاجتماعية التي كانت في وقت مضى تجمع بين الكاتبة وهذا الشخص أو ذاك جراء الاختلاف في الرؤى والتصورات, وجراء بعض الأحكام القبلية التي ترى الكاتبة أنها من أسباب إقصائها وإبعادها عن مناصب كانت جديرة بتوليها.

ولئن استحضرت الكاتبة في (أوراقها) البعض من تلك الأحكام أو الانتقادات التي صدرت في شأنها, فهي لم تفعل ذلك لغاية تأجيج الخصومات والأحقاد ولا لتصفية الحسابات, بل اتخذت موقف الدفاع المشروع عن النفس وإلقاء الضوء على بعض المواقف, من ذلك ردها على من قالوا في شأنها: (إنها طالبة شهرة), أنا ما طلبت يوما الشهرة, ولكني أعمل في مجال الأضواء فحسب, وهذا قدري).

بقي في الأخير سؤال جوهري قد يخامر قارئ هذه (الأوراق), بما هي لون من ألوان الكتابة الذاتية - وذلك رغم إلحاح الكاتبة على تغليب الصبغة الموضوعية عليها - هل من حق القارئ أن يكوّن لنفسه صورة عن شخصية الكاتبة, قد تختلف عن تلك التي أرادت هي أن توصلها له? إن الاحتكام لتلك المقولة المتعارف عليها في شأن خروج الكتاب عن سلطة كاتبه فور نشره ليصبح ملكا لقرّائه, يجعلنا نقرّ بحق القارئ في أن يرسم هو الآخر صورة الكاتب التي حصلت له من خلال قراءته الذاتية, إذ لا يخفى ما تمتلكه التفاعلية الذاتية أثناء القراءة من تأثير, في إعادة إنتاج صورة الكاتب في خيال القارئ, بكل ما قد يسقطه عليها من أحكام وتحريفات أو تأويلات, مأتاها طريقته في قراءة ما تبوح به اللغة وما يحفر عنه القلم, مما قد يفاجأ به الكاتب نفسه. وسأكتفي في هذا السياق بلمحة موجزة عن صورة الكاتبة كما تمثلتها من خلال قراءتي لهذه (الأوراق): لقد استوت أمامي ملامح شخصية تستعصي عن كل مقارنة, وعن كل حكم جازم. تتراءى لي طورا شديدة الاعتداد بالنفس, متشبثة بالمبادئ إلى حد الصرامة, لا يثنيها عن قول الحق شيء, ولا تتسامح فيه حتى مع نفسها, ويصل بها هذا النهج الجاد لاتخاذ مواقف متصلبة. وهنا تحديدا, تعيش المواجهة مع الآخرين كأعنف ما يكون أحيانا, دون أن تخامرها فكرة المهادنة أو التراجع.

وتتراءى لي طورا آخر, شخصية عجيبة في لينها وأريحيتها ورحابة صدرها وتسامحها وقدرتها على الانسجام مع أدنى نسبة من الإيجابية فيمن تتعامل معهم, وذلك مراعاة منها لمتطلبات الظرف. ويبدو لي أن هذا المنزع الواقع أو البرجماتي الذي اختارته الشخصية بكثير من الوعي, فيما وصفته من مواقف وسلوك وقرارات, قد حقق لها نصيبا من المكاسب حتى وإن ظل دون ما كانت تتوقع وتأمل.

 

زهرة الجلاصي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الكتاب





في برنامج الأسرة





مقابلة مع النائب خالد المضف في رواق مجلس الأمة والحديث عن تمثيل الشعب ووضع المرأة فيه





إحدى ندوات جمعية النهضة العربية النسائية